إحدى غرلات يسوع المقدسة في علبة من الذهب والزجاج
لامني بعض الإخوة المسيحيين لاستخدامي كلمة “نصارى” في مقال سابق، على أنها كلمة بالية لم يعد أحدهم يستخدمها، متصورين أنني أقولها سخرية لا سمح الله. فأحب توضيح أنني قد استخدمتها لأنها الأكرم لوصفهم. وذلك لا لأنها واردة في القرآن الكريم فحسب، ولكن لأنها تعني “من ناصروا السيد المسيح” عليه السلام وينصرونه. وأن تطلق عليهم هي أكرم من عبارة “المسيحيين”، التي تشير إلى المسيحية الكنسية، فالكنيسة هي التي أنشأت المسيحية الحالية ولا تزال.
فأي دارس لتاريخ وتكوين المسيحية يعلم أن أيام السيد المسيح لم تكن كلمة “المسيحية” موجودة حتى في اللغة، وقد تم اشتقاقها بعد ذلك من كلمة “الممسوح” اليونانية. كما لم تكن هناك أية كنائس. وإن وُجدت كلمة كنيسة في مكان ما في العهد الجديد الحالي، فذلك يعني أنه تم إضافتها في طبعات تالية. إذ إن كلمة كنيسة قد اُطلقها صانعوا التاريخ الكنسي “مجازا” على أول اجتماع عقده الحواريون بعد صلب المسيح وتعليقه على الخشبة. أي إن كل مكونات المسيحة الأساسية قد بدأ اختلاقها وتدعيمها منذ أن سمح قسطنطين للمسيحيين أن يمارسوا عقيدتهم مثلهم مثل باقي العقائد السائدة آنذاك بناء على مرسوم ميلانو الصادر سنة 313 م. وتم استقرارهم في أواخر القرن الرابع، حين فرض الإمبراطور تيودوز المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، يوم 28 فبراير سنو 380 بمرسوم تسالونيكي. ويتواصل تكوينها وتعديلها وتبديل عقائدها حتى يومنا هذا..
لم أكن أنوي بداية موضوع اليوم بهذه المقدمة التاريخية، لكن للضرورة أحكام كما يقولون.. وقد تصورت أنني أمد المنصرين بمادة طريفة تنفعهم في التبشير وهم يحاولون إقناع المسلمين، فموضوع “الغرلة المقدسة” موضوع طريف، ملئ بالقصص والحكايات الشعبية. كما أنها قصص لا تتمشى مع وصف لوقا للأناجيل وأنها مجرد قصص فحسب، لكنها تتمشى أيضا مع فترة ما بعد رمضان وقصص شهرزاد والكلام المباح، فالمصريون جميعا يحبون القصص والروايات.. وهو ما يتعيّن على من يحاولون تبشير المسلمين أن يراعونه من وقت إلى آخر من باب التغيير والترفيه، وتراث المسيحيين ملئ بتلك القصص وخاصة الخرافية منها..
أما عن “غرلة يسوع” فالثابت تاريخيا أنها بدأت تُنسج في القرن الرابع بعد أن تم فرض المسيحية ديانة رسمية على كل الإمبراطورية الرومانية وإصدار الأوامر الصارمة بهدم كافة الآثار والمعابد والمكتبات الخاصة بالديانات الأخرى. فظهرت الحاجة إلى اختلاق أيقونات وآثار دينية جديدة ليقدسها الأتباع، خاصة آثارا للسيد المسيح، لتدعيم انتشار المسيحية وإثبات أصالتها وتثبيتها..
وعبارة “الغرلة المقدسة” يُقصد بها تلك الجلدة المستديرة التي تم قطعها من الطفل يسوع وهو في اليوم الثامن من عمره، وفقا للشرع. ومثلها مثل الكثير من الآثار التي تم اختلاقها من قبيل “أسنان اللبن” التي بدلها، أو “الحبل السُرّي” الذي كان يربطه بالسيدة مريم، وبعض قطرات من دموعه أو دمه، ولكلا منها لها قصصها.. لكن يمكن القول بصفة عامة أن عبادة البقايا المقدسة المتعلقة بيسوع قد بدأت في الربع الأول من القرن الرابع، مع بداية الحفائر المفترض أنها تبحث عن قبر يسوع بأوامر من الإمبراطور قسطنطين، أي أنهم قد تذكروا بعد أربعة قرون ليثبتوا وجوده. وهي حفائر يتزامن معها فكرة اختراع الصليب بشكله الحالي. وهي القصة التي يقول عنها التراث أنها ترجع إلى هيلين، والدة قسطنطين، التي يقولون إنها عثرت على الصليب الأصلي! وعبارة “التراث” كلمة فضفاضة كما تعلمون، يمكن الزج فيها بكثير من القصص والروايات وأنتم تبشرون المسلمين..
