الأزمة التي نتخبط فيها منذ صائفة 62 هي أزمة سياسية، تكمن جذورها في فقدان الشرعية، وحلها لا يمكن أن يكون إلا حلال سياسيا، أولا وأخيرا، ولن ترسو سفينة الجزائر إلى شاطئ الأمان طالما استمرت المناورات وسياسات الهروب نحو تكرار المكرر، أو استنساخ الوصفات العبثية المدمرة، وما هبّة 22 فبراير، إلا إحدى المحاولات الشريفة والمدركة لهذا الوضع، لإصلاح ما أفسدته العصابات المتتالية.
منذ انطلاقة ثورة الشعب في 22 فبراير، وجد الجزائريون أنفسهم مخيرين بين حلين أساسيين، أحدها “دستوري” يدفع باتجاه انتخابات رئاسية بعد انتهاء رئاسة بن صالح المؤقتة، وبعد تأجيلين بضغط من جماهير المواطنين المنتفضين، انتخابات يقودها قائد الأركان (الرئيس الفعلي للبلاد آنذاك، قايد صالح)، مدعوما بجزء من الطبقة السياسية والاجتماعية والثقافية، باعتبار أن هذا المسلك أأمن للبلاد ويجنبنا جميعا الوقوع في “فراغ دستوري” محفوف بالمخاطر. وبحكم الأمر الواقع، تمت الانتخابات، و”انتُخِب” الرئيس المعين من أصحاب الشأن بمقاطعة شعبية منقطعة النظير (الغائب في مستشفيات ميركل)، ثم عُدِل الدستور بعزوف شبه تام من المعني الأول المفترض “الشعب الجزائري”، وتجري التحضيرات منذ أسابيع على قدم وساق للانتخابات المحلية والتشريعية، في أجواء سريالية، عنوانها الأبرز الملاحقات والاعتقالات وتكميم الأفواه، مما زاد من حالة الاحتقان وشلل المؤسسات.
أما الحل الثاني المطروح منذ بداية الحراك، ولا زال يفرض نفسه بإلحاح، هو الحل السياسي، الجامع، التوافقي، يشمل كافة مكونات المجتمع، للانتقال إلى دولة القانون؛ حلٌ سياسيٌ يستمر المنادين به، ويكررون دعوتهم إليه، لأن لا حل ينقذ البلاد غيره، ولأن المشكلة سياسية بالأساس وليست دستورية مزعومة، والدليل الذي لا ينكره إلا مستفيد من الوضع الراهن أو من ران على قلبه، أننا لا زلنا نراوح مكاننا في مشاكل لا أول لها ولا آخر، رغم “انتخاب” الرئيس، و”تعديل الدستور” والإعلان عن “الجزائر الجديدة”.
هذا التباين بين “الحلين” أحدث نوعا من الشرخ بين من يمكن تسميتهم بأنصار “الحل الدستوري”، أي الذين يعتبرون أن انتخاب رئيس جديد كفيل بحل الأزمة، ويصرون على ضرورة البقاء في إطار الدستور، وعلى الجانب الآخر، أنصار “الحل السياسي”، الذين طالبوا منذ البداية ولا زالوا، بضرورة المرور بمرحلة انتقالية، سياسية، جامعة غير إقصائية، من أجل تغيير منظومة الحكم برمتها.
عمليا نحن نعيش “مرحلة انتقالية” (حتى وإن رفض أصحابها تسميتها كذلك) منذ تولي بن صالح الرئاسة المؤقتة، بعد أن رفض الشعب العهدة الخامسة وتمديد الرابعة ثم رفض انتخابات 4 جويلية، وإلى غاية تنصيب تبون، مع فارق بارز، وهو أن المرحلة الانتقالية التي يطالب بها أنصار الحل السياسي هي مرحلة يديرها طاقم لم يكن له يوما يدا في ما آل إليه الوضع، ويعود تسييرها إلى شخصيات نزيهة تحظى بتوافق وقبول معقول من المواطنين ولا ينتمون لفئة “يتنحاو قاع” من الذين أفسدوا الحرث والنسل، ولا ينتمون إلى منظومة الحكم التي يطالب الشعب بدفنها إلى غير رجعة، في حين أن هذه “المرحلة الانتقالية” التي نعيشها بحكم الأمر الواقع (ومباركة مكرون وتشجيعه) تخضع بالمطلق للنظام القائم وآلياته وقوانينه وأجهزته.
