بادئ ذب بدء، لا أدعي اختراع العجلة، ما أذكِر به هنا، تحدث عنه الكثير، وقد اشرتُ إليه شخصيا في مناسبات عديدة، لكن، ارتأيت العودة إليه، نظرا لتطور الوضع، وتكاثر التساؤل “ما لحل، ما العمل، أين المخرج؟
ألم يحن بعدُ، الوقت لنتعلم الدرس من التاريخ وتجارب الأمم؟ ألم نتعب من تجريب المجرب وتكرار المكرر، والغرق في التراوح وحالة الاستئناف المستمر، أو ما يسميه البعض بالصفرية؟
أشير مرة أخرى، وأصر على أن الموضوع الذي يهمنا والمحنة التي تطحننا، لا تختصر في أشخاص، بعينهم، مهما كان فسادهم وجرائمهم، والدليل أن حتى مع ذهاب بعضهم أو جلهم، لا نزال في نفس الوضع، وحتى لو هلكوا جميعا، فلا يعتقد المرء أننا سنتحول بقدرة قادر إلى حالة عافية وهاء، لأن ببساطة، الأرضية والمنظومة التي أنجبت هؤلاء المجرمين، لا تزال قائمة وستنجب أمثالهم، وتستنسخ فيالق منهم، عملا بسنن الكون التي لا تعرف تبديلا وتغييرا.
تذكيري بهذه النقطة، يعود بالأساس إلى ما صرح به الكاتب الخاص لقائد الأركان قايد صالح، في شهادته، وإلى ما احتوته من معلومات خطيرة لكن غير مفاجئة، كونها معلومة لدى معظم المواطنين، لكن، خصوصيتها وخطورتها، تكمن في كونها موّثقة بالتفاصيل التي يمكن التأكد منها، وصادرة عن أحد أبرز الشهود عليها.
جاءت هذه لشهادة الإضافية، لتؤكد لنا أن القضية أكثر وأعظم وأعمق، من مجرد أشخاص عبثوا بالبلاد والعباد، ولا تختصر في تطاحن عصب شرسة قادرة على إهلاك البلاد والعباد للانتصار على خصومها، ونستنتج من هذه الشهادة أن الحل ليس في فوز طرف على آخر، بل سيمكن ذلك، المنتصر من إحكام قبضته والاستمرار في شمولية حكمه الفاشي، وقد رأينا عندما فازت عصابة وجدة، أو ما يسمى بجيش الحدود على خصومهم من “المركزيين”، كيف فعلوا بالبلاد وأذلوا قومهم واستعبدوهم. إن المعضلة الأصلية والموضوعية والعميقة، ليس في فسادهم كأشخاص، مثلما أن الحل ليس في استبدالهم بأشخاص “جيدين”، مهما كان صلاحهم وعظم كفاءتهم.
قلبُ المسألة إذن وجوهرها، يكمن، في طبيعة المنظومة التي تسيّر بها الابلاد، منظومة عصابية عشائرية فاشية، لا تربطها صلة لا بمرجعية أيديولوجية أو فكرية محددة، ولا الشرعية الشعبية ولا بمنظومة قيّم ومبادئ، بل نحن أمام منظومة قائمة على الولاء بالأساس المسنود باحتكار العنف ووسائله التي يفترض أنها للدولة وحمايتها، وليس لخدمة العصابات وعصبهم والمنتفعين معهم، ولاء لِمن يحمل السلاح والمال، ويخضع للأوامر، إنها منظومة تكن للشفافية والمساءلة، عداء شرسا، تجعل من تنظيم الشعب لصفوفه والتعبير عن حقوقه وحريته، جرائم “سياسية” وخيانة يعاقب عليها بقانون، لقضاء يأتمرون بأوامرها، معينين من أجهزتها. هنا تكمن المشكلة والمرض الدفين المتوارث منذ عبر الأجيال منذ فجر الاستفلال وحتى قبله بسنوات قليلة.
