اضطررت للهجرة في ذكرى عيد الاستقلال، وها أنذا أعلن عن رغبتي في العودة في ذكرى اندلاع الثورة التحريرية.
كم هو مؤلم أن أضطر للهجرة إلى فرنسا، التي احتلت بلدي لأكثر من قرن … وأترك كذلك أولادي وهم يبكون… وأترك والدي على فراش الموت، وقد توفي ولحقته أمي ولم أحضر جنازتهما…ومات من بعدهم المئات ممن أعرفهم من أهل البلدة والقرى المجاورة وولدت أجيال من بعدي….
كم هو مؤلم أن تجد الأمن والأمان وسط الكفرة والمشركين، وتشتري منهم وعينك مغمضة، ولا ترتاح في المقابل إلى من يتشدقون بالإسلام.
اخترت ذكرى عيد الاستقلال لهجرتي سنة 2001 بعد أحداث القبائل المؤلمة… تعبيرا عن امتعاضي، وسخط على الأوضاع التي كانت تعيشها الجزائر… بعد طردي من العمل ومنعي من النشاط السياسي وغلق محلي التجاري، ورسالة متعمدة موجهة إلى من كانوا ولا يزالون يتشدقون بالاستقلال.
لن أروي لكم تفاصيل ما عشته كلاجئ سياسي في فرنسا، وما حدث لي أثناء فترة لجوئي من تعذيب نفسي، نتيجة وفاة الكثير من الأقارب…وترقبوا ذلك في كتاب في المستقبل إذا ما طالت الأعمار…
سأروي فيه معاناتي ومعاناة اللاجئين بشكل عام، وأوضاعهم النفسية التي يحار فيها الأطباء. و الكتاب عبارة عن شهادة وبحث في الموضوع…يفيد الأطباء والجمعيات الحقوقية، والمهتمين بشأن اللاجئين في العالم، وطالبي اللجوء. تحدثت وعارضت النظام الجزائري، وشاركت في الاحتجاجات يوم أن كان الرصاص يخترق الصدور والأمعاء. وعارضت الانقلاب ومن قاموا به في السر والعلن، ومن ساعدوهم على ذلك.
تحدثت وعارضت يوم أن كانت التلفزة واحدة، وكان خطاب بوتفليقة وحيدا يفطر عليه الناس وينامون به في السنة الأولى من حكمه…تحدثت يوم كان بوتفليقة لا يكاد محرك الطائرة يتوقف عن الدوران…
تحدثت يوم أن عمّ الصمت، وعمّ الخوف وعمّ الجبن، وعمّ الجحود…وتحدثت يوم أن كان الحديث عن المختطفين يسوق أصحابه للسجون.
اليوم، بعد أن فتح الله على الجزائريين بعشرات القنوات، وعشرات الصحف، والأنترنت، والهواتف النقالة والتطبيقات المختلفة، وأصبح بإمكان جميع الجزائريين التحدث…إلا من أبى…وتحطمت الحدود.
اليوم، بعد أن أصبح سفيان جيلالي وعبد المجيد مناصرة وزوبيدة عسول ووووو معارضين للنظام، ويطالبون بلجنة مراقبة الانتخابات ووووو بعد أن كانوا بالأمس أعضاء في المجلس الاستشاري الذي حل محل البرلمان المنتخب، وأدخل النواب المعتقلات والسجون ومنهم من أعدم ومن منع من المشانق والمحاكم الخاصة فرّ بجلده إلى الخارج.
اليوم، بعد أن أصبح عمار سعداني يصفع الجنرال توفيق وضباط فرنسا بعد أن كان جنديا عندهم.
اليوم، بعد أن أصبح أنيس رحماني… يهين كبار ضباط المخابرات على قناة النهار ، وعلى رأسهم رب الجزائر كما يلقبه البعض “الجنرال توفيق…”
اليوم، بعد أن أصبح علي بن فليس، وأحمد بن بيتور … معارضين وينشدون الحريات، وهم من شاركوا بالأمس في حظر الحركة التي كنت عضوا مؤسسا فيها ومنعوا المسيرات…سواء بالصمت أو بالتواطؤ…وكانوا موظفين لتطبيق برنامج بوتفليقة.
