تطرقنا في بداية هذا الشهر الفضيل إلى موضوع فضل التبرع و الإطعام في رمضان في مقال سابق بعنوان “جاليتنا المسلمة في الغرب و ظاهرة حب الإطعام والتبرع لموائد إلافطار الجماعي في رمضان” وقلنا أن الاطعام ظاهرة صحية في صفوف جاليتنا في الغرب، بل هي مبادرة طيبة للغاية تقوم بها مساجدنا و مراكزنا الإسلامية، بحيث تجتمع فيها العائلات المسلمة من جنسيات مختلفة للتعارف و التآزر و التأخي بتناول وجبات الإفطار مجتمعة في حب ووئام بعد يوم من عناء العمل ومشقة الصيام في دار المهجر، ومن مميزات تلك المبادرة ازدهار حياة المساجد وتزايد أنشطتها الدعوية والخيرية يوما بعد يوم، وإقبال المصلين المتزايد على أداء مناسكهم بشكل جماعي نادرا ما يسمح الوقت بمثله في غير هذا الشهر الفضيل.
رغم ذلك هناك ظواهر أخرى دخيلة علينا في الغرب أحببت أن أتوقف عند بعضها في هذه السانحة، منها أولا ظاهرة إرسال بعض المؤسسات والدول الخليجية لكميات كبيرة من التمور في شهر رمضان الكريم لمراكزنا الإسلامية ومصلياتنا، وهي أكيد صدقة تعود بالفضل علينا و بالأجر و الثواب العميم على أصحابها.. لكن يفضل الكثير من المسلمين في هذه الديار بل و برغبون أن ترسل هذه الهبات الغذائية للفقراء والمحتاجين في دولنا الإسلامية الفقيرة في إفريقيا وآسيا الذين يقتل الجوع بعضهم و يشرد بعضهم الاخر، فتكون الصدقة فعلا في محلها ولأصحابها ومستحقيها.. لأن معظم المسلمين في بلاد الغرب ليسوا في حاجة ماسة لمثل هذه الهدايا الموسمية، خاصة المأكولات عموما والتمور خصوصا، لأنها في متناول الجميع .. رغم ذلك أنا أغض الطرف عن هذه الظاهرة، لا بل أثمنها كرجل قائم على مؤسسة إنسانية خيرية، وأشكر المتبرعين والموزعين والعاملين عليها لهذه الصدقات من التمور المختلفة في شهر رمضان الفضيل، لأنها تصل بفضل الله حتى للسجناء المسلمين في أقبيتهم في دار الهجرة وما أكثرهم ، كما تصل أيضا للمشردين و ذوي الحاجات حتى من غير المسلمين في بلاد الغرب..
لكن الأمر الثاني الذي أتساءل عنه ببراءة هي ظاهرة جديدة في بلاد الغرب، تتمثل في إعداد سهرات وولائم في رمضان تسمى «الغبقة» من طرف بعض الاخوة الزوار والعائلات الخليجية خصوصا التي أصبحت تقضي عطلها الصيفية هذه السنوات الأخيرة بين ظهرانينا في الغرب، وإلا ما عرفنا لهذه “المغبة” معنى و لا تفسير
و «الغبقة» للذين لا يعرفونها مثلي، وحقيقة ما تعرفت عليها إلا يوم دعيت لها لأول مرة في الكويت من طرف إحدى الجمعيات الكويتية، وقد شرح لي أحد الاخوة الأساتذة من دول الخليج، أنها عادة من العادات العريقة التي ميزت ليالي الشهر الكريم لدى المجتمع الخليجي توارثتها الأجـيال كابر عن كابر”..
مذكرا أياي أن معنى كلمة «الغبقة» هي كل ما يؤكل في الليل، أي العشاء الرمضاني المتأخر الذي يسبق وجبة السحور، وهي وليمة تؤكل عند منتصف الليل أو قبله بقليل، وهي أيضاً كلمة عربية أصيلة، ويرجع أصلها إلى «الغبوق»، والغبوق هو حليب الناقة الذي يشرب ليلاً، وعكسه “الصبوح” الذي يشرب من حليب الناقة صباحاً. فيما يقول البعض الاخر، أن الغبوق وجبة خفيفة تؤكل في المساء، ولا خلاف على أن «الغبقة» هي وجبة رمضانية لا يمكن أن تقام في سائر أشهر السنة، وكانت في السابق، تختلف نوعاً ما عما هي عليه اليوم في أشياء كثيرة، فطابعها ووجباتها كانت مختلفة، وكذلك بالنسبة إلى عدد الحضور إلا أن التسمية بقيت كعادة اجتماعية..
