لقد شد انتباهي مرافقة السيد مصطفى حابس للدورة الــ 32 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتحديدا مقاربة موضوع التطرف من خلال ندوة حضرتها الجزائر ودول عربية أخرى تحت عنوان: التخلص من التشدد أو سبل دحر التطرف العنيف؟
1/ الحضور: سفراء وممثلو الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، أكاديميون وإعلاميون، ومهتمون في دائرة عالم الأفكار.
2/ المتدخلون:
* الدكتور حنيف القاسم رئيس مجلس إدارة مركز جنيف ووزير إماراتي سابق. خلاصة تدخله كما أشار إلى ذلك السيد مصطفى حابس: نحن بحاجة إلى فهم أكثر وضوحا بشأن هذه الظاهرة التي نواجهها حتى نتمكن من التعاطي مع العوامل التي تجذب الناس ـ خاصة الشباب ـ الانزلاق في أحضان التطرف العنيف. هذا الانشغال الذي بنى عليه الدكتور حنيف مداخلته هو جوهر مداخلة سابقة للمستشار الفدرالي السويسري ديدييه بور كهالتر في كلمته الافتتاحية أمام مؤتمر جنيف بخصوص ـ منع التطرف العنيف ـ يومي 7 و 8 أفريل الماضي، وأكد الدكتور حنيف القاسم الحاجة إلى البحث عن إجابة حول انشغال المستشار السويسري وهو بطبيعة الحال انشغال كثير من رجال الحكم والسياسة والعمل الدبلوماسي في عالمنا المعاصر، وفي الوقت نفسه يتساءل الدكتور حنيف عن علاقة التشدد بالتطرف العنيف، محاولا فصل هذا عن ذاك بقوله: هل التشدد هو المشكلة؟ فقد وجدت أحزاب متشددة في الغرب وفي مناطق أخرى من العالم منذ القدم. وعندما ينجح المتشددون فهم يشكلون حكومات عصرية، ويصبحون بالتالي جزءا لا يتجزأ من عملية سياسية سليمة. لذلك ” ينبغي التمييز بين هذا الصنف من التشدد وغيره من الجماعات الفوضوية أو الإرهابية “. لأن التشدد شيء مختلف، ولأن ” من يتبنى اليوم التطرف االعنيف هو الشباب المحبط أو المهمش الذي تمتصه سوق الإرهاب العالمية “. ويضيف: أن هناك اليوم إقرار عالمي بأن الوقاية هي أمر أساسي وأن فرض احترام القوانين بحيث تتماشى مع حقوق الإنسان وإن كان يشكل عاملا محوريا لمعالجة التطرف العنيف، فهو ليس سوى جزءا من الحكاية، وأن التطرف العنيف والإرهاب لا يمكن ولا ينبغي أن يرتبطا بأي دين أو حضارة أو جنسية أو مجموعة عرقية.
* مداخلة السفير إدريس الجزائري: جاءت كلمة سفير الجزائر في شكل سؤال، من خلال قوله: لا يمكن أن يكون الموضوع الذي اختير لندوتنا هذه أكثر قربا من الواقع الراهن حتى في الوجع الذي يحدثه فينا، إن التطرف العنيف الذي نشأ خلال الجزء الثاني من القرن العشرين على امتداد على ما يعتبر هنا أجزاء نائية من العالم قد ألقى بظلاله المظلمة اليوم على كافة بقاع الأرض وهو لا يستثني من الآن فصاعدا أية منطقة حاملا معه عبث الموت والدمار، كما أن الحصول الحر على الأسلحة المميتة دون رقابة قانونية في بعض البلدان جعل الأمور أكثر سوءا، وان التطرف العنيف يغذي الردود العشوائية المعادية للأجانب التي تغذي بدورها الدعاية التي تستخدمها الجماعات الإرهابية لتجنيد الشباب. وأن التحدي لم يعد تحد وطني أو إقليمي، وبالتالي معالجته لم تعد ممكنة من خلال استحضار الشعارات، كما أن استراتيجيات المواجهة المتبعة على المستوى الدولي ما تزال تعاني من نقائص جمة، وأن التطرف العنيف والإرهاب لا يمكن ولا ينبغي أن يرتبطا بأي دين أو حضارة أو جنسية أو مجموعة عرقية.
