ما هي قصة وحيثيات اعتقال الدكتور مراد دهينة من قِبل الأمن الفرنسي منذ 16 يناير؟ بادئ ذي بدء، ليس ثمة من يؤمن بمسخرة المبرّر القضائي وراء طلب السلطات الجزائرية بتسليمه، على أساس علاقات مزعومة بدعم الإرهاب في سويسرا، خاصة وأنّ النظام الجزائري نفسه لا يتحرّج البتة من التعامل المباشر حتى مع من كانوا قادة في العمل المسلّح، مثل مدني مزراق وعبد الحق العيادة وحسن حطاب وغيرهم، طالما صبّ ذلك في ترسيخ بقائه في الحكم، وهو بالمناسبة الثابت الوحيد الذي يحدّد من هو الإرهابي ومن هو الوطني.
كما قد تتبادر إلى الأذهان العديد من الأجوبة محاولة لتفسير عملية اعتقال الدكتور مراد دهينة، وقد تكون صحيحة كلّها أو جلّها، لكن تبقى جزئية لا تعبّر عن عمق هذه المسألة، التي تتجاوز هذه الإجابات كلها، لأنّ وضع الدكتور مراد دهينة، على غرار وضع الشعب الجزائري قاطبة، يرتبط بالأساس بمخلّفات ما بعد، أو حتى ما قبل استقلال البلد، من علاقات وطيدة يلفها الكثير من الغموض والريبة، بين من جهة مجموعة من العسكريين الجزائريين الذين تطوّعوا للعمل ضمن جيش الاحتلال الفرنسي إبان استعمار البلد وشاركوا في محاربة أبناء جلدتهم، ثم “فرّوا” منه في ربع الساعة الأخير من حرب التحرير، وتمكّنوا نظرًا لتوافر عوامل عديدة، لا يتّسع المجال هنا لذكرها، من التسلّق إلى أعلى مراتب الحكم في الجزائر، خاصة بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، ومن جهة أخرى بين طبقة من السياسيين الفرنسيين، بذلوا قصارى جهدهم لاستدامة الحضور الفرنسي، في الجزائر ما بعد الاستقلال، من خلال “توكيل” عدد من العسكريين، صف ضباط في معظمهم، تمت ترقيتهم على عجل في إطار ما يعرف باسم دفعة لاكوست، والقفز بهم إلى مراتب ضباط في غضون سنة ونصف السنة، لتأهيلهم استعدادًا لتبوء مناصب عليا في حكم جزائر الاستقلال.
هذه ليست اتهامات تطلق جزافا، لأنه بالإضافة إلى مسار هذه الطبقة من قادة البلد، التي أشبعت الشعب الجزائري قمعًا وإذلالًا بما يعزّز هذه التهم، ثمة شهادات عديدة، جزائرية وفرنسية، موثّقة تؤكد ذلك، نذكر منها على سبيل المثال شهادة الجنرال بواسيو (Général Boissieu)، صهر الجنرال دي ﭬول، الذي كتب قبيل وفاته، في مذكراته عام 1982 ما يلي: “هناك مسؤولون سامون في الدولة الجزائرية لا زالوا إلى يومنا هذا يعملون لحسابنا، ولن أفصح عن أسمائهم لكي لا يتعرّضوا للخطر”. كما صرّح وروجي وايبوت (Roger Whybot) مؤسس جهاز المخابرات الداخلية الفرنسية (DST) عام 1975 قائلًا: “إنّ العديد من المسؤولين الجزائريين يعملون لحسابنا”. وقد يكون التعتيم على أرشيف الاستعمار هدفه الأساسي الاحتفاظ بهذه الورقة الخطيرة التي تبيّن من هم “القادة” الفعليين في البلد.
تُعتبر إذن عملية اعتقال الدكتور مراد دهينة نتيجة “طبيعية” لهذه العلاقة المتميّزة بين الطرفين، كما أنها تلقي بالضوء على ما يتعرّض له الشعب الجزائري من ظلم مضاعف: ظلم مباشر على يدي نظام فاسد مستبدّ غير شرعي استولى على الحكم بتواطؤ القوة الاستعمارية في حين غفلة من أهل البلد، وظلم ثانٍ، أكثر خبثا، يدفع الشعب الجزائري ثمنه من خلال “سكوت” بل وتواطؤ فرنسا (والعالم الغربي عموما) على جرائم الجلاد، بمقايضة سكوته، وتقديم قرابين، من معارضي هذا النظام نفسه، إمّا اغتيالًا كالمحامي مسيلي، والشيخ الصحراوي، أو اعتقالا، كالسيد أنور هدام في أمريكا والشيخ احمد الزاوي في نيوزيلندة، أو نفيا كالمحامي الأستاذ سي مزراق، على سبيل المثال لا الحصر، كل ذلك مقابل استدامة تلك العلاقة المتميّزة، من خلال ما تقدّمه هذه الأطراف من حماية ودعم، للنظام القائم في الجزائر. في الوقت الذي يدفع فيه الشعب الثمن مضاعفًا، يستفيد ساسة فرنسا من بقاء الوضع على حاله مرتين، أولًا، بتكريس سلطة عصابة تخدم مصالحهم غير الشرعية بشكل مطلق (الأمر الذي لا يضمنونه في ظل دولة ذات سيادة ومحاسبة)، وبسكوتهم عن جرائم العصابة، يضاعفون هذه المزايا بضمان بقاء وكلائهم مقابل الحصول على مزايا يستحيل مقاومتها، تقدّر بملايين اليورو.