ونظرا للأهمية التي تحتلها هذه العادة المتأصلة في نفوس الخليجيين فقد أطلقوا على شهر رمضان تسمية (شهر الغبقات)، و”احضروها معهم” في عطلهم هذه السنوات الثلاث الأخيرة إلى أوروبا، وقد شرح لي أحد الاخوة الخليجيين بإسهاب أن «الغبقة» قديما كانت عبارة عن وليمة تقام بعد صلاة التراويح للأهـل والجيران، وأكلاتها تتضمن أنواعا متعددة من المأكولات البسيطة الخـفيفة كـ”النخي والباجلا والهريس والفطائر والكبة والسلطات، إضافة الى بعض الحلويات الشعبية كالزلابية والمحلبية واللقيـمات والتمور”، وكذلك مشروباتها تتنوع بين “القهوة العـربية والشاي والقهوة الحلوة المكونة من زعـفران مـغلي، وشراب اللـوز (البيذان)… وغيره” ، مردفا بقوله “كان حينها يقدم كل بيت من تلك الأطعمة وفقا لمقدرته، وعليه فقد كانت «الغبقة» عادة تجميع الأصدقاء والجيران لتناول ما تبقى من الحلويات الرمضانية المتبقية في هذا اليوم من رمضان استعدادا لإعداد حلويات طازجة لليوم التالي”. وبالتالي يمكن الآن فهم الجانب الخيري في هذه العادة الطيبة.. فهي تجمع اجتماعي وتكافل ومودة ولقاءات نسائية لتبادل الحديث والأخبار في عطلهم الصيفية التي تصادف رمضان.”
واليوم بمرور الوقت أصبح للغبقة الرمضانية عادات وتقاليد مختلفة فباتت الأسـر الخليجية- حسب محدثي- تنفق مبالغ باهظة على الغبـقات في ليالي الشهر الكريـم سواء داخـل المنازل أو بحجـز القاعات الفخمة بالفنادق والمطاعم وبذلك أصبحت الغبقات الرمضانية تدخل ضمن اهتمامات المطاعم والفنادق خاصة وأن الغبقات خرجت من كونها عزائم تقام للأهـل والجيران والأصدقاء الى ولائم تقيمها الوزارات والهيئات الحكومية بدول الخليج بل ومؤسسات وشركات القطاع الخاص.
و بالتالي أصبح جليا للقاصي والداني في الغرب أن المائدة الرمضانية في مجتمعاتنا الإسلامية عموما هي أحد أبرز سمات هذا الشهر الفضيل، ولكنها أيضا تعكس إحدى الظواهر السلبية التي تقوم بها الأسر في مجتمعاتنا، ويتفق الجميع على أن التبذير عادة تتنافى ومبادئ الشريعة الإسلامية التي حذرت من الإسراف، إلا أن كثيرين ينتهجون هذه العادة في شهر رمضان المبارك لتصبح سلة المهملات هي الملجأ الأخير لأنواع الطعام التي كانت تتزين بها الموائد بكل ما لذ و طاب..
ولظاهرة الإسراف هذه في رمضان عدة جوانب تنعكس على حياة الأسر ميسورة الحال ، سواء من تكبد المصاريف الشرائية التي تتجاوز أضعاف ما تنفقه الأسر في الأشهر العادية، أو من خلال السلوكيات الغذائية التي تصيب الصائم بسبب إسرافه في تناول الطعام بزياده وزنه في أواخر الشهر الكريم بعدة كيلوغرامات وتفتح بذلك أيضا الشهية لأوبئة مزمنة لا قدر الله، كالسكري وضغط الدم والكوليستيرول وغيرها من الامراض التي تؤرق جيبه اقتصاديا وتنهك جسده المشحم من الناحية الصحية والنفسية.
