توضيحان قبل طرح تساؤلين:
أولا من المفيد تفكيك مخادعة الصهاينة المعهودة لتبرير جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية في غزة، فحرب الكيان الصهيوني، ليست ضد حماس كما تسوّق له، بل هي حرب هوجاء إجرامية ضد الشعب الفلسطيني قاطبة، تعليبها في قالب حرب ضد حماس يروم قتل الجميع تحت غطاء الدفاع عن النفس، ومحاربة الإرهابيين، مستندة في ذلك على تصنيف حماس من قِبل أمريكا وبريطانيا خاصة، أي القوى المهيمنة، على أنها منظمة إرهابية، ومن ثم مشروع إبادتها دون أن يرف لهم جفن أو تقديم أي دليل أو حساب.
وبالمثل، تصنيف ما يحدث في لنان حاليا على أنه حرب ضد حزب الله، يروم شرعنة ارتكاب المجازر ضد كل اللبنانيين، صغيرهم وكبيرهم، نساؤهم ورجالهم، دون تمييز بين طوائفهم، ضمن العقاب الجماعي (أو ما يعرف بعقيدة “الضاحية”، أي معاقبة الحاضنة للمقاومة، باعتبار كل اللبنانيين أهدافا مشروعة)، ودائما تحت مضلة مكافحة إرهاب حزب الله (طبعا المصنَف هو أيضا كتنظيم إرهابي من قِبل نفس الجهات). ومن نافلة القول أن كل من يتصدى للهيمنة الغربية الأمريكية، يوصف إرهابيا، أيا كان الفصيل والتوجه الذي ينتمي إليه، سواء إسلاميا، شيعيا أو سنيا أو مسيحيا أو درزيا أو حتى علمانيا (مثل منظمة التحرير الفلسطينية بمختلف مكوناتها)، كما هو الحال أيضا خارج العالم العربي الإسلامي في “الحرب الدولية ضد الإرهاب”، فكل دولة أو تنظيم أو جماعة أو حزب لا يخضع لجبروت الغرب، على غرار فنزويليا أو كوبا أو ما شئت، الجامع بين كل هذه الجهات، رفض الخنوع ومقاومة الهيمنة، الذي يحلل دماء أهلها.
التوضيح الثاني، بصرف النظر عن موقف أي طرف أو شخص من حزب الله (بناء على توجهه السياسي أو الديني الطائفي)، أو بناء على قراءته لما ارتكبه حزب الله في سوريا من جرائم ضد السوريين، إذ تختلف المواقف طرف إلى آخر، وكل له مبرراته، وإن كنتُ شخصيا اعتبر التدخل في سوريا بزعم محاربة داعش لا يستقيم، وأراه جريمة بحق الشعب السوري.
مما لا شك فيه أن الساحة السورية معقدة، اختلط فيها الحابل بالنابل، وتداخلت فيها الأطراف والدول والمصالح، وتعددت فيها الجماعات، منها المتطرفة، والمخترقة وصنيعة الأجهزة الغربية أو العربية، لكن هذا لا ينفي أن الشعب السوري مثله مثل الشعوب العربية الأخرى المقهورة، ضاق ذرعا بحكم آل الأسد، الحكم الإجرامي المتوارث وكأن البلد ملك للأسرة والطائفة، ومن ثم ليس من حق أي مُطالب بحرية الشعوب أن يحرم الشعب السوري من حقه في ذلك ومن انتفاضته السلمية التي استمرت أشهرًا كاملة تطالب سلميا فقط بتغيرات حقيقية تعيد لهم بعض السيادة والحقوق، لتجد نفسها في مواجهة الشبيحة ومختلف أجهزة أمن ومخابرات نظام الأسد بدعم من حزب الله وإيران. ومع ذلك استمر السوريون لشهور يعارضون سلميا قبل أن تنفلت الأمور لأسباب وعوامل وأطراف متعددة، منها الداخلية والخارجية، حتى تعفن الوضع وتحوّل إلى حرب قذرة لا تبقي ولا تذر هجّرت الملايين داخل البلاد وخارجه. والسؤال المطروح، هل وجود هذه الجماعات المتطرفة أو المخترقة ينفي وجود شريحة واسعة من السوريين تريد الانعتاق من الاستبداد؟ وهل من الأمانة والمصداقية اتهامها بأنها صنيعة النيتو والسي آي إيه؟ ففي هذه الحالة، يمكن قول نفس الشيء بالنسبة لكافة انتفاضات الشعوب العربية، أثناء الربيع العربي أو بعده، وخاصة فيما يخصنا في الجزائر؟ ألم يُقل أن حراك فبراير 2019 هو حراك النيتو والثورات الملوّنة بقيادة أمريكا والصهاينة وما شئت؟ إذن لا بد من التحلي بالموضوعية، وعدم الوقوع في الكيل بمكيالَين، وهو نعاتب عليه الغير في تعامله مع قضايانا.
