عبد الحميد شريف، بروفيسور في الهندسة المدنية
قد يرى البعض أن الخوض في موضوع العقل والنقل غير مجدي وأن المجتمع في غنى عن فتن قد يثيرها، إلا أني أرجو أن يساهم المقال في إعادة النظر ولو بقدر قليل.
من المفارقات التي تشد الإنتباه وتدعو للتأمل ذلك الموقف لكثير من المسلمين عند تعارض العقل والنقل، حيث تُنسيهم العاطفة الغامرة أن أساس التشريف والتكليف هو العقل وليس التسليم للموروث. تمتزج العاطفة بتخوف مفرط من زيغ العقل رغم صفته التراجعية وبتزكية مفرطة للتاريخ وتغافل تام عن زيغ النقل رغم صفته الدائمة.
حالات التصادم معدودة وتتمثل في أحاديث منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم تتعارض مع القرآن (1-2)،
وإنها لمفارقة عجيبة أن الأمة التي تتوجس من يقظة العقل وتطمئن “لبراءة” التغافل هي التي يحث دينها على العلم والتدبر ويذم الغفلة والذهول. وما يزيد الأمر غرابة أن الموروث خضع عند جمعه لشيء من الغربلة من خلال تأكد السابقين من ثقة سلسلة الرواة، ثم يتخلى اللاحقون عن هذا الواجب بعد قرون من تاريخ لا يخلو مما يدعو للتثبت من صحة المنقول.
العقل والنقل لا يغني أحدهما عن الآخر
العقل السوي يُدرك محدوديته ويمتثل فطريا للتسليم بالإيمان بالغيب كما جاء في القرآن وبتفاصيل العبادات كما جاءت في السُنة (3-4)، ويعتبر معجزات الأنبياء الخارقة دليلا قويا وشافيا على صدق تكليفهم بتبليغ رسالة الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
معجزات الأنبياء توقفت والكرامات لا تخص إلا أصحابها، وهكذا يترسخ توظيف المؤمن لعقله في كل ما يُعرض عليه من جديد أو قديم كعبادة. قد يتسلل الزيغ في ذلك ولكن أخطر أنواع الوسواس يتمثل في التعطيل الطوعي للعقل وحظر التأمل في المعروض. إن لم يُكتسب بالتدبر فطلب العلم يتم بالقراءة والإصغاء ولكن لا تسليم ولا اتباع إلا بعد الفهم والاقتناع. لا بأس إن تعذر الفهم التام أن نثق في سُمعة المؤلف أو الخطيب لكن شريطة أن لا يكون المحتوى معارضا لحقيقة ثابتة.
إن إتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم وما يُنسَب إليه لا يمكن أن يكون على حساب العقل، فالتسليم بالمنقول المناقض للعقل أو لحقائق علمية هو تكذيب للقرآن وللسُنة وخروج عنهما.
التناقض الواضح بين آية وحديث يقتضي إبعاد أحدهما. البعض يقول بنسخ الآية والأصوب روحيا وعقليا وتاريخيا هو التحفظ على الحديث. إنها حتمية منطقية أن يكون كلام الله في الرسالة الخاتمة كتابا محفوظا، أما السُنة التي جُمعت بعد أكثر من قرن فلا يمكن إقصاء التأثير البشري مع حسن الظن بالجميع والتماس الأعذار.
القرآن يحث على التأمل والتدقيق في محتواه ويتحدى المتربصين (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)، ويُحذر من التسلل الحتمي لأخطاء الإجتهاد البشري خاصة في النقل التسلسلي كما حصل قبل الإسلام (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا). إن الغلو في التسليم للموروث دون تمييز هو وقوع في “وثنية النقل” التي هي أخطر من “زيغ العقل”.
اليقظة العقلية ليست من الحيلة والخداع بل من العبادة (كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ – وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ). والغفلة ليست من البراءة بل هي تقصير وظلم (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ – لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).
لا خير في الكسل الذهني والإستغباء بالتضييق على العقل، فاليقظة الفكرية هي أساس الفضيلة والنهضة. يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “إني أكره إيمان الأغبياء لأنه غباوة تحولت إلى إيمان، وأكره تقوى العجزة لأنه عجز تحول إلى تقوى. لا دين مع ضعف العقل وغش القصد وإن طال القيام والصيام”.
الإسرائيليات الحديثة وثقافة الخرافات
التسليم للموروث اللامعقول تشويش على العقل وعلى الإيمان، وتُنتِج هذه “الخصوبة” المتميزة بسهولة التصديق وغياب التدقيق مجتمعا قابلا للانصياع وراء الخرافات.
