لم تكن فرنسا تفكر مجرد التفكير في احتلال الجزائر، أيام الأندلس(شبه الجزيرة الايبرية)، أيام قرطبة ( cordoue ) واشبيلية ( céville ) وطليطلة ( Toledo) لأن شعاع الحضارة كان أقوى من أن تطال نوره أو تحجبه الظلمات ! وكان إنسان جنوب البحر المتوسط يتنعم بقسط وافر من الحرية والشموخ، وهو من دون ريب، سر معانقته مبكرا لشعاع الهداية الربانية التي ختمت بها الرسالات السماوية ؛ فرحت الأمهات وسرت لذلك كثيرا وسمت الطفل محمدا، و البنت فاطمة ! واستبشرت إفريقيا بذلك خيرا؛ ولم تكن الحدود حدودا؛ تفصل أو تعيق تعارف القبائل والشعوب، ولا الأعراق واللون لينال من القيم ! وعمّت الطمأنينة والرفاه في حدود بساطة الإنسان الذي استوحى من الطبيعة قوتها ورضع منها مناعتها، ولم يجرؤ الإساءة إليها في شيء ؛ سعد بذلك المغرب والمشرق قرونا ووصل إلى أوربا وآسيا سفراء الهداية حاملين أسرار الكلمة وأسرار الحركة وأسرار التمكين وكثيرا من معاني الأمن و الأمان . و لم تكن ثورة فرنسا 1789 سوى نتيجة موازنة بين عالمين، أو بين عالم يشع نورا و رخاء، وعالم يغط تحت جائحة الجوع والظلم بسبب انحراف الكنيسة وجور الإقطاع ؛ وبدل أن تهتدي فرنسا فقد تمردت، وبدل أن تشكر جحدت؛ وبعد نصف قرن غدرت، فاحتلت الجزائر التي أطعمتها من خيراتها ومسحت دموع جياعها؛ ومكثت قرنا وربع القرن تراوح مكانها ولم تفلح، لكنها لم تيأس! لأنها أدركت سر المعادلة من أيام الثورة التي جاءت في الأول من نوفمبر مفاجئة، و من الشمال القسنطيني والصومام مزلزلة، حيث تناغم الزمان والتراب والإنسان، وتحطمت على إثرها سياسة ” فرق تسد “، ولكنها لم تيأس! فعمدت إلى قراءة في التاريخ من جديد، واستعانت بأمثال المستشرق ” لويس ماسينيون” القريب كثيرا من دوائرها الاستعلامية، والبارع في كثير من الدراسات الانسانية والاجتماعية، وواحد من أعمدة إدارة رحى الصراع الفكري داخل حدود البلاد المستعمرة مغربا و مشرقا، و من رواد فكرة تشجيع الفقر الفكري والخلقي موازاة مع دعم الطرقية وقطع الطريق على علماء الأمة من أمثال رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؛ ولم يكن من باب الصدفة عرقلة ماسينيون لفيلسوف الحضارة مالك بن نبي و حيلولته دون مباشرته للدراسات الإنسانية في فرنسا !
وفعلا فقد كانت النخبة بعد هجمات 20 أوت 1955 بقيادة البطل “زيغود يوسف”، وتحديدا في ال20 أوت 1956 بقيادة البطل الفذ العربي بن مهيدي خير مؤشر على وعي أبناء الثورة، الذين مهدوا في اجتماع الصومام لصياغة ميثاق الثورة من أجل مجابهة السياسة الاستعمارية برمتها؛ وهو ما فهمته فرنسا الرسمية التي حركت سحرتها من أجل التضليل! ولم تتوقف عند ذلك الحد، حيث تسببت في تأجيج الصراع بين الأشقاء من خلال عملائها وعملياتها الإجرامية ضد الحاضنة الشعبية للثورة المباركة. والأكيد أن النخبة المباركة ضمن قيادة الثورة لم تكن تفرق بين تأريخ و آخر ( 1 نوفمبر – 20 أوت)، أو محطة وأخرى (الأوراس – الصومام )، وإنما المشكلة تكمن في السياسة الاستعمارية، و ما نتج عنها بخصوص فحوى اتفاقيات إيفيان، و مؤتمر طرابلس الذي لم يكتمل، ودفعة لا كوست، والتشويش والضغط بعد الإعلان على الاستقلال، وسياسات التكسير والتمييع والتعويم لمختلف القطاعات؛ كل ذلك حدث مع المعادلة التاريخية التي حدثت بخصوصها حرب ضروس فكرية أكثر منها عسكرية إلى يوم الناس هذا، حيث الضحايا بالملايين، والجزائر تمر بمنعطف لا يقل خطورة عن أيام الإعلان عن الاستقلال الأولى!