“الحراك انتهى”، “بقايا الحراك”، “ما بعد الحراك”، “نيو-حراك”، “الحراك المختطف”.. كل هذه العبارات تحولت إلى ثوابت في خطاب السلطة والمتحدثين غير الرسميين باسمها، ومنذ انتخابات 12/12 سيطرت هذه العبارات على مئات المقالات، وحضرت بشكل يومي في وسائل الإعلام رغم توقف المظاهرات لفترة قاربت السنة، وعندما عادت المظاهرات استمر ترديد هذه المقولات وكأنها رجع صدى قادم من مكان مقطوع عن الزمن.
ما شهدته العاصمة خلال الأسابيع الأخيرة من قمع واعتقالات في صفوف المتظاهرين يؤكد أن السلمية حية وأن السلطة تريد اغتيالها بكل ما أوتيت من قوة ومكر، وهذا الإصرار يفرض طرح أسئلة حول حقيقة ميزان القوى؛ هل فعلا استمرار المسيرات لا يقلق السلطة كما قال تبون؟ وهل فعلا هذه المسيرات غير مجدية ولن تحقق أي نتيجة ولن تحدث التغيير الذي يسعى إليه الجزائريون؟ الإجابات عن هذه الأسئلة يقدمها سلوك السلطة.
منذ الثلاثاء 27 أفريل ظهرت نية السلطة في إنهاء المسيرات في العاصمة بالقمع والاعتقالات التي طالت العشرات، وقد أكد التحرش بالمتظاهرين السلميين في العاصمة يوم الجمعة هذه النية، ويوم الثلاثاء الرابع ماي حدث إنزال غير مسبوق لقوات الشرطة تسبب في إغلاق تام لوسط العاصمة لمنع مسيرة الطلاب التي يشارك فيها مواطنون، وقد مثل هذا السلوك مفارقة غريبة باعتبار أن المقصد من فرض الترخيص لأي مظاهرة في العالم عدم تعطيل حركة المرور ومصالح الناس، لكن المقصد في الجزائر مختلف تماما وهو سلب المواطنين حقهم الدستوري في التظاهر، ويجري سلب هذا الحق بغلق عاصمة البلاد ومنع الدخول إليها كلما كانت هناك مظاهرة أو احتجاج دون اكتراث لنتائج ذلك.
لا تبدي السلطة أي اهتمام بثمن وقف المظاهرات، فغلق الشارع بالنسبة لها بات هدفا استراتيجيا لأنه يتعلق بحظوظ نظام الحكم في البقاء والاستمرار، فبقاء الشارع مفتوحا يعني احتمال تسييس كل الاحتجاجات ذات الطابع المهني والاجتماعي حيث يمثل الرد الذي قدمته الحكومة على مطالب المضربين بوصفها “مستحيلة التحقيق” وأكدته مجلة الجيش لاحقا، تأكيدا بأن الاحتجاجات الاجتماعية أصبحت الهاجس الأول للسلطة التي بدأت تشعر بحجم الأزمة الاقتصادية وآثارها، وبقاء الشارع مفتوحا في هذه الظروف سيجعل القول باستحالة تحقيق المطالب دعوة صريحة للالتفاف حول مطلب تغيير نظام الحكم الذي يمثل أصل السلمية وجوهر أهدافها.
لا يختزل القمع الذي تمارسه السلطة في مواجهة مظاهرات السلمية بل يتعداها إلى الطريقة العنيفة التي تجابه بها الاحتجاجات؛ عنف في الخطاب والقرارات، فقد اتهمت وزارة الداخلية، وبعدها مجلة الجيش، المحتجين بانهم يخدمون جهات حاقدة على الجزائر ويسعون إلى ضرب استقرارها، ثم جاء قرار إيقاف 230 من أعوان الحماية المدنية ومتابعتهم قضائيا ليعطي إشارة على ما تتوعد به السلطة المحتجين في مختلف القطاعات.
إن الإسراع بإنهاء المظاهرات يمنح للسلطة فرصة التقاط ورقة العنف التي حيدتها السلمية، عنف لم يعد بالإمكان استعماله بقمع للحشود بل التحول إلى استعماله ضد الأفراد الذين يتم تصنيفهم كمشوشين بعد عزلهم والاستفراد بهم، عنف يستعمل أيضا ضد النقابات التي تجرؤ على الاحتجاج بعد أن “جرم” الخطاب الرسمي هذا الحق ووضعه في مرتبة التآمر على البلد.
هذا العنف والقمع الذي يمارس في صمت لم يعد ممكنا في ظل بقاء الشارع مفتوحا، وهذا القمع هو الأداة الوحيدة التي بقيت في يد السلطة بعد الإعلان الصريح بعدم وجود حلول.
من هنا تصبح السلمية ضمانة تحمي الجزائريين من عنف السلطة وجنونها، وهي ليست ضمانة لهؤلاء المقتنعين بمواصلة التظاهر من أجل التغيير فحسب، بل هي حماية لجميع الجزائريين وفي مقدمتهم أولئك الذين تعودوا على دفع فاتورة الفشل المزمن لمن سيروا البلد منذ عقود.. السلمية حماية للجزائر وهي أيضا حماية لمن يتولون أمر هذا البلد من أنفسهم وجنونهم.
نجيب بلحيمر