لماذا الخطر في مثل هذه المنظومة؟ لأنها هي التي تشكل الأرضية وتوفر الأدوات التي تسمح للمجرمين “الكامنين” بتنفيذ جرائمهم، مطمئنين بعدم المتابعة والملاحقة ومتيقنين من الإفلات من كل عقاب، بل مطمئنون بأن ترقيتهم تعتمد أساسا على مدى حجم جرائمهم، وكلما زادت شراسة الجريمة، تسلق صاحبها أعلى المراتب، ولا عجب أن نرى من كان سائقا عند ضابط سامي، يتحوّل جنرالا، على رأس مركز للتعذيب. لنا أن نسأل افتراضا، مجرد مثال، لو كان الجنرال شنقريحة يعلم أنه تحت مجهر الرقابة النزيهة، في ظل نظام شفاف مستقل، هل كان سيمسح لابنه شفيق باستعمال نفوذ والده لتسلق المراتب واحتكار الصفقات وجمع الأموال الطائلة بطريقة غير شرعية؟ والشيء مثله بالنسبة لتكديس ربراب ملايير الدولارات، عبر شراء شركات الدولة بالدينار الرمزي واحتكار بيع الزيت والسكر بفضل شريكه توفيق، وكذلك الأمر بالنسبة لحداد وطحكوت وعولمي ولقايد صالح والهامل ونزار والآلاف من أباطرة الحكم؟ بكل تأكيد كانوا سيحجمون عن ذلك، ليس ورعا، بل خشية متابعة تضعهم في السجن، بحكم عادل، لذا لا أحد من هؤلاء، ولا من أسلافهم ولا ممن سيلحقون بهم، يريد أن يعرف المواطن، كيف تسير الأمور وتُجمع الأموال وتوّزع الصفقات وتتم لترقيات والتعيينان، ولهذا السبب نشاهد كيف يخوضون بكل شراسة وعنف، مستخدمين وسال الدولة وأطرها، حروبا طاحنة، بحجج مضللة، ضد إقامة دولة العدل والقانون، التي تقوم على الشفافية، ألد خصومهم، وأفتك أعدائهم.
من هنا يتبين لنا لماذا يتشبثون ببعبع الإرهاب وسفينة “مكافحة الإرهاب” ومدى حاجتهم الى ذلك، ولو اقتضى الامر اختلاقه وتكوين جماعاته، لأنه بعبع يدفع عنهم مطلب الشفافية، ويسمح لهم بمواصلة جرائمهم بعيدا عن الأنظار، وهل كان بإمكان ربراب على سبيل المثال، المحاسب البسيط في شركة وطنية، شراء شركات بأكملها واحتكار الصفقات بملايير الدوارات بقروض تزكم الأنوف، في وقت كان الشعب يذبح ، هل كان ذلك يمكن أن يقع ذلك لو لم يتم التستر عله، ومحاصرته بسياج قاتم تحت ذريعة مكافحة الإرهاب وسلسلة من المجازر المرعبة، وهل كان بإمكان شكيب خليل ان يستنزف اموال الدولة من صفقات سوناطرك التي لم ير منها جهاز توفيق اي شيء كونه غارق في تنظيم صفوف الإرهاب ومكافحته في الوقت نفسه، ولا رؤية فضائح مشروع الطريق الساير للوزير عمار غول والعشرات من الجرائم الأخرى التي ما كان لأصحابها أن يقترفونها لولا “مصباح علاء الدين السحري” (مكافحة الإرهاب) الذي عتم على كل شيء، وما كانت تلك الجرائم التي أفقرت العباد، لتحدث في ظل الشفافية.