* مداخلة السفير بوجمعة ديلمي ممثل الجزائر لدى الأمم المتحدة: تمحورت مداخلة السيد ديلمي حول مبادرة الجزائر بعقد مؤتمر دولي في يوليو 2015 بخصوص العمل من أجل التخلص من التشدد ودحر التطرف.
* مداخلة ممثل الإمارات الدائم لدى الأمم المتحدة السفير عبيد سالم الزعابي: دعا السفير إلى إقامة وزارة خاصة بالتسامح الديني في بلاده.
* مداخلة الممثلة الدائمة للأردن سجى المحالي: ذكرت السفيرة مبادرة الملك عبد الله الثاني حول حوار الثقافات والأديان.
*مداخلة ممثل أذريبجان: ركز السفير على أن التطرف العنيف لم ينبع من العدم مشيرا إلى ضرورة دراسة الأسباب المتعلقة بسياسات الدول مبينا أن هذه الأخيرة جزء من المشكلة وينبغي أن تكون جزءا من الحل.
هذا الذي نقله لنا السيد مصطفى حابس مشكورا من داخل أروقة الندوة الـ 32 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، والجدير بالذكر أن السيد مصطفى سجل ما مفاده أن مقاربة موضوع التطرف العنيف خلال هذه الندوة لم تعط إجابات كافية وشافية، وهو فعلا محق في ذلك، ويقدم السيد مصطفى من باب الحاجة إلى تفعيل مثل هذه المقاربات مستقبلا من خلال تركيز المجهود الفكري حول دراسة محور بعينه يركز على سؤال التطرف والعنف كمشكلة إنسانية، حيث يقترح لذلك موضوع “الأمن الفكري للشباب” مؤكدا أن الأمن من أعظم النعم التي أكرم الله بها الإنسانية، وأن تطلعات شعوب العالم لذلك من أهم الغايات، وأن ذلك العمل ينبغي أن يتمحور على وجه الخصوص حول حماية الشباب من سموم الأفكار الهدامة، موضحا أن الأمن الفكري هو “حماية وحصانة للمنظومة الفكرية والعقدية والثقافية والأخلاقية للفرد والمجتمع” وأن ذلك هو الطريق إلى سلامة الفكر الإنساني عموما.
بادئ ذي بدء يمكن القول أن مختلف التعبيرات مثل: “تشدد”، “تعسف”، “تعصب”، “تطرف”، “إرهاب”، لم تلد مع الإنسان، وإنما هي مادة تراكمية بذورها محفوظة في عالم الأفكار، كثيرا ما تستخدم بطريقة أو بأخرى لتفسير بعض ردود الأفعال، غير أننا نجدها ماثلة كذلك في كثير من الأفعال، وسواء كانت هذه أو تلك فهي ذات صلة بهلع الإنسان، خصوصا حينما تحدث عملية التركيب التي تجريها شرارة الخوف في حالة الانطواء أو حالة الطغيان، والهلع المقصود في هذه الحالة هو خوف دون خوف، ليس هو الخوف الذي يحفظ للإنسان كيانه وإنسانيته وفطرته، وإنما هو ذلك الخوف الذي يضر بالإنسان في كيانه وفي إنسانيته، ولذلك فالخالق سبحانه اختبر الإنسان، فقد خيره ولم يجبره، خيره ونبهه، هداه بعد أن خيره، ولذلك نفهم من قوله سبحانه في الآية 10 من سورة البلد: “وهديناه النجدين” أي ميز له طريق الخير من طريق الشر، والإنسان أمام ذلك مخير، فإما الرضاء ومناط ذلك التزام حدود الله التي بينها لعباده من خلال أنبيائه ورسله، والإنسان في ذلك يكون شاكرا ومناط الشكر الخوف من الله ومناط الخوف من الله الخوف على كيانه وإنسانيته، فيتصل خوف الإنسان باختياره في كنف هداية الله بسلامة كيان الإنسان وإنسانيته، ليس وحيدا معزولا في الطبيعة وإنما في دائرة علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، هذا