في ضوء كل ذلك لنا أن نسال، ما الذي يخشاه أنصار “الحل الدستوري” (أو ما تبقى منهم، خاصة بعد “انتخاب” الرئيس و”تعديل” الدستور، وما تبعه ذلك من خيبة أمل فئات عريضة وسط هذه الفئة)، ما الذي يخيفهم في المرحلة الانتقالية بمشاركة فعلية ممن يختارهم المواطنون؟ دعونا نحاول النظر في هذه المخاوف بقدر من الموضوعية.
بصفة عامة، تتوجس أطراف أربعة رئيسية من المرحلة الانتقالية (بطبيعة الحال يمكن إحصاء اطراف أخرى، بمبررات أخرى):
طرف أول من المواطنين، يعتبر الحل السياسي الذي يقود إلى مرحلة انتقالية، حل محفوف بالمخاطر، كون تسيير هذه المرحلة سيؤول “حتما” إلى أطراف نافذة تنتمي في معظمها للأقلية الأيديولوجية الساحقة (التي تتحمل مسؤولية كبرى على العشرية الدامية) وأن مثل هذه الوضعية قد تفتح الباب لتدخل قوة أجنبية تفرض على البلاد نمط من المرحلة الانتقالية التي تخدم مصالحها ومصالح أتباعها. إلى جانب ذلك، تتوجس هذه الفئة من المواطنين من عدم وضوح الصورة حول المرحلة الانتقالية وكيفية اختيار التشكيلة التي تسيرها ومدى شرعية صلاحياتهم وكيف يتم تعيين رئيس للمرحلة الانتقالية. وهؤلاء متى اتضحت أماهم الصورة، واستعادوا الثقة في قوتهم وقوة إخوانهم، في المبادرة وقدرتهم على التأثير وإسماع صوتهم، عكس ما تروجه توابع الدهاليز، من الوهن وإقناع الناس بعدم قدرتهم على توحيد صفوفهم وقلب المعادلة، خاصة بعد أن تبين، سراب من باعوهم “الحل الدستوري”، فلا شك، أنهم سيعيدون تقيمهم للوضع وللحلول المطروحة، لأن الأصل عندهم والمنتهى هو سلامة البلد، ولا شيء غير ذلك، وهؤلاء بالمناسبة، يشكلون من حيث العدد، الجزء الأكبر من المواطنين، ضمن هذه الفئة المتخوّفة من “الحل السياسي”.
إلى جانب هذه الفئة التي تجمعنا بهم، حرقة البلد ونجاته، حتى وإن اختلفنا مرحليا في السبل إلى ذلك، نجد أصناف أخرى، تسعى بكل الطرق الماكرة إلى منع جلوس الجزائريين مع بعضهم البعض، للتوصل إلى حل توافقي، يستجيب للمطالب المشتركة الأساسية بينهم:
أولها المتطرفين من كل جانب، الذين يزايدون في خطاباتهم الأيديولوجية التي عاف عنها الزمن، ويستثمرون في زرع الكراهية والفوبيا المتبادلة، لتحقيق القطيعة، خدمة لأجندا خاص بهم، لأنهم يدركون أن التقاء فئات المجتمع بتنوعها وحتى اختلافاتها، مع بعضهم البعض، يكشف خديعة تضخيم هذه الخلافات المزعومة التي تعمق الهوى وتسبب التنافر بين فئات المجتمع، ومثل هذه اللقاءات المباشرة بين الناس، كفيلة بتعزيز التقارب والتفاهم، وبذلك تنسف محاولات نافخي الكير الرامية إلى دق أسفين بين أطراف المجتمع، والحيلولة دون جلوسهم حول طاولة واحدة، للتحدث مباشرة دون وسيط أو وكيل، مثلما برهنت على ذلك لقاءات الحراك على مر شهور.