مشكلتنا ليست لأن لدنا مجرمين أكثر، وليس لأن شراستهم أكبر، وفاسدهم أقوى من سواهم في باقي دول العالم، بل معضلتنا ومحنتنا، أن مجرمينا، يستطيعون تنفيذ ما لا يستطع مجرمون أخرون في بلدان خرى اقترافه، لأن نظام الشفافية عندهم والمحاسبة أكبر رادع لإجرامهم، وهو ما يبقي إجرامهم كامنا، غير منفذا، ولا يعتقد المرء أن الغرب والدول المتقدمة عموما، يسكنها ملائكة وصالحون، يتورعون عن الفساد والإجرام، فيحجمون عن ظلم الناس ونهب أموالهم بفجاجة كما يفعل مجرمونا، بل الرادع الذي يلزمهم بذلك ويحبط نزاعتهم الإجرامية الموجودة لدى كل إنساء بفطرته، هو أنهم يعرفون ومتأكدون أنهم يعيشون في نظام حكم، يضعهم تحت الأضواء الكاشفة، التي تخصي عليهم أنفاسهم، وتفضح أعمالهم، بل وتحاصر حتى مجرد من تسول له نفسه تناول عشاء، وإحالة الفاتورة إلى خزية دافعي الضرائب، فتجعله يندم شرد ندم على صنيعه، وينتهي به الأمر إما بإقالته أو استقالته. والشيء مثله بالنسبة لمنتخبيهم، والتزامهم بالقانون وإيلاء رأي المواطن كل اهتمام، لأنهم يعلمون، أنهم في نظام شرعي شفاف، تعود فيه الكلمة والسيادة للمواطن، فهو من يعينهم وهو من يعزلهم أو يطيح بهم حتى قبل انتهاء ولايتهم في حالة عدم الوفاء بعهوده الانتخابية أو اقترافه محظورا يعاقب عليه قانونيا، هذا الذي يجعلهم أول من يلتزم بالقانون، والعكس عندنا، إذ يعلم “المنتخبون” من هو صاحب نعمتهم ورشوتهم، الذي “انتخبهم” خارج الصندوق وبعيدا عن أعين الشعب ورأيه وخياره، ومن ثم يدركون أنه ليس هو من أوصلهم إلى مناصبهم، ولا يستطيع الإطاحة بهم، ولا يدينون له بمناصبهم. وباعتبار أن منظومة الحكم المفروضة بالحديد والنار والمال، هي التي تسمح بهذه الممارسات، يجعل هذه الطبقة السياسية والثقافية والإعلامية والمالية، أحرص على استدامة هذه المنظومة أكثر من القائمين عليها.
لهذا كله، لا يساورني أدنى شك، بأنه في ظل منظومة فاسدة ولو كان على رأسها “صالحون” من أتقي وأكفأ الناس، ما استوى حالنا وما تعافت جراحنا، لاستمر الوضع كما هو، لأن القاعدة السُنَنِية تخبرنا “لا يستوي الظل والعود أعوج”، بالمقابل، إذا توّفرت منظومة صالحة، بمشاركة المواطنين، من كل الفئات، دون تمييز أو إقصاء، بشفافية ونزاهة وعدل، فلا يجب أن نخشاها، حتى لو تقاذفها تنوّع مشاربها، أو تسرب إليها، في أعلى المناصب، أعتى الفاسدين، لأن هذه المنظومة تحمل من القوة والقيم ولمبادئ والآليات، التي تجعلها محصنة وقادرة على تدارك الوضع وإصلاح نفسها بنفسها، وهذا أساس العمل الديمقراطي الذي يتطور، ويحسن من أدائه وعمله، عبر التجارب والأخطاء والتصويب، نظام لا ينفي الاختلاف ولا حتى التصارع أو المشاكل الطارئة، لأنه مستقر ومسلح بوسائل تمكنه من معالجة أي طارئ بطرق شفافة سلمية ونقاش شامل، كفيل برأب الصدع، ومواجهة الحقائق بشجاعة وتبصر وحكمة، وقد ورأينا فعلا كيف استطاعت دول المؤسسات الشرعية، بأنظمة العدل القانون، أن تستمر في البقاء رغم اعتلاء رئاستها أبشع من فيها.
أعطوني نظام شفاف، اقضي على معظم جرائم القوم، حتى قبل أن يهموا باقترافها، ومن دون سجون أو مِحن.