من جهة، أما في حالة عدم الرضاء يكون الإنسان غير شاكر وهو المعبر عنه بالكفر، والكفر هنا يعني عدم الرضاء، ومناط الكفر أو عدم الرضاء هو أيضا الخوف، لأن المسألة تبقى بمشيئة الله الذي جعل الإنسان مختارا، إلا أن الخوف النابع من فطرة الإنسان المعبر عنه في لغة القرآن بالهلع، هو استثناء، أي خوف دون خوف، وهو الحالة المعبر عنها في لغة القرآن بالجزع، ولذلك نجد أن عدم رضاء الإنسان بقسمته ونصيبه الذي ارتضاه له الله وهو كله خير، يترجمه الإنسان في حالة من الخوف تؤثر على كيانه وإنسانيته سلبا، ومثل هذه الحالة لا تتصل بالإنسان كائنا وحيدا منعزلا في الطبية وفق رؤية بعض الفلاسفة، وإنما في علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، إذ يتولد عن سوء تقدير الإنسان بسبب اختياره اهتزاز في علاقة الإنسان بالإنسان مما يولد ما عبر عنه القرآن شرا في قوله سبحانه: “إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا” (الآية 19) من سورة المعارج، والجزع هو نابع من خوف الإنسان المسمى هلعا، غير أن خوفه هذا غير مبررا ولا مستساغا، ولذلك فهو فعل في صورة رد فعل، أي هو طغيان في صورة الإنسان وهو غير راض بما قسم له خالقه، سواء كان ذلك على علم أو في حالة جهل الإنسان بسبب سوء تقديره دائما. أما الشق الثاني من انفعال الإنسان بسبب عدم رضاه مختارا، فهو حالة متقدمة من الخوف يتمثلها الإنسان وهو غير شاكر في دائرة ما أنعم به الله على عباده، ومناط ذلك عدل الله ورحمته بالناس وفي نفس الوقت دلالة الإعجاز الدال على وحدانية الخالق، إذ “لو كانت دنيا الناس تساوي جناح بعوضة عند الله ما سقى منها الكافر جرعة ماء، تلك الجرعة التي يمكن أن تدل العاقل على حاجة الإنسان إلى خالقه وحاجته في إنسانيته إلى هدايته سبحانه وتعالى”. ولذلك نجد الإنسان يسلك سلوك التطرف، أو التعصب، أو التشدد، أو الترهيب، أو اللجوء إلى البطش بالناس وسحقهم من خلال استعمارهم واستعبادهم والوصل إلى قتلهم، تتجسد تلك الصورة في الحالة التي يكون عليها الإنسان وهو على جانب من القوة، سواء تعلق الأمر بالمال أو السلطان، كصورة فرعون وهامان وكل من سار على دربهما في الحياة الدنيا، ولذلك جاءت لغة القرآن معبرة عن ذلك: “وإذا مسه الخير منوعا” نفس الآية 19 من سورة المعارج، وما قوة المال والسلطان إلا جانبا مما أنعم به الله على عباده، إلا أن الإنسان باختياره وعدم رضاه أصابه الهلع أي الخوف غير المبرر الذي ينتج عنه إلحاق الضرر بكيان الإنسان وبإنسانيته. ولذلك ليس غريبا أن يبرر بعض رجال السياسة والفكر والدبلوماسية بعض أوجه التشدد والعنف ولا يبررون غيرها، كما نجدهم يكيلون بمكيالين في دائرة حقوق الإنسان ذاتها. هذا ما ينبغي الوقوف عنده كثيرا حينما نتناول قضايا الإنسانية ومشكلاتها حينا بعد حين، وهذا ما ينبغي الوقوف عنده خصوصا في دائرة الحوار بين الأديان والثقافات، أو ما أطلق عليه الإنسان حوار الحضارات، خصوصا ما تعلق بالدعوة إلى توحيد الأديان في مؤتمر الأستانة الأخير بكزاخستان.