فَتحت جامعة تل أبيب الإسلامية أبوابها في 1956 لليهود فقط، لتمكين الموساد من إنتاج على مقاسه العالي “دُعاة إسلاميين”. لا يُتوقع أن يساهم الخريجون في القصف بالطائرات أو الدبابات ولا حتى في محاولة تشويه الإسلام والقرآن لأن اليهود يئِسوا من ذلك. مُهمتهم المؤكدة هي استغلال نقطة ضعف المسلمين وتزويدهم بخرافات تدغدغ عواطفهم وتعيق عقولهم وإدراكهم، ولا بأس إن ساهم ذلك في تسويق الشعوذة والشرك وفي ترقية الدراويش.
سمعت بالصوت والصورة الشيخ سلمان العودة، عجل الله في فك أسره، يروي رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم والحوار المثير للإهتمام الذي جرى بينهما. لم أتردد في تصديق رؤيته التي لا رسالة جديدة فيها للمسلمين ولا وصية، ولكن بما أن الكرامات خاصة بأصحابها وبمن يثق فيهم فأنا لا ألوم من يتحفظ على ذلك أو يُكذِّبه. ذكرت الواقعة لأني تلقيت من عدة أشخاص رسائل تواصلية تحكي عن وصية منسوبة للرسول صلى الله عليه وسلم من خلال رؤية أحد حراس المسجد النبوي. تُهدد الوصية بالوعيد كل من لا يقوم بنشرها وتمريرها لثلاثين شخص على الأقل. وتلقيت كذلك عدة فيديوهات من برنامج تليفزيوني مشهور بتقديم مواعظ وحِكم مُغلفة بخرافات. تبدأ القصة النموذجية على الشكل التالي: “يُروى أن رجلا كان عنده حمار …” ويستمر التخدير لعدة دقائق قبل أن ينتهي بموعظة أو مقولة معروفة لا تتعدى ثوان مثل “من حفر بئرا لأخيه وقع فيه”. وفي نفس السياق يتم التحمس والترويج لـ”معجزات” علمية أو طبيعية زائفة تُسيء للإسلام.
إنه استخفاف وتخدير للعقول وسلب للقدرات الذهنية بغطاء ديني. والأرجح أن هذا التلاعب بعقول العرب والمسلمين والضحك عليهم أغلبه إيحاءات إسرائيليات. لا نملك إلا أن ندعو الجميع للتدقيق قبل ترويج الخرافات المضرة بيقظة وإدراك المجتمع.
نصيحة لهؤلاء ونصيحة لأولائك
في مقال سابق (1) حول ظاهرة التمرد على التراث ذكرت أن الدفاع عن اللامعقول الثقافي والسكوت عنه ليس من الحيطة والحكمة ولا من الثبات الذي لا يُرجى منه إلا الثواب، بل هو تقصير ومن الأسباب التي تجعل الكثير في حيرة وبعضهم يتذمر قبل أن يتمرد.
يُلاحظ أنه عند خوض الكثير من الوُعاظ المحترمين في هذا الأمر يفقدون بريقهم بتفاديهم لُبّ الموضوع ولجوئهم للعاطفة الشعبوية وذلك لغياب الحُجة. بعضهم يُحذر من الزندقة والنفاق دون تمييز بين من يُنكِر السُنة كلها ومن يتحفظ عن أحاديث جد معدودة.
المفارقة في المرافعات المدافعة عن اللامعقول، واللاعقاب السياسي كما سنرى لاحقا، أن الإنطباع يتغير من الغضب الشديد إذا كان الخطيب يتعمد الإلتواء والمغالطة إلى الشفقة إذا كان مقتنعا بتعليله البائس.
من المُرجح أن التغاضي عن اللامعقول الثقافي والدفاع عنه بالخطاب العاطفي لا يؤثر كثيرا على الذين يدخلون الإسلام ولكن لا يُستبعد أن يكون له علاقة سببية ببعض الذين يخرجون منه. رحم الله الشيخ محمد الغزالي الذي كان يُلح على ثقل مسؤولية الوُعاظ: “إن الدعاة الصادقين يخشون أشد الخشية أن يكونوا عبئاً على رسالتهم أو سبباً للتحول عنها”.
النصيحة الثانية تخص المُعجبين بخطاب التمرد الكلي على السُنة النبوية والرجوع إلى القرآن والعقل. إن التذمر جائز وقد يكون واجبا لأنه من الإجتهاد والعبادة عدمُ التسليم للغير معقول، ولكن حذار من التمرد عن سُنة وسيرة المبعوث رحمة للعالمين. إن العقل لا يغني عن النقل شيئا في الغيبيات والعبادات.
حذار كذلك من المستغلين لتعارض العقل والنقل كذريعة للترويج للغل والإنسلاخ بالتركيز على السُنة النبوية وبالتأويل المغرض لبعض آيات القرآن (ما فرطنا في الكتاب من شيء – قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون / يفقهون). لا جديد عقائدي فيها وإنما جاءت سُنة المصطفى صلى الله عليه وسلم (العملية منها خاصة) والتي دامت 23 سنة، تفصيلا وتوضيحا لكتاب الله. ماذا نقول عمن يرى بعقله الحسابي أنه من الأفضل أن يصلي الظهر ثمانية ركعات لمضاعفة الأجر، أو يرى أن صلاة الجنازة بدعة لأن الغراب فرط فيها في القرآن.