ومن أشهر من تناولوا هذه القصة، الأديب الفرنسي الساخر فولتير. إذ يقول في “القاموس الفلسفي” تحت عنوان “الغرلة”: “في الأيام الأولى للمسيحية كانت هناك مسألة شديدة الحساسية، إذ كانوا يتساءلون إن كان يتعيّن عليهم الحفاظ بعملية الختان أم لا”. والوارد في الأناجيل، كما تعلمون، أن بولس قد ألغى الختان، ذلك العهد الذي أراده الله أن يكون عهدا أبديا. لكن مسألة الالتزام بقول الله لم تعنيهم، فكل ما كان يعنيهم هو كيفية جذب مزيدٍ من الأتباع وتثبيتهم في الإيمان الذي تنسجه الكنيسة بشتى الوسائل..
ويواصل فولتير في قاموسه الفلسفي قائلا: “ومنذ زمن بعيد كان المسيحيون يبغضون الختان، ومع ذلك فهم يتباهون باحتفاظهم بغرلة الرب. أنها في روما بكنيسة سان جان دي لاتران، أول كنيسة تم بنائها في تلك العاصمة؛ وهناك غرلة أخرى في كنيسة سان جاك دي كومبوستيل بإسبانيا؛ وفي نوتر دام دي لا كولومب؛ وفي إبراشية شارتر؛ وفي كاتدرائية دو ݒوي، في ڤلاى؛ وفي عدة أماكن أخرى”..
وفي القرون الوسطى كانت هناك حوالي أربعة عشر غرلة ليسوع، وكلها “أصلية”، وفقا لما كان كل قس يؤكده لأتباعه. وهنا يقول القس ݒينار: “يرجع أول أثر للغرلة المقدسة إلى شارلمان، حين قام بتقديمها هدية للبابا ليون الثالث الذي كان يقوم بتتويجه يوم 25 ديسمبر سنة 800. ويحكى أن ملاكا كان قد أحضرها هدية لشارلمان وهو يصلي بوَرَع أمام القبر المقدس ليسوع.. علما بأن شارلمان لم يغادر أوروبا أبدا وفقا للتاريخ”. أما التاريخ الكنسي فكان لا بد له من أن تكون عباءته فضفاضة كما تعلمون لينسج القصص والروايات..
غير إن القس ݒينار يورد فقرة طريفة حول قرية كَلكاتا في إيطاليا، إذ يقول: “في سنة 1557 تم العثور على غرلة يسوع المقدسة التي كان جندي ألماني قد سرقها قبل ذلك بثلاثين عاما، أيام غزو روما وحصارها، سنة 1527. وهنا يؤكد القس ݒينار مضيفا: “أنه حتى سنة 1983 كانت تقام مسيرة احتفالية تجوب القرية، حاملين الغرلة المقدسة، كل أول يناير. وهو التاريخ الذي يرمز إلى يوم ختان يسوع. وهو تقليد يرجع للقرن السادس. إلا أن بعض اللصوص قد سرقوا هذه البقية المقدسة، وبذلك توقفت المسيرة الاحتفالية في تلك البلدة”.
ويبدو أن الغرلات المقدسة قد اختفت من إيطاليا كما اختفت غرلة آنڤرس في بلجيكا سنة 1566، لكن لا تزال هناك غرلتان في فرنسا في مدينة ڤيبْريه والأخرى في مدينة كونْك بالجنوب. ومدينة كونك هذه نقطة أساسية في خط سير الحجاج إلى مدينة سان چاك دي كومبوستيل في إسبانيا. وهذه معلومة قد يجهلها بعض المسيحيين، فهي المدينة التي ذهب إليها البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1982 ليعلن صراحة قرار الفاتيكان تنصير العالم، الذي تم فرضه عليكم يا مسيحيين منذ 1965، يا مسيحيو الشرق الأوسط، وأن تساهموا فيه إجباريا أنتم وكنائسكم المحلية، وها أنتم تمارسونه بكل ولاء، وكأنكم لا تعرفون شيئا عن تاريخ عقائدكم وقصصها..
وتكمن أهمية مدينة سان چاك دي كومبوستيل، ان جاك هذا هو يعقوب، ابن عم ربنا يسوع. مع العلم أن هناك عدة أشخاص يُدعون يعقوب في الأناجيل: يعقوب بن زبدي، شقيق يوحنا؛ ويعقوب العادل، شقيق الرب يسوع؛ ويعقوب الألفي؛ ويعقوب الصغير، ابن أخت نصف شقيقة للرب يسوع. وعلى الرغم من كل ما كتب عن هذا القديس، فإن آخر الأبحاث تقول إنه بخلاف ما كُتب عنه في العهد الجديد، لا يوجد أي ذكر له أو أنه حتى قد ذهب إلى إسبانيا.. ورغمها تتواصل الاحتفالات السنوية باسمه بكل إصرار، ويتوافد الأتباع تبركا بذلك الحج.. ومن أجل تدعيم مكانته لقبته الكنيسة في القرن الثامن قديسا وحاميا لإسبانيا بناء على قبر تم اكتشافه في القرن التاسع وافترضوا أنه قبر يعقوب، وتتشابك القصص والحكايات..