وفي هذه العجالة أذكر بأهمية موضوع القراءة التي أمرنا بها الله في سورة، خصوصا بالنسبة للذين يمثلون أمة التوحيد، أو يتكلمون باسمها في بعض الملتقيات الدولية، كما أذكر بأهمية الوقوف بكثير من الخوف من الله عند قراءة القرآن، كان نمر عل سورة كسورة “البلد” مرور الكرام، لنقرأ السورة، حينها سنشعر لا محالة وكأننا نقرأها لأول مرة: “لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)”.
إن مقاربة موضوع العنف والتطرف تبدأ من كون، أن سؤال الظاهرة ليس وليد أيام الناس هذه وإنما هو نابع من أول يوم اتصل فيه الإنسان بأخيه الإنسان (قابيل وهابيل)، ولذلك جميل حينما عاد بنا السيد إدريس الجزائري قليلا إلى خمسينيات القرن العشرين كحلقة في سلسلة انحراف الإنسان وطغيانه، وجميل أيضا حينما ذكر سفير أذربيجان أن التطرف العنيف لم ينبع من العدم مشيرا إلى ضرورة دراسة الأسباب المتعلقة بسياسات الدول مبينا أن هذه الأخيرة جزء من المشكلة وينبغي أن تكون جزءا من الحل.
أما قول السفير الإماراتي عبيد سالم الزعابي أو دعوته إلى إقامة وزارة خاصة بالتسامح الديني في بلاده وهو حر في اختياره، إلا أن تسامح الإسلام الذي اكتملت به دائرة التسامح في صورة من الجمال شهد بها التوراة ودل عليه الإنجيل وختم بها القرآن في قوله سبحانه: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (الآية 143) من سورة البقرة. إن مثل هذه الصورة المعبرة عن نفسها بنفسها، أو جمالية التسامح هذه، لا يمكن أن تسعها وزارة، أو هيئة من الهيئات.
أما ما ذكرته سفيرة الأردن سجى المجالي حول مبادرة الملك عبد الله بخصوص حوار الثقافات والأديان، ينبغي التذكير بأن مثل هذا الطريق محفوف بكثير من الأشواك المتصلة بممارسات الفاتيكان في علاقته بدائرة الأديان، إن على مستوى البيت المسيحي، وإن في دائرة علاقته ونظرته إلى الإسلام، ومثل هذا يمكن الوقوف عنده بكثير من القراءة من خلال المساهمات الجادة للسيدة الدكتورة زينب عبد العزيز من خلال منبر حر لمعهد الهوقار بجنيف.
ومن باب الملاحظة، يمكن أن نتساءل في دائرة سؤال التطرف العنيف في حياة الإنسان عن التضارب في رؤيتنا لحقوق الإنسان، خصوصا حينما يتعلق الأمر بمساهمات مجلس حقوق الإنسان بجنيف الذي نقدر مساهماته، فهل يمكن أن نتساءل، على سبيل المثال، ما هو تصورنا وتقييمنا ومن ثم موقفنا من الذي حدث في مصر من تطرف وتشدد وعنف وإرهاب؟ ألم يكن ذلك متصلا بحياة الناس وحقوقهم وحرياتهم، ألم يكن ذلك حلقة في سلسلة تطرف الإنسان العنيف، أو ليس ذلك من اهتمامات دوائر حقوق الإنسان، أم أن المسألة شيء آخر؟
إذا كان ولا بد من مساهمة جادة لمجلس حقوق الإنسان بجنيف الذي نتوسم فيه خيرا، فإن ما اقترحه السيد مصطفى حابس الذي أحييه من هذا المنبر الحر، بخصوص ربط مقاربة سؤال “التطرف العنيف” بمسألة الأمن الفكري في بعده الديني والحضاري، الذي يمكن أن يحفظ على الإنسان أمنه وأمانه وطمأنينته في جو التسامح والتآخي بين الإنسان وأخيه الإنسان.
كما يمكن مقاربة مسألة التطرف العنيف من خلال المقاربة التي نشرت من خلال منبر حر لمعهد الهوقار بجنيف نهاية شهر إبريل 2016 تحت عنوان: فكرة اللاعنف تحكم فكرة التدافع، وترجمت إلى اللغة الانكليزية: The concept of non violence rules the conflict.
بشير جاب الخير
29 جوان 2016