و بالتالي يرى بعض الاخوة الأئمة عندنا في الغرب أن هذه “الغبقات” الخليجية الدخيلة على الغرب، نوع من الاسراف بل و تدخل في خانة التبذير لا قدر الله، وبدوري وددت لو أن مصاريف هذه “الغبقات” أعطيت للمحتاجين أو الجمعيات الخيرية لكان نفعها أبرك وأفيد، وبالتالي أصبحنا نخشى أن تضاف هذه ” الغبقات” إلى أمراض مجتمعاتنا الإسلاميِّة التي تعمل في جسمها ما تعمل الأوبئة الفتَّاكة في الأجساد والأبدان، من أمراض هذه الأمُّة المتنوعة و المتعددة، فإسراف الأموال في الغرب بهذه السهولة ز على كافة الاصعدة، الإسراف في كلِّ شيء، وأصحابها لا يقدُرون نعمة الله حقَّ قدرها، من المحافظة عليها، واستعمالها فيما خُلقت له، واستخدامها فيما يحبُّ الله تعالى ويرضى، بالقصد، بالاعتدال والتوسط، دون إسراف ولا تقتير، دون طغيان ولا إخسار، فهذا هو شأن الإنسان المؤمن، وهذا ما أقام الله عليه الحياة، وأقام عليه هذا الكون.
علما أن شأن المؤمنين المنشود في عالم تنخره الأزمات الاقتصادية مثل ما هو حالنا هو التوسُّط والاعتدال، فخير الأمور أوسطها، وهذه أمُّة وسط، وسط في كلِّ شيء، أمرها معتدل وصراطها مستقيم، هو أقرب موصل إلى الهدف، ولذلك وصف الله عباد الرحمن بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، لا تقتير ولا إسراف. ويقول عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29
والإسلام لم يمنع الاستمتاع بالطيبات وزينة الله، وإنما منع الإسراف، {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141]، لا تسرفوا، أي أن الله لا يحبُّ المسرفين من عباده، المتجاوزين للحدود
ومعنى هذا، أن يقف الإنسان عند قدراته، (على قدر لحافِك مد رجليك). لا تحاول أن تُنفق أكثر مما تستطيع، لا يكن مصروفك أكثر من دخلك، فتضطر للاستدانة، والدين همٌّ بالليل، مذلَّة بالنهار، وقد لا تستطيع أن تسدِّد دينك، فتضطر أن تُحدِّث فتكذب، وتعِد فتُخلف، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من المأثم والمغرم، قال: “إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف”. عِش في حدود استطاعتك..
و لا ننشى أن الفكر الاسلامي عموما فكر شمولي جاء لمعالجة جميع الزوايا في حياة الانسان ووضع البرامج الناجعة لكل مفاصل الحياة، كذلك يتصف الفكر الاسلامي بالوسطية حيث يدعو اتباعه دائماً الى الاعتدال واجتناب الافراط والتفريط، والانتفاع بالنعم الالهية بعيداً عن الاسراف والتبذير. و قد عرف الاسراف بانه الزيادة و تجاوز الحد في مقابل الاقتصاد والاعتدال. ولا ينحصر الاسراف في الامور المادية بل يتمظهر في اكثر من معنى. اما التبذير فيعني إنفاق المال فيما لا ينبغي..
و بالتالي أضحت “القناعة” هي مفتاح باب كل خير، والقناعة لغة تعني الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم والاحتياجات ورضا الإنسان بنصيبه. وفي الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة والبخل يقول العلماء، إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، وهي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات الحياة والابتعاد عن الإسراف والتبذير في المصرف والرضا بنعم الله وإن كانت قليلة، في حين أن البخل مرتبط بالأخلاق الاجتماعية، وذهب بعضهم للتفريق بين الإسراف والتبذير، فقالوا أنَّ الإسراف، تجاوز في الحلال، وأنَّ التبذير إنفاق في الحرام. فلو أن رجلاً عنده مال قارون وأنفق درهمًا واحدًا في معصية، كان ذلك تبذيرًا، وهو محرَّم ومنهيٌّ عنه…
ومن التبذير الإنفاق فيما لا يضرُّ ولا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنَّ هذا إضاعة للمال، وقد نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال. و بالتالي هذه الظواهر في الاسراف في الإطعام و هذه ” الغبقات” يجب أن ترشد بالتي هي أحسن للتي هي أقوم، وما هي إلا تذكرة عابرة و همسة في اذن صاغية من باب” ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ على ربنا سبحانه يبصرنا و يأخذ بأيدي الخيرين منا لخدمة الصالح العام في بلاد الغرب، هو ولي أمرنا فنعم المولى و نعم النصير.. و الحمد لله من قبل و من بعد.
محمد مصطفى حابس
9 جويلية 2015