أدت التطورات المتسارعة على جميع الأصعدة إلى إحداث نقلات نوعية وكمية في الواقع المعيش، مما يجعلنا نقف مذهولين أمامها سواء بعدم قدرتنا على استيعابها أو بعدم إمكانية اللحاق بها معرفيا وسلوكيا.
إن التكاتف والتشارك الإنساني باختلافاته العقدية والفكرية وحتى المرفولوجية في صنع هذا الواقع وجعل التغيير أكثر سلاسة وأوسع انتشار وأكثر تقبل لم يجد لحد الآن أي عائق أمامه يحد من انتشاره المتسارع ويكبح تغلغله في جميع مناحي الحياة.
وتتمثل أهم الأدوات المساهمة في هذا التطور الوسائل التكنولوجية وخاصة تكنولوجيات الإعلام والاتصال التي تشهد توسعا وتطورا لا نظير له على المستوى العالمي.
هذه الأخيرة ساهمت في كثرة المعلومات وانتشارها بسرعة وعدم التحكم بها وبالتالي عدم القدرة على تحليلها معالجتها والتي تسمح بإعطاء القراءة العقلانية والموضوعية لها. الأمر الذي قلب النظرة إلى الحياة ونمط العيش، حيث أن القدرة على تقديم نموذج حياة معين بطرق سريعة وبشكل متواصل وعام تجعل منه أنموذجا يحتذى، يسعى الكثير إلى تبنيه ومحاولة محاكاته بشتى الوسائل حتى العنيف منها.
في خضم هذه الطوارئ (النوازل) غير المتحكم بها لا مؤسساتيا ولا مجتمعيا وحتى فرديا، ينحى الإنسان نحو الانعزال أكثر أو نحو التهميش سواء بإرادته أم من غير وعي منه، على اعتبار أن التغيرات الواقعة لا تصب أغلبها في صالحه حواء المادي أو المعنوي وحتى الأخلاقي.
من هنا يأتي التطرف باختلاف أنواعه: ديني، عرقي، طائفي، سياسي… هذا التطرف يأخذ في الانتشار والاتساع على المستوى العالمي. حيث يلاحظ أنه تطرف متبادل سواء من قبل الأفراد والجماعات والذين يعتقدون في انتهاك خصوصياتهم بشتى الوسائل كالعنف المادي (الحرب مثلا)، أو غير مادي مثل العنف الاجتماعي المبني على العرق أو الدين. يقابله في الجانب الآخر العنف الرسمي المشروع والقانوني الذي تمارسه الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، حيث يتميز بمشروعيته وتبريراته المختلفة والتي في كثير من الأحيان تولد أنماط جديدة من العنف وتوسع من حيوه الجغرافي.
و التساؤل الذي يطرح هو كيف استطاع الإنسان أن يجمع بين التطور والتقدم من جهة وبين التطرف والتهميش من جهة أخرى؟ إن هذه الإشكالية تجد جوابها في الجوانب الفكرية والعقدية والرمزية أكثر منها مسائل مادية لأن هذه الأخيرة تبقى وسيلة ولا ترقى إلى غاية.
إن أول أسباب التطرف هو الخوف، الخوف من الآخر على اعتبار اختلافاته بشتى تركيباتها الجسدية والدينية والإقليمية وغيرها، هذا الخوف ناتج عن تزكية الذات بمختلف مكوناتها في مقابل احتقار واستصغار الآخر والحط من شأنه ومن كل ما يمثل هذا الشأن.
الخوف وحده يولد الشعور بالتقديس تقديس الذات، تقديس مكوناتها المادية والمعنوية، الاجتماعية والرمزية وبالتالي إلغاء الآخر، مما يساهم في الشعور بالتعالي عن كل ما هو مختلف عن هذه الذات وتركيباتها مما يساهم في تعزيز الإقصاء والتهميش. الأمر الذي يؤدي إلى محاولة فرضها على الأخر المختلف عني وهنا تبرز إلى الوجود أعلى درجات الخوف وهو العنف، هذا الخير يمارس بشتى الوسائل وبطرق عديدة منا الظاهر ومنها الخفي كل هذا في سبيل السيطرة على الأخر وجعله خاضعا لذاتي ومكنوناتها.
هذا الآخر لن يبقى متفرجا بل سيكون له رد فعل، رد فعل ناتج عن الخوف هو أيضا. فخوف من الإقصاء والتهميش وخوفه من الخضوع سيولد له نزعة دفاعية قد تأخذ العنف خاصة المادي منه منهجا لها مما يعزز من الاضطراب والقلق الاجتماعيين. فهو سيسعى لتأكيد ذاته وتثبيت وجهت نظره أما دفاعا وإما هجوما. وفي كلا الحالتين فهو يعتبر في موقع ضعف على اعتبار أن الدفاع يجعله في حالة تبرير لوجوده أما الآخر الذي يحاول إخضاعه كلية، أما الهجوم فسيعزز مقولة الآخر الذي يستهجنه ويستهجن مكوناته التي تنم عن عدائية أكبر.
كل هذا يصب في خانة واحدة وهو أن التطرف وليد الخوف وأن الخوف مبني على أمور ذاتية يسعى الفرد من خلالها إلى تأكيد وجوده وتعزيز كينونته واستمرارية تفوقه. كما أن دائرة التطرف في توسع مستمر نتيجة لبروز الاختلافات الكثيرة بين الأفراد والجماعات والمجتمعات وظهورها على السطح نتيجة للتطور الإعلامي والتكنولوجي وسرعة انتشاره. ولذلك فإن ما نأسف له أن هامش حرية الاختلاف أو الحق في الاختلاف الذي قلص إلى أقصى الحدود بحيث أصبح الفرد لا يأمن على نفسه من اقرب المقربين له.
نعيم بن محمد
13 أكتوبر 2016