قسطنطين الأول
قسطنطين الأول أو القديس قسطنطين (272 ـ 337)، هو الإمبراطور رقم 34 في الإمبراطورية الرومانية. وقد رفعته الكنيسة الأرثوذكسية إلى درجة رسول، مثله مثل الحواريين الذين رافقوا يسوع لكل ما قدمه للمسيحيين من خدمات !.. أما الكنيسة الكاثوليكية فقد أطلقت عليه لقب “ألأكبر”. وسواء أكان قديسا أم كبيراً فلا شك في أنه لولا قسطنطين لاندثرت تلك الجماعة الأولى للمسيحية ولما بقي لها من وجود..
تمتد فترة حكم قسطنطين من 306 إلى 337. وقد أعاد بناء الإمبراطورية وفصل السلطة المدنية عن السلطة الحربية، وأصدر عملة ذهبية جديدة، “السوليدوس”، تأكد استقرارها بفضل كل ما صادره من ذهب من مخازن المعابد الوثنية وضمها للدولة. وظلت هي العملة السائدة في بيزنطة وأوروبا لأكثر من ألف عام. وهو أول إمبراطور يسمح للمسيحيين بممارسة شعائرهم أسوة بمختلف الديانات الموجودة، وذلك بالوثيقة المعروفة باسم “مرسوم ميلانو” الصادر سنة 313. وكانت الإمبراطورية الرومانية آنذاك تمتد من براري إسكتلندا حتى منابع النيل، ومن المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي..
ومن أواخر القرن الأول قبل الميلاد حتى القرن الخامس بعد الميلاد حكمها حوالي مائة قيصر، ثم بدأت البابوية معركة الاستيلاء على الحكم بكل الوسائل حتى تزوير الوثائق، وهو ما تناولته في مقال “وثيقة هبة قسطنطين” وهذه قصة أخرى.. كما أسس قسطنطين مدينة “القسطنطينية” سنة 330 لتنافس روما، عاصمة الغرب، ليجعل منها عاصمة الشرق في أوروبا وليسيطر على حدوده مع الفُرس وشعوب الدانوب.
مرسوم ميلانو
أصدر مرسوم ميلانو كلا من الإمبراطور قسطنطين والإمبراطور ليسنيوس في إبريل سنة 313، وكان ليسنيوس حاكما على الجزء الشرقي من الإمبراطورية من نوفمبر 308 الى سبتمبر 324. ثم تم فرض هذا المرسوم على كافة الإمبراطورية، وبذلك وضع قسطنطين حدا لسريّة ممارسة المسيحية في الأقبية وفي سراديب المقابر، كما وضع حدا لكون الوثنية هي ديانة الإمبراطورية. ثم بدأ يأخذ موقفا من الصراعات اللاهوتية الدائرة في الكنيسة وفقا لمصلحته السياسية البحتة.
ولم يؤد مرسوم ميلانو إلى وقف عصر الاضطهاد ضد المسيحية فحسب، وانما قد ساعد على استقرار المسيحية واستتبابها. فمن ضمن المساعدات التي قدمها للمسيحيين: إلغاء قرارات أغسطس الخاصة بعزوبية القساوسة، وفرض إجازة يوم الأحد، وسمح بتحرير العبيد وانضمامهم للمسيحية، وبالتالي كسب ولاءهم بانضمامهم الى الديانة الجديدة، ومنع تفرقة الأسرة وسمح للكنيسة بقبول الهبات والعطايا، وخاصة سمح إعادة كل ما تم مصادرته منها أو تأميمه أو حتى شراؤه من المسيحيين أيام عصور الاضطهاد السابقة. كما سمح للمتخاصين بأن يلجئوا لمحكمة الدولة أو إلى وساطة الأسقف والكنيسة..
وحقيقة مرسوم ميلانو أنه يهدف في الواقع إلى إضعاف منافس يمكث داخل حدوده ويمثل نواة مقاومة عصية إضافة إلى اعتبارات أخرى. وهذا المرسوم لا يدل مطلقا لا على أن قسطنطين كان مسيحيا، فقد كان متمسكا بديانته الوثنية ويقدم الذبائح لآلهتها، ويعبد الشمس التي لا تُقهر (Sol Invectus)، المأخوذة عن الإله رع في المصري القديم، ثم استولت الكنيسة على هذا الرمز لتجعل من عيد الشمس التي لا تقهر، الذي كان يُحتفى به في 25 ديسمبر، وجعلته عيد ميلاد يسوع، إلى أن اكتشف العلماء ذلك أيام البابا يوحنا بولس الثاني، وسألوه فاعترف قائلا: “نعم، لقد كان عيد مثرا وأخذناه، فمَن أحق بهذا اللقب سوى يسوع المسيح ؟”..