بعد هذين التوضيحين، أطرح تساؤلين:
أولا، لو كنتُ لبنانيا، سنيا أو شيعيا أو درزيا أو مارونيا او علمانيا أو ما شئت، وأرى كيف أن الكيان يرتكب المجازر بحق الشعب اللبناني، دون تفريق بينهم، لا فرق بين الطوائف أو تمييز بين رجال ونساء وأطفال، محاربين أو مدنيين، وأرى أشلاء أبنائي وأفراد أسرتي وأقاربي وأحبائي من الأصدقاء والجيران، أجسادهم تتناثر في السماء تحت القصف الهمجي الجبان من طائرات الأف 35، ولا أحد يستطيع ردعه سوى مقاومة (حزب الله)، هل تموْقعي السياسي أو الطائفي أو انتقادي لموقف حزب الله من القضية في سوريا، يستدعي مني اللامبالاة إزاء ما يتعرض له الشعب اللبناني الشقيق، والأخطر من ذلك، التشفي والاحتفاء باغتيال عناصر من حزب الله “جزاء لهم على ما اقترفوه في سوريا” (وفقا لبعض مرضى القلوب)، وتبرير هذا الشعور على أساس “تسليط بعض الظالمين (الصهاينة) على البعض الآخر (حزب الله)؟
ثانيا، لو كنتُ فلسطينيا، من أي فئة أو فصيل في غزة، وأرى كيف بعد محاصرتي أكثر من 18 سنة، من القريب العربي المسلم قبل البعيد الغربي، ومنعي من أي دعم من أي جهة كانت، ولو بأساسيات الحياة من غذاء ووقود ودواء، ولا أقول السلاح، ثم أرى الجهة الوحيدة التي تخترق الحظر وتقدم الدعم هي إيران وحزب الله وأنصار الله اليمني، هل مطوب مني وأنا أتعرض يوميا منذ قرابة سنة، للإبادة الجماعية والعالم قاطبة يشهد ذلك، هل علي أن أرفض المساعدة من هذه الجهات أو غيرهم، فقط لأنهم… شيعة؟ وهل ألوم الشهيد إسماعيل هنية على زيارته لطهران وتلقيه قدرا من الدعم هناك، بعد أن أكل لحم شعبه العربان قبل الغربان؟
هل بإمكان بصدق وأمانة نفي أن الجهة الوحيدة التي تقدم هذا الدعم هي هذه الجهة، فحتى تركيا التي علّق عليها الكثير الأمل في نصرة أهل غزة، لم تجرؤ على تقديم المساعدة كما يتناسب مع حجمها (لظروف خاصة بها وهي أولى بتقديرها). وتركيا لم تتوّقف عند هذا الحد، بل تبيّن أنها في عز الإبادة كانت تمد الكيان بمواد مختلفة، ولم توقف بعض هذه الامدادات (وليست كلها) باتجاه الكيان، إلا بعد ضغط الشعب التركي الغاضب، وحتى هذا لتوّقف، تم التحايل عليه، من خلال استمرار الإمداد بطرق ملتوية، من خلال تغيير وجهات الإمداد كقبرص وغيرها، تحت أسماء مختلفة.
خلاصة القول، هل ما ذكرتُه هو تبرير لما فعلته حزب لله في سوريا؟ أبدا، هذه وقائع أنقلها ليس إلا، واعتقادي أن ما فعله حزب الله في سوريا لا يستقيم مع روح المقاومة، لأنه لا يمكن أخلاقيا دعم مقاومة هنا ومقاتلها هناك مهما كانت الذرائع، ولن تقنعني المزاعم التي تبرر ذلك على أن تدخل حزب الله في سوريا كان لمقاتلة داعش “عملاء أمريكا”، لأن داعش أصبحت شماعة يستخدمها كل من أراد تبرير مقاتلة خصم له، فحتى أمريكا تقاتل في الكثير من المناطق في الوطن لعربي والإسلامي، بحجة مقاتلة… القاعدة وداعش، ومن ثم لا يحق لحزب الله السير على نفس الطريق في تبريره ما فعله في سوريا. لكن مع ذلك، هل هذا يجعلني أدين أو بالأحرى أنفي أنها تشكل أحد أذرع السند الذي تتلقاه المقاومة في غزة؟ بالطبع لا، وهذا ما لا أوافق عليه بعض الإخوة والأصدقاء، وأعلم جيدا أن موقفي من حزب الله في سوريا قد لا يتفق مع بعض الإخوة الآخرين على الجهة الأخرى، لكن، من واجبي الأخلاقي أن أعبر عما أعتقده صحيحا بصدق، بما يجعلني مرتاح البال والضمير، مع تفهم موقف كل من يعترض عليه، باعتبار أن اختلاف المواقف يجب أن لا يجعلنا نخشى قول ما نؤمن به، مخافة النقد أو حتى التعرض للإدانة، فالواجب يفرض علينا قول ما نراه حقا وأمانة، ولو كان في حق الخصوم، مصداقا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة، 8)