لا يمكن إذن فهم قضية اعتقال الدكتور مراد دهينة، خارج هذه المعادلة المتشابكة بين دفعة لاكوست من حكام الجزائر وحكام فرنسا من أصحاب الحنين إلى جزائر فرنسية. وللتدليل على طبيعة هذه العلاقة المتداخلة، لا بدّ، على سبيل التوضيح، من تقديم مقارنة مثيرة بين حادث اعتقال الدكتور مراد دهينة مؤخرا (عام 2012) وما وقع في باريس سنة 1993، في ما عرف يوم ذاك باسم “عملية أقحوان” (Opération Chrysanthème) التي جاءت مباشرة في أعقاب عملية اختطاف ثلاثة موظفين من السفارة الفرنسية في العاصمة الجزائرية، في عهد الثنائي شارل باسكوا، وزير الداخلية الفرنسي والجنرال اسماعين العماري، رئيس الاستخبارات الداخلية الجزائرية. وإنّ فائدة طرح هذه المقارنة تعود لما يشتمل عليه الحدثين من أوجه تشابه كثيرة، مع فاصل زمني مدته عقدين، خاصة وأنّ الحدث الثاني، جاء مع عودة فريق باسكوا نفسه مجسّدًا في شخص وزير الداخلية الحالي كلود ﭬيون.
أهمّ أوجه التشابه بين العمليتين هو الأسلوب المتّبع في الحالتين، حيث تبدو بصمات فريق باسكوا جلية في تعامله مع ملف الجزائر الفرنسية، وما يعزّز هذا الانطباع هو أنّ تنفيذ هذا الاعتقال الأخير جاء على يد مصالح وزير الداخلية كلود ﭬيون، أحد تلامذة باسكوا النجباء، دون سواه، في إخراج يبدو وكأنه تحديث لـ”عملية أقحوان” عام 1993، أو فصل من فصوله الختامية.
بعد مرور عشرين عامًا على انقلاب يناير 1992، وبينما كان الانقلابيون، العسكريون ومَن دعمهم من المدنيين ضمن لجنة إنقاذ الجزائر، يعتقدون أنهم قد تخلّصوا من أركان الجريمة ودفنوا إلى الأبد هذه القضية الشائكة، خاصة من خلال قانون السلم والمصالحة الذي يجرّم كلّ من يطالب بواجب الحقيقة والعدالة، ها هم الآن يواجهون على نحو متزايد واجب الذاكرة والمطالبين بالحقيقة والعدالة، مما أجبر الانقلابيين على التوجّه مرة أخرى إلى سندهم الأزلي فرنسا، خاصة في ظل التحوّلات الكبرى في العالم العربي، التي حرمتهم من دعم الدكتاتوريات الهالكة؛ توجّهوا إذن إلى فرنسا تحديدًا لإنقاذهم من ورطتهم وترويج روايتهم، وإسكات صوت مخالفيهم، من أمثال الدكتور مراد دهينة.
من يتذكّر عملية الاختطاف المثيرة عام 1993 في الجزائر العاصمة، التي تعرّض لها الزوج تيفنو وآلان فريسيي Alain Freissier et Thévenot، الموظفون الفرنسيون في سفارة بلدهم؟
غداة انقلاب يناير 1992، كان جنرالات الجزائر في وضع حرج، بحثا عن شرعية، للتغطية على انقلابهم الذي أدانته كافة الأطراف، باستثناء فرنسا، ومما زاد من روع النظام الانقلابي، ما كان يتعرض له من انتقاد وإدانة شديدة من جانب أصوات المعارضين الأحرار خارج البلد، لاسيما في فرنسا، الأصوات التي لم يكن بوسع السلطة الانقلابية إسكاتها، كما كانت تفعل مع كل معارض للانقلاب داخل البلد. وسعيًا وراء كتم هذه الأصوات المتمرّدة على استراتيجية الجنرالات، والمنطلقة من خارج البلد، تم التنسيق بين فريق باسكوا واسماعين العماري في كل ما له صلة بالموضوع، إلى أن تُوِّج هذا التنسيق في نهاية المطاف، بتدبير عملية اختطاف “إرهابية” لموظفين ثلاثة في السفارة الفرنسية في الجزائر العاصمة، ومن جهة ثانية، بالقيام على الضفة الشمالية، بعمليات اعتقال واسعة وترحيل جماعي من فرنسا، من أجل كتم الأصوات المغرّدة خارج السرب، وتلبية مطالب السلطة الانقلابية في الجزائر.