ولم يقبل قسطنطين أن يتنصر إلا وهو على فراش الموت، على يد أسقف تابع لمذهب أريوس الذي حاربه في بداية حكمه. وهو ما يثبت أن الأريوسية، الرافضة لتأليه يسوع، كانت لا تزال قائمة حتى وفاة قسطنطين سنة 337 وما بعدها. وقد تبين إن مقولة “انتصار الصليب” أو انتصار “عقيدة إيمان منتصرة على ظلمات الوثنية” حكايات مفبركة وادعاءات على غير أساس من الصحة. فمرسوم ميلانو هذا كان هدفه استقطاب المسيحيين وتدعيم السلطة الإمبراطورية من جهة، واستقطاب الموجودين منهم في الأراضي التي يسطر عليها مكسيم دايا خصمه في الشرق. وكان دايا يضطهد المسيحيين ويواصل أعمال القمع التي بدأها الإمبراطور جاليريوس ومَن قبله. أي أنه مرسوم عبارة عن سلاح يرمي إلى اجتذاب من يمثلون أعداء داخل أرضه وداخل أراضي خصومه، وتدعيم الطابور الخامس لفريق المسيحيين العاملين داخل مقاطعة مكسيم دايا.
وبذلك نجح قسطنطين في تكوين امبراطورية مسيحية بشكل الحكم المطلق بالحق الإلهي، بأن سد الطريق تماما أمام الوثنيين بكافة عقائدهم، بإصداره أوامر بإغلاق المعابد الوثنية أو هدمها، ومنع الأضاحي ومنع ممارستها. كما أن تدخله في معركة الأريوسية الرافضة لتأليه يسوع، وهو ما كان سيؤدي الى حرب أهلية قد يصعب محاصرتها، قد حسم الموقف. فبينما كان البابا سيلفستر، بابا روما يتباطأ في حسم القضية قام قسطنطين بالأمر لدعوة مجمع نيقية الأول سنة 325 برئاسته، وتم فرض تأليه يسوع وصياغة عقيدة الإيمان التي تؤكد تأليه يسوع، ولا تزال سارية بعد إضافة الروح القدس واختلاق الثالوث في مجمع القسطنطينية سنة 381، أيام الإمبراطور تيودوز. وبجعل يسوع الاها أوحدا، تم إغلاق الباب أمام أية ديانات أخرى من الديانات الموجودة.
مسيحية قسطنطين
حينما استولى قسطنطين على الحكم كانت المسيحية في أغلبها شرقية يونانية. أما في الغرب فكانت الجماعات المسيحية شبه نادرة ومتفرقة. وكانت اسبانيا بدأت للتو ترى التبشير، وبلاد الغال كانت في أغلبها وثنية. ولم يبدأ بها التبشير هي وبريطانيا إلا بعد عصر قسطنطين، في النصف الثاني من القرن الرابع.
ومن المؤكد إن مسيحية قسطنطين هي مجرد سلاح سياسي، فقد سمح للمسيحيين بممارسة عقيدتهم لا من أجل توحيد الإمبراطورية فحسب، ولكن لإدخال المسيحيين في الخدمة العسكرية، إذ كانوا يرفضون التجنيد لأن المسيحية الأولي كانت تحرم القتل. ثم حابا المسيحيين ليجعل منهم حلفائه ضد خصومه، وهدم الوثنية ليقيم عليها وعلى أنقاضها وحدة أيديولوجية للإمبراطورية، وحدة قائمة على المسيحية بعد أن رفعها إلى ديانة دولة من النوع الشمولي. أو على حد قول لوسيان هيلفيه: “ثورة الصليب لم تنجح بفضل دخول الأتباع أفواجا، وإنما لأن قسطنطين اعتمد عليهم لهزم خصومه، ثم كان من الضعف بحيث لم يتمكن من التخلص منهم”!!
وفي سنة 317 أحاط به المدافعون عن الأرثوذكسية ليصدر بيانا باضطهاد المسيحيين الذين انشقوا عن المسيحية أثناء معركة دونات اللاهوتية. ثم حاولوا أن يعودوا إليها فمنعهم. وفي معركته ضد ليسنيوس، صهره وحليفه القديم الذي كان يحكم الشرق منذ مكسيم دايا، سمح قسطنطين بإعادة إدماج المسيحيين الذين كانوا قد تركوها بالعودة ثانية. وبذلك اكتسب أنصارا جدد في أرض خصمه. وهذا التأرجح لا يفسره سوى توجهات مصلحته السياسية.
فالشخص الذي يصل به الجبروت إلى إصدار الأمر بأن تفقأ عينا ابنه البكر كريسبوس، قبل قطع رقبته، ويأمر بإلقاء زوجته فوستا في الماء المغلي وهي على قيد الحياة انتقاما، وقتل صهره، ثم قتل ابنه الثاني، كما أجبر مكسيميان على الانتحار بعد أن أسره سنة 311، مثل هذا الجبروت اللاإنساني لا تعنيه ديانة أو عقيدة، وإنما كل ما يهمه هو شخصه وأطماعه السياسية التي لا حدود لها.
