كانت جمعة لهزيمة القمع.. بحركة بسيطة وعبقرية اختارت السلمية في العاصمة أن تغير مساراتها التي اعتادت عليها منذ سنتين لتكسر كل محاولات القمع وتلتف على خطة تقطيع أوصال العاصمة من أجل كسر صورة طالما أرعبت السلطة وفشلت كل محاولات التعتيم عليها وتغييبها.
المتظاهرون القادمون من باب الواد لم يأخذوا مسارهم المعتاد الذي يمر عبر شارع خميستي ونهج باستور ليلتف على الجامعة المركزية ويلتحق بساحة أودان وشارع ديدوش مراد، اختاروا أن يمروا عبر نهج عميروش الذي حرصت قوات الشرطة على إغلاقه منذ عودة المسيرات في 22 فيفري الماضي، وعادوا مجددا إلى شارع حسيبة الذي كان قد شهد قبل ذلك توافد المتظاهرين القادمين من أول ماي نحو البريد المركزي.. بقي رجال الشرطة الذين أغلقوا شارع ديدوش عند ساحة أودان يراقبون مجموعات صغيرة من المتظاهرين كانت تنتظر وصول مسيرة باب الواد.. الحدث كان في مكان آخر والرسالة وصلت متأخرة “ديدوش خليناهالكم اشبعوا بيها “، الحركة كانت في الاتجاه المعاكس حيث تدفقت الجموع عائدة إلى ساحة أول ماي ومنها إلى بلوزداد.
اليوم ذهبت السلمية إلى شوارع في العاصمة لم تشهد مظاهرات منذ فيفري 2019، ذهبت إلى أولئك الجزائريين الذين تهفو قلوبهم إلى السلمية وتتردد أصداء شعاراتها في قلوبهم لكنهم لسبب أو لآخر لا يشاركون في المسيرات، على مسار تجاوز تسعة كيلومترات كان أبناء الأحياء المطلة على شارع محمد بلوزداد يستقبلون المظاهرة بفرح ظاهر، أعلام ترفع من الشرفات، ونساء وأطفال يرددون الشعارات التي يحفظونها عن ظهر قلب، وفي الشارع يلتحق المزيد من الناس بالمظاهرة ويسيرون بكل عفوية.
على طول شارع بلوزداد، وهو من أطول شوارع العاصمة، لم يصادف المتظاهرون قوات الشرطة، كانت الخطة قد انهارت مع تغيير مسار المظاهرة، لم تعد هناك مسارات، طريق واحد ومظاهرة واحدة بهدف واحد يجمع تحته كل التنوع الذي مثلته السلمية منذ 22 فيفري وما تزال تحمله بهذا الإصرار على انتزاع الحرية التي يجب أن تشمل الجميع.. من الشرفات وعلى الأرصفة كان الماء يأتي باردا لينعش متظاهرين لم ينل منهم التعب رغم الحر ومشقة الصوم.
غابت الشرطة ولم تحضر الفوضى ولا العنف، وبهذا يتأكد جوهر السلمية التي لا يمكن أن تواجه القمع بالعنف، إنها ثقافة متجذرة، وحركة تاريخية متغلغلة في أوساط الجزائريين تتجاوز بكثير مجرد المشاركة في المظاهرات.. اليوم رأينا انخراط من كنا نحسبهم مستقيلين من الشأن العام، ورأينا الحجم الحقيقي للرفض الشعبي لهذا النظام المهترئ، وتأكدنا بأن كل ذلك الطوق الأمني الذي يضرب على العاصمة كل جمعة لا فائدة ترجى منه، وسلوك المتظاهرين أثبت أن السلمية ليست خيار الخائف بل هي خيار القوي المقتنع بعدالة قضيته، وعلى مسار المظاهرة حرص المشاركون على تسهيل مرور السيارات إلى أن وصلت إلى مخرج شارع بلوزداد.. حينها كانت قوات الشرطة قد وصلت من الجهة الأخرى وأغلقت الطريق تماما لتظهر الوجه الحقيقي لهذه السلطة وأساليبها البدائية، وكان الرد عودة المتظاهرين من حيث أتوا.
آخر جمعة من رمضان كانت مفاجأة كبيرة، فيها طرقت السلمية أبواب من كانوا يعدون من المتفرجين ففتحوا لها القلوب، وجددوا الولاء لمطلب التغيير وأن لا عودة أبدا إلى ما قبل 22 فيفري.