ثانيا، عصابات لنظام المتحكم، التي طالما وظفت الاختلافات وضخمتها عبر منابرها الإعلامية لمواصلة إحكام قبضتها على الشعب وتخويف المواطنين من مغبة فتح صندوق بندورا، والتسويق لنفسها باعتبارها الضامن للأمن والاستقرار، مقابل تخلي المواطنين عن حرياتهم، لأن البديل عنها، هو الخراب، ودليلها في ذلك، استحالة اجتماع فئات المجتمع حول طاولة واحدة دون أن ينفجر الوضع حسب ما تروج له، وقد رأينا كيف تصرف النظام بتشنج وهستريا في أعقاب انعقاد لقاء روما مثلا (العقد الوطني 1995)، بعد أن كشفت الأحزاب والشخصيات السياسية المختلفة، أنها تستطيع (عكس مزاعم السلطة) الحديث مع بعضها البعض باحترام وتفهم، من أجل خير وسلامة البلاد، فجاء رد السلطة، على لسانت وزير خارجيتها يوماك أحمد عطاف، الذي وصف اللقاء باللا حدث ورفضه “جملة وتفصيلا”، وكان سبب تلك الهستريا أن اللقاء تم أولا خارج سيطرة السلطة ومخابرها، وثانيا، عرى مزاعم السلطة عن استحالة تفاهم الجزائريين مع بعضهم البعض، بل وذهب جرك العصابات إلى حد اتهام شخصيات وطنية معترف لها بالنزاهة، مثل المرحومين عبد الحميد مهري وحسين أيت أحد والأستاذ علي يحيى عبد النور، بالخيانة.
والطرف الثالث، جزء من المجتمع، يؤثرون الأمن والسلامة على “المغامرة” خاصة تحت تأثير وسائل الإعلام التي تضخم مخاوف المتطرفين وتروج لرواية السلطة المستحكمة، هذه الفئة من المواطنين تخشى المرحلة الانتقالية وتعتبر أن جلوس أطراف متناقضة حول مائدة واحدة من شأنه أن يفجر الوضع ويدخل البلاد في حروب لا نهاية لها. بل ذهب الخوف بالبعض، تحت تأثير التضخيم والتهويل، إلى حد استهجان بل واستغراب إمكانية جلوس “الإسلامي” و”العلماني” و”الوطني” و”الديموقراطي” وأصحاب رؤى مختلفة ومشاريع متباينة مع بعضهم البعض، وأن مثل هذه اللقاءات قد تسهم في تفجير الوضع وتدخل قوى أجنبية تدعم كلا منها أنصارها، وتضع البلاد على مهب الريح.
وردا على هذه المخاوف “المشروعة” من جهة والتخويف الوظيفي، من جهة ثانية، لا بد من توضيح ماذا يعني جلوس الأطراف الجزائرية حول مائدة واحدة.