بدايات الكيان المسيحي
منذ أولى خطواتها والمسيحية تُحارَب وتتصارع فيما بينها. ففي القرنان الأول والثاني كان الحاكم الروماني المحلي هو الذي يقود عملية التصدي للمسيحيين. وفي القرن الثالث بدأت السلطة الإمبراطورية هي التي تتصدى لها. وتزايد اضطهادهم خاصة في الإسكندرية أيام الإمبراطور فيليب العربي، وتبعه ديسيوس الذي حكم من 249 ـ 251، وكان قد طالب باضطهاد عام ضد الكنيسة. وقبل منتصف ديسمبر سنة 249 أصدر قرارا بأنه يتعيّن على جميع الرومان، في كل الإمبراطورية، تقديم ذبائح للآلهة يوم 25 ديسمبر، عيد الشمس التي لا تُقهر. ويُعد هذا القرار لا سابقة له في التاريخ أيضا.
وقد بدأت المسيحية على أنقاض معابد وآثار مختلف الحضارات التي وصل إليها أوائل الأتباع وشرعوا في تكوين بؤر سرية لتفادي ما يواجههم من اضطهاد طوال القرون الثلاثة الأولى وحتى مجمع نيقية الأول سنة 325 الذي تم فيه تأليه المسيح. وكانت كل الكنائس المحلية تطالب باستقلالية من حيث العقائد أو الطاعة. فكانت كنيسة انطاكية ترى أنها لا تدين بشيء إلى كنيسة الإسكندرية، كما كانت كنيسة كرتاجة تقاوم بكل قواها تدخل أسقف روما. لذلك بدى من الطبيعي أن تكون مهمة أول امبراطور فكر في الاستفادة من المسيحية هي توحيد الكنائس من الناحية السياسية وليس من حيث العقائد التي ازدادت تناحرا حتى انشقت إلى 394 مذهبا عقائديا.
ويؤكد المؤرخون، ومنهم جيبون وهيلفيه، ان المسيحيون الشرقيون كانوا أكثر عنفا من الغربيين في القتل والتدمير والاقتلاع أو التهجير، وما أن انتصرت المسيحية حتى بادروا جميعهم بإخفاء أية آثار للميراث اليهودي أو لكل الذي أدمجوه من الحضارات الأخرى وخاصة من الحضارة المصرية القديمة. واهتموا بتنصيب أسقفا لكل مدينة بل ولأي مجمع سكنى لضمان التحكم في الأتباع. إذ أن معيار توزيع الأساقفة لم يكن يعتمد على تعداد السكان وإنما على معيار سياسي بحت.
خلاصة القول
يقول المؤرخ إيڤ موديران: “يمثل القرن الثالث نقطة التحول التي بدأت تشهد الدخول في المسيحية بين الشعوب وبين النخب، حتى وإن كانت أبطأ بكثير في الأرياف”. وقد رأينا كيف كان الفضل لأطماع قسطنطين السياسية في إقرار ذلك وتدعيمه. فقد اعتمد على المسيحيين ليهزم منافسيه، ثم خضع لتأثيرهم.. وبما إن المسيحية أصبحت ديانة رسمية في الإمبراطورية، فقد دخل الرومان في الديانة الجديدة سواء تقربا من القيادة أو خضوعا للسلطة، ولم تكن حرية الاختيار أبدا هي العامل الحاسم في تنصير الإمبراطورية.
ولكي تضمن الكنيسة استمرار وجودها في مختلف بلدان الإمبراطورية، تحت لواء “عقيدة واحدة”، أدخلت جزءا من كل الديانات الوثنية التي كانت قائمة في عقائدها، كالديانة المصرية القديمة والأسيوية والآشورية والبابلية والبوذية وغيرها في صلب عقائدها عبر المجامع.. لكن الوضع لم يستمر إذ عاد بعض الأباطرة إلى الوثنية ومنهم أبناء قسطنطين، وخاصة قونستانس الثاني، الذي أعاد الأريوسية الرافضة لتأليه يسوع، أو الإمبراطور جوليان، الذي أطلقت عليه الكنيسة لقب “جوليان المرتد” قبل أن ترسل أحد جنودها لاغتياله بحربة في ظهره، بسبب مرسوم التسامح الذي أصدره لعودة الوثنيات أو كثرة التغيرات التي قام بها لوقف تسلط المسيحية.. واستمر المد والجذر فترة، تعاقب خلالها عشرون إمبراطورا حتى تيودوز الأول (378 ـ 395)، الذي أصدر مرسوما، في فبراير 380، بجعل المسيحية الديانة الوحيدة للإمبراطورية، وقام بتطبيقه بيد من حديد. ويكفيه ترتيب “مذبحة تسالونيكي”..
فقد طلب من الجيش بزج الأهالي داخل ملعب السيرك الكبير، وأغلقوا الأبواب.. ولمدة ثلاثة ساعات انهال رجال الجيش على عشرة آلاف من الرجال والنساء والأطفال، وبعض المراجع تقول خمسة عشر ألفا.. وكان على كل جندي أن يأتي وفي يده الرؤوس التي قطعها وهي تقطر دما ويقدمها لقائده لكي يأخذ المكافأة..
وقد أدى اعتراف الإمبراطور تيودوز بتدبيره هذه المجزرة، لأسقف كاتدرائية ميلانو، إلى تبرئته.. فنهض من على كرسي الاعتراف مرتاح البال، وخرج من الكاتدرائية وضميره أكثر بياضا..
زينب عبد العزيز
25 يوليو 2016