إنه من إيمان العبد حُبه للرسول صلى الله عليه وسلم ولصحابته رضي الله عنهم، ومن صِدق هذا الحب أن لا نتحفظ على حديث إلا إذا تعارض مع القرآن أو مع العلم. إنكار السُنة هو إنكار لدور رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء في القرآن وهو بالتالي كفر صريح (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول – من يطع الرسول فقد أطاع الله – فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر). أين الإيمان بالله وباليوم الآخر برفض الرجوع إلى سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حذار من الوقوع في غفلة أسوأ من التي يتم التنديد بها. كما أن الهداية والفهم السليم جائزة الإيمان الصادق فإن حصاد احتقار آيات الله وتكذيبها هو الضلال المبين: “سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ” (الأعراف 146)
لا يُرجى من النصيحة أن تؤتي ثمارها بدون توبة حقيقية وتفاعل قوي مع ترهيب هذه الآية. اللهم اجعلنا من الهداة المهتدين. ورجوعا للنصيحة الأولى، فالتحذير من التفاتن يعني كذلك أن انسلاخ البعض بنكران السُنة لا يبرر الغلو في الإتجاه الآخر إلى حد تعطيل العقل والتسليم لما يُنسَب للمصطفى صلى الله عليه وسلم وهو معارض لكتاب الله، وخاصة وأن التغافل لا يخلو من أعراض جانبية باهظة التكلفة.
اللامعقول يجد ضالته في السياسة
إن أكبر المستغلين لثقافة التغاضي عن اللامعقول هم الحكام في العالم العربي الإسلامي وحاشيتهم، إذ يشجعهم تغافل المجتمع وقابليته لتصديق الأوهام على تجاوزات شنيعة وفساد كبير. العقود الأخيرة مليئة بنماذج تفوق الخيال وبقوانين تحمي اللاعقاب وتمنح امتيازات فاحشة لكبار المسؤولين، وما لم يتم كشفه قد يكون أبشع.
إن فقدان الثقة في العقل هو أخطر ما أصاب المسلمين، وعجزهم عن تسمية الأشياء بأسمائها من اللامعقول الموروث سيبقيهم خارج الحضارة وسيظل ينتج الفساد ويصنع متغافلين مستعدين للعب كل أدوار الإستبداد، جلادون ومؤيدون ومتفرجون. وهل جزاء التغاضي عن اللامعقول الثقافي إلا اللامعقول السياسي؟
ثقافة التغاضى عن اللامعقول ومضاعفاتها السياسية تؤدي حتما لتهميش العقول المستنيرة والنخب الحقيقية التي لا يمكنها الإنخراط في ذلك وتؤدي لترقية عقول ونخب أخرى وتحميلها ما لا تطيق، ولذلك لا غرابة في وجود من هو مكبوح عن تثمين التميز ومن يرى أن ما بعد مستواه الفكري غرور وضلال.
إن ثقة المسلم في عقله مِن ثقته في ربه ومِن الأخذ بالأسباب للتوكل عليه، وهو امتثال وإعداد العُدة لحمل الأمانة قدر المستطاع، وعدم ثقته في عقله هو نكران لجميل التكريم وتفريط في الأمانة مع سبق الإصرار. وفي كل الأحوال سيبقى المجتهد المخطئ خير من المتغاضي عن اللامعقول والذي لا يجد في وحشته إلا الحُجة الباطلة الأزلية “وجدنا أباءنا كذلك يفعلون”.
ختاما يجب التذكير بأن عدم توقع اللامعقول في سلوك وتفكير البشر إنكار لضعف النفوس وتجني على الخيار الحر. وبقدر صعوبة علاج اللامعقول المتأصل ثقافيا بقدر ما هي صعبة نهضة الشعوب التي لا غنى لها عن يقظة عقلية تمهيدية مثابرة خارج السرب إلى حين لا يعلمه إلا الله.
اللهم اهدنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك ولا تجعلنا فتنة للذين كفروا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وإن عارضه أو خذله آخرون
وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه وإن سانده أو سكت عنه آخرون
المراجع:
1/ https://hoggar.org/2022/02/11/محمد-شحرور-بين-التجديد-التنويري-والان
2/ https://hoggar.org/2020/01/16/الحرية-والرِّدة-والخيانة/
3/ https://hoggar.org/2020/04/19/الخرافات-تعويق-للإدراك-وتسويق-للإشرا/
4/ https://hoggar.org/2020/02/10/لا-وسطية-في-الدين-ولا-نهضة-حضارية-بدون-ا/ https://www.facebook.com/search/top/?q=abdelhamid%20charif%20لا%20وسطية%20في%20الدين%20ولا%20نهضة%20حضارية%20بدون%20العقل%20والنقل