غير ان الأسقف دوشين (1842ـ1922)، مدير المدرسة اللاهوتية في روما يؤكد: “إن كل ما يقولونه عن تبشير القديس يعقوب في إسبانيا وقصص بقاياه واكتشاف مقبرته، كلها قصص لا أساس لها من الصحة، إذ ان المقبرة رومانية وتصوروا خطأ أنها للقديس يعقوب” (حوليات الجنوب، المجلد 12 سنة 1900)..
والأسقف لوي دوشين فرنسي الأصل، وعالم لغويات ومؤرخ للمسيحية والكاثوليكية الرومية ومؤسساتها، وخاصة المسيحية القديمة، وحاصل على وسام الشرف الفرنسي. وقد تم تعيينه مديرا للمدرسة اللاهوتية الفرنسية في روما. ونظرا لدقة وصراحة كتاباته فهو يقلق الكيان الكنسي الكاثوليكي لدرجة أن البابا بيوس العاشر أدان أعماله سنة 1907 في خطابه الرسولي، كما منع قراءة كتابه المعنون “التاريخ القديم للكنيسة”، كما وصلته تهديدات بالقتل، لأنه أثبت عدم بعث يسوع، وهو الركن الأساس الذي تقوم عليه المسيحية.
أما أطرف قصة أو فرية من فريات الكنيسة حول تلك الغرلة المقدسة فهي:
كوكب زحل جغرافيا، أو غرلة يسوع وفقا للكنيسة
في يوم 16/2/2015 نشرت جريدة لوموند الفرنسية بحثا للصحفي بيير بارتلمي، المسئول عن الباب العلمي في الجريدة، تحت عنوان: “الغرلة المقدسة”. وبدأ الصحفي مقاله قائلا: “هل تصدقونني إن قلت لكم أن علم البول يؤدي إلى علم الفلك بواسطة يسوع المسيح؟ لا؟ ومع ذلك.. إذا ما قمنا بمطالعة عدد يوليو 2007 من المجلة العلمية “حوليات علم البول” لوجدنا دراسة هولندية ـ أمريكية حول ختان يسوع”.. ثم يواصل الكاتب كيف تم ختان يسوع في اليوم الثامن، وظلت الكنيسة تحتفل به في أول يناير من كل عام إلى أن أخفته تماما منذ بضعة عقود.. ويؤكد أن العهد الجديد لا يورد أي شيء حول تلك الجلدة الأسطوانية الشكل، غير أنها عادت إلى الظهور في القرون الوسطى.
“ففي زمن الترويج للمسيحية، في تلك القرون الوسطى، ومن أجل جذب الأتباع، كانت كل كنيسة تعرض ما لديها من بقايا ذات قيمة ترجع إلى يسوع. فكل قديس يموت يترك جثته، إلا أن الكنيسة تؤكد أن يسوع قد صعد بجسمه”. ويواصل الصحفي قائلا: “غير ان جامعي التحف من الكنسيين قد اكتفوا بالحفاظ من جسد يسوع المسيح بما كان هو قد فقده وهو على قيد الحياة، من قبيل: أسنان اللبن، الغرلة، الدموع، بعضا من دمه، وكلها لا تزال موجودة. وقد أحصت مجلة “حوليات علم البول” 21 كنيسة ودير تحتفظ بغرلة يسوع، منها 13 في فرنسا.. وتورد المجلة أن عالم اللاهوت الإيطالي، ليوني أللاتشي، في القرن 17، أكد إن غرلة المسيح قد صعدت إلى السماء في نفس الوقت مع صاحبها لتكون الحلقة المحيطة بكوكب زحل”.. أي أنها معجزة من ضمن المعجزات المسيحية التي تجذب الأتباع!
وليوني أللاتشي كاتب يوناني الأصل هاجر إلى روما واعتنق الكاثوليكية. وفي سنة 1661 تولى منصب أمين مكتبة الفاتيكان، وشارك في معركة الإفخارستيا التي دارت بين الفرنسيين واليونان، كما إن له كتاب هام بعنوان: “التنازلات الدائمة بين الكنائس الشرقية والغربية”، أي أنه قس له مكانته العلمية المعترف بها داخل الكيان الكنسي، حين أكد أن الغرلة المقدسة ليسوع تحيط بكوكب زحل..
ويورد الصحفي الفرنسي قصص أخرى عن نساء تزوجن المسيح تعبدا وارتدت غرلته بدلا عن خاتم الزواج، وأخريات أخجل عن نقل قصصهن..
وبسبب كل هذه القصص والحكايات الشديدة الافتعال والاستخفاف بعقول الأتباع، وهي لا تعد ولا تُحصى على مدى التاريخ الكنسي، قال الكاتب الفرنسي الشهير إميل زولا (1840 ـ 1902): أن المسيحية أكبر دليل على سذاجة المسيحيين”، وهي صيغة مهذبة يمكن ترجمتها بعبارات أخرى.. ثم أضاف تعبيرا أكثر بلاغة في الإفصاح عن غضبه وعصيانه ضد الكنيسة:
“لن تصل الحضارة إلى كمالها إلا إذا سقط آخر حجر من آخر كنيسة على آخر قسيس”
(“الأناجيل الأربعة” 4 مجلدات، والرابع توفي قبل استكماله)
زينب عبد العزيز
9 يوليو 2016