- بادئ ذي بدء، الجلوس حول طاولة واحدة أمر طبيعي، فهم جزائريون في المقام الأول، يعيشون في وطن واحد ويتقاسمون مصيرا واحدا، بل جلوسهم مع البعض هو السبيل إلى الحل، فإذا كانت الدول المتحاربة تجلس مع بعضها البعض في نهاية المطاف للإنهاء القتال والتوصل إلى تسوية ما، فمن باب أولى أن تجلس فئات الشعب الواحد لتنهي أزمة البلاد؛
- ثم إنهم جزائريون لهم نفس الحقوق والواجبات ولا يوجد أحد أكثر وطنية من الآخر إلا بقدر التزامه بالقانون واحترام الغير، وليس من حق أي ومنهم أن ينفي وجود الآخر أو يتجاهله، ناهيك عن العمل لإقصائه بأي وسيلة كانت؛
- هذه الفئات موجودة في الواقع ولا يمكن أن نتصرف وكأنها غير موجودة، الاعتراف بوجودها والجلوس معها والاستماع إليها أفضل من إدارة الظهر وإنكار الواقع، الذي إن لم يفجر الوضع يطيل التنافر؛
- الحوار فيما بينها مهما كانت تناقضاته وسخونته يشكل الطريق والوسيلة الوحيدة الكفيلة بإصغاء بعضهم إلى البعض مباشرة، وتفهم مخاوفهم، المشروعة أو المنفوخ فيها من قبل أطراف غير بريئة، لأن البديل هو الاقتتال؛
- الجزائر متنوعة في تشكيلتها البشرية، ولا بد من قبول هذا التنوع وجعله مصدر ثراء بدل من نفيه والعمل على كبته أو محوه بطرق شتى، وأن تُعبِر مكونات المجتمع عن نفسها بالكلمات خير من أن تلجأ إلى غيرها إذا سدت أمامها هذه السبل؛
- تجلس كل الأطراف لتسمع إلى بعضها البعض مباشرة دون أن تتدخل أطراف أخرى لتشويه وتضخيم مواقف الأطراف لتعميق الخلاف ومنع فرصة الإصغاء إلى بعضهم البعض؛
- إن جلوس الأطراف مع بعضها البعض يجنب تدخل أطراف أخرى في المعادلة، ومنها الجيش (أو جهات خارجية) مثلما يتخوف منه البعض، حوار الأطراف يحمي الجيش وينأى به عن التدخل مما يعزز تماسكه، في المقابل تنافر الأطراف وتعميق الخلاف بينها عبر جهات إعلامية أو أقطاب نافذة، هو من يجر الجيش في كثير من الأحيان نحو مستنقع الخلافات السياسية ويزج به في مجالات لا تعنيه مثلما ورطوه في انقلاب يناير 92؛
- جلوس الأطراف مع بعضها البعض وسيلة لتغير طريقة حل الأزمات وتفضيل الحوار والاحترام وقبول الغير بدل تجاهله أو إقصائه والتحريض عليه؛
- جلوس الأطراف المتصارعة لا يعني أنها تذوب في بعضها والبعض وتتخلى عن مواقفها، ولا يعني كذلك أنها ستنشئ مشروعا مجتمعيا تفرضه على الشعب، وليس صحيحا أن المرحلة الانتقالية مطلب لائكي أو غربي وإنما هو مجرد وسلة تقنية للعبور من نظام مرفوض مفروض إلى آخر مطلوب توافقي، إن طبيعة الدولة التي ستنشأ شأن جسيم تعود الكلمة فيه فقط للشعب، من خلال ممثليه بعد ان توّفَر الظروف التي تمكنه من اختيارهم بكل استقلالية وحرية وشفافية. فهذه اللقاءات في إطار المرحلة الانتقالية لا تصبو سوى إلى تعبيد الطريق وتهيئة مثل هذه الظروف التي تمكن الجميع من التعبير عن رأيه في حرية وأمن واحترام دون إقصاء لأحد؛
- أكبر هاجس لدى هذا الفريق أنهم أقنعتهم بعض الجهات أنها مرحلة يُعدل أو يغير فيها الدستور دون استشارة ورأي الشعب، في حين هذا الأمر ليس من اختصاص وصلاحيات الهيئة الرئاسية، بل يتم عن طريق استفتاء شعبي؛
- التشكيلة للمرحلة الانتقالية أمر تقني يتم التفاهم بشأنه بطريقة توافقية، من بين الشخصيات الوطنية المشهود لهم بالنزاهة والغير متورطين في أي من أعمال الفساد والإجرام، ويلتزمون بعدم الترشح لأي استحقاق انتخابي على الأقل لمدة خمسة سنوات ( مثلا أو وفق ما يتفق حوله) لمنع عامل الطموح واستخدام النفوذ. تكون مهامها محددة وفترة زمنية معينة للإشراف على الانتخابات الرئاسية وعندها تنتهي صلاحية هذه الهيئة مباشرة عندما يقسم الرئيس الجديد القسم الدستوري.
عندما نتحدث عن ضرورة وإمكانية التوافق، فالأمر ليس ضربا من الخيال ولا تمني هلامي ولا سذاجة، بل غاية في الواقعية والحتمية، التي تفرض على الجميع تحكيم العقل والقلب معا.