الأيام والأحداث المتتالية، كلها عوامل تصقل التجارب مثلما يصقل النار المعادن النفيسة.
على مر الأيام والأسابيع وتسارع الأحداث، منذ 22 فبراير 2019، شهدنا حركة سقوط ونهوض مستمرة، ولوج وخروج، إقبال وإدبار، وقلب الجلود، وكلها، أشياء عادية في تاريخ البشرية، لا يجب أن تفاجئنا أو تصدمنا، بل العكس، لا بد أن تزيدنا ثقة في مسارنا لأنها تؤكد لنا سنن الحياة في شكل امتحانات، منها الفائز وآخر ساقط.
في هذا المسار رأينا صنفا ضمن الحراك، ناضل بقوة من أجل “التغيير”، الذي تلخص عندهم في إسقاط عصابة التوفيق واليناريين عموما، باعتبارهم أصل الداء ورمز الاستبداد والخراب (وهم بالفعل جزء كبير من هذا الوباء الذي نخر جسم البلاد)، ثم اخلد هذا الفصيل إلى الراحة مطمئنا بعد اعتقال بعض رموز العصابة الينارية، ليرتموا في أحضان من رأوا فيهم المخلصين والمصلحين والمنقذين للجزائر، فمالوا كل الميل دعما ومساندة وتنزيها لمعسكر قايد صالح، مما حدث للبلاد من أهوال، فأنهوا حراكهم فور ذلك، وراحوا ينتقدون بل ويتهمون من واصل الحراك، ونعتهم بالخونة الذين “يساندون مجرمي العشرية السوداء”.
شهدنا بالمقابل صنفا آخرا “تعززت” به صفوف الحراك، فصيل على النقيض من الأول، راح يناضل بشراسة ضد من اعتبرهم “عصابة قايد صالح”، ومنددا بالدولة العسكرية، التي لم يروها عندما كانت تحت دبابة توفيق وطرطاق وتواتي وغزيل ونزار، بمساندة ربراب وسعدي وعسلاوي وغول وبوجرة سلطاني وغيرهم. وشهدنا كم كانت إدانتهم قوية و”جريئة”، ضد “عسكرية” قايد صالح، و”شدة مطالبتهم” بدولة مدنية، وما إن عاد نزار فاتحا وأفرج عن توفيق حاكما، حتى زحف القوم تمجيدا وارتياحا للإفراج العادل عن أبناء الجمهورية البررة الذين اعتقلوا “ظلما”، من قبل قايد صالح.
حراك هاذين الصنفين، أو ما يمكن أن نسميهم مجازا، بحراك اليناريين وحراك النوفمبريين، كان حراكا ملوّنا أيديولوجيا، من اجل انتصار عصاب (تنا) على عصاب(تهم)، وكان حراكا انتقائيا في الإدانة وانتقائيا في الدعم، وحتى التغيير الذي كان الفريقان ينشدانه لم يكن تغيرا جذريا يعيد السيادة للشعب بكل فئاته، ويضع حدا للعصابات، أيا كان توجهها أو لونها أو شعاراتها، التغيير بالنسبة لهؤلاء، يعني أن يحل كل طرف محل الآخر، ليس إلا، وهو ما أثبتته الأيام والمواقف المتكشفة تباعا.
الأن وقد مرّت على الحراك كل هذه الشهور، وسقطت كل هذه الأوراق النخرة، وتبينت، نية ومبتغى كل طرف، لم يبق في ساحة الحراك، سوى الذين ناضلوا ولا زالوا من اجل الجزائر بكل فئاتها، وقاوموا الظلم والعصابات بكافة أشكالها وألوانها، لم يبق سوى الذين دفعوا ثمنا ولا ينتظرون جزاء ولا شكورا، حراكيين لن ينكسروا بفرار هذا الصنف أو ذاك من الساحة، لأن قوتهم في عدالة قضيته ومشروعيتها، وهذا أعظم استثمار لهم، والوقود الصافي الذي يسمح لهم بمواصلة النضال، ولن ينل تخاذل المتخاذلين ولا تثبيط المثبطين ولا إرهاب سدنة المعبد، من عزيمتهم ولا جهودهم، إنهم المواطنون العاديون ببساطة، الذين يتقدمون الصفوف عند الشدائد والمحن، ويتوارون عن الأنظار عند الولائم وتوزيع نياشين الأمجاد، إنهم ذخر وفخر هذا الشعب، بهم تقوم جزائر الاستقلال قيد الاكتمال، وطوبى لهم.