اليوم، بعد أن أصبح محمد السعيد بلعيد الأمين العام لحركة الوفاء المحظورة وزيرا للإتصال… ويرأس حزبا جديدا…بعدما كان يعيب على أخي الأكبر حضوره في التلفزة لأن ذلك سيشوش على صورة الحركة كون أن التلفزة رسمية…
اليوم، بعد أن أصبح عبد العزيز بلعيد يرأس حزبا معارضا، بعدما وقف مع عصابات الموت إبّان التسعينيات، عندما كان يرأس تنظيما طلابيا …. ويلقب بالدكتور وهو لم يمارس مهنة الطب.
اليوم، بعد أن أصبح ابن عباسي مدني يمارس الإقصاء في قناته المغاربية، على من كانوا بالأمس يقدمون أرواحهم رخيصة في حزب الجبهة الإسلامية، ويفتح أبواب القناة لمن كانوا بالأمس يمارسون تكميم الأفواه.
اليوم، بعد أن أصبحت خليدة تومي وعمارة بن يونس وعبد المجيد سيدي السعيد وعلي حداد موالين للنظام…
اليوم، بعد أن شاهدت بعيني من عائلات المختطفين من باعوا قضيتهم وفضلوا الدنيا الفانية…
اليوم، بعد أن أصبح من يفتح صفحة على الفايسبوك وينشر صورا ينتهك فيها الأعراض ويدمر أسرا بكاملها يلقب بالشجاع…
اليوم، بعد أن أصبح جنرالات كان مجرد ذكرهم يؤدي إلى المسالخ … يساقون كالخرفان إلى السجون.
اليوم، بعد أن أصبح ضباط ومخبرون امتهنوا الاحتيال والخيانة والابتزاز والغدر… يسوقون على أساس أنهم معارضون في الخارج، وأصبح المختل عقليا يسوق على أنه ناشط سياسي، ومصلح العجلات على أنه باحث في الشؤون الإستراتيجية…
اليوم، بعد أن أصبح الكاتب الشاذ فكريا مبدعا، والمفكر الذي يستشرف المستقبل مشعوذ…
اليوم، بعد أن أصبحت أمة اقرأ تحسد الأمم الأخرى على القراءة…
اليوم، بعد أن أصبحت أمة الطهارة تحسد الأمم الأخرى على النظافة…
اليوم، بعد أن أصبح الطبيب يحتاج إلى طبيب، والدواء يحتاج إلى دواء، والمستشفى يحتاج إلى مستشفى، والمرشد يحتاج إلى مرشد، والإمام يحتاج إلى إمام، والأم تحتاج إلى أم …الخ.
اليوم، بعد أن اختلط على الناس الفرز بين الموالي والمعارض…واختلطت المفاهيم إلى درجة أن أصبح الناس لا يفرقون بين النقد والاتهام، وبين الصرامة والاستبداد، وبين الحياد والجبن… وبين الموضوعية والوشاية…
اليوم، بعد أن كان الخلل في النظام، تحول الخلل إلى فئات كبيرة من الشعب. وأصبح المواطن يعيق التغيير بنقص وعيه. أصبح لا معنى لا للمعارضة ولا للموالاة في غياب الوعي.
اليوم، بعد أن أصبح المهرج والبلطجي والمرتزق شخصية وطنية…
اليوم، بعد أن أصبح الكلام في متناول الجميع، بعد أن كان محرما في وقت سابق.
أعلن طلاقي مع اللجوء السياسي، وسأعود إلى الجزائر متى ما توفرت الظروف.
ملاحظة: كنت ضد النظام ولازلت، ولا أنتمي لأي جهة، وكنت مع مصالحة حقيقية، ولا زال هذا المبدأ قناعة ويقينا أحملهما.
أعرف مسبقا أن هناك من سيبكي عند ملاقاتي شوقا، ومن ستزغرد، ومن يطلق البارود… كما أعلم يقينا أن هناك من يسعى لغدري وتشويهي بطرق مختلفة في الداخل كما في الخارج ويسره موتي.
نور الدين خبابه 1 نوفمبر 2018