لكن قبل تنفيذ العمليتين، أعرب ماركياني، مستشار باسكوا، لمقربين منه ولنظرائه الجزائريين خلال مناقشة موضوع ترحيل المعارضين للانقلاب، عن تخوفه من حساسية العملية وتعقيد عملية تنفيذها، لأنّ أنصار الجبهة الإسلامية هم معارضون سياسيون ولم يرتكبوا أيّ جنحة يعاقب عليها القانون الفرنسي، ولذلك فالإقبال على ترحيلهم قد يثير استنكار وريبة الرأي العام الفرنسي، فجاء ردّ اسماعين العماري في شكل اقتراح تدبير “تفجير ما” على يد الجماعات الإسلامية المسلّحة (الجيا) لإحدى البنايات التي يقيم فيها فرنسيون، معتبرًا أنه من شأن هذا العمل “الإرهابي” أن يألّب الرأي العام ضدّهم، تمهيدًا لتنفيذ عملية طرد جماعي. لكن يبدو أنّ هذا الحل لم يرق لماركياني، فعرض بدله “عملية اختطاف” مضمونة، تكون أقوى تأثيرًا من عملية التفجير، خاصة من الناحية الشعورية. وهناك شهادات عدة، منها ما سننقله لاحقًا تؤكد هذه الرواية.
وبذلك تمّت الصفقة بين شارل ماركياني واسماعين العماري، المتمثّلة في توفير التغطية لتنفيذ عملية طرد جماعي لأنصار ومتعاطفين مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ وجعلها مقبولة لدى الرأي العام الفرنسي.
وفجأة، صدر “بيان” من الجماعة الإسلامية المسلّحة (الجيا) يتبنّى عملية الاختطاف، على غرار غيره من البيانات التي بدت الشكوك حولها واضحة منذ بداية الأزمة وخاصة بعد انتشار المجازر التي راح ضحيتها مئات القتلى، وطرحت تساؤلات كثيرة حول مصدرها الفعلي، كما هو الأمر بالنسبة لرهبان تبحيرين، ولم تكن هذه الشكوك صادرة فقط عن معارضي النظام فحسب ولا من مصادر مستقلة أجنبية فقط، بل حتى من جهات كانت معروفة بمساندتها للانقلاب ومعاداتها للجبهة الإسلامية للإنقاذ، كما هو الشأن بالنسبة للصحفي أحمد سميان، الذي عمل لصحيفة لومتان، إحدى أشرس الصحف الاستئصالية الداعية إلى الانقلاب، الذي كتب بشأن البيانات في كتاب أصدره في عام 2005 تحت عنوان “في حِمى الرصاص الطائش” (Au refuge des balles perdues): “لقد رأيت بأمّ عيني بعض الصحفيين ينشرون بيانات مزيّفة يدبجها أصحابهم من ضباط مصالح الاستخبارات، ثم تُنسب في اليوم التالي بالبنط العريض على صفحات جرائدهم مباشرة للإسلاميين من الجيا، وهو يعلمون علم اليقين أنها بيانات مزيفة”.
ومن جملة ما يؤكد هذا الترابط الوثيق والتنسيق على أعلى المستويات بين الفريقين، ما كشف عنه الصحفي الفرنسي روجي فاليڤو (Roger Faligot) في كتابه، مِن أنّ مركياني الذراع الأيمن لباسكوا، قد أقام في العاصمة الجزائرية خلال عملية الاختطاف، قصد تنسيق العملية مع نظرائه الجزائريين، كما أنّ هناك شهادة أخرى، من قِبل موظف أمني تابع للسفارة الفرنسية، كان يعمل لحساب الاستخبارات الفرنسية، يقول فيها أنه كان يعلم جيّدًا مكان اعتقال الرهائن، وانّ الأمر ليس أكثر من عملية تلاعب، تمّت على نحو مفضوح وغير مقنع.
ماذا جرى يوم 24 أكتوبر 1993؟ في هذا اليوم تعرّض ثلاثة موظفين في القنصلية الفرنسية في الجزائر العاصمة لعملية اختطاف، أثارت الكثير من الريبة في نفوس المختطَفين أنفسهم، منها على سبيل المثال ما جاء في شهادة السيدة تيفنو، التي أفادت بأنه رغم محاولة زوجها الفرار من قبضة مختطفيه، وبينما كانت تعتقد أنّ هؤلاء الوحوش من “الجيا” سيقتلونها انتقامًا، جاؤوا لها بدل ذلك بأدويتها وبشّروها بأنهم سيُخلون سبيلهم عن قريب جدًّا! كما أفاد الزوج تيفنو بأنه تمّت معاملتهما بشكل أكثر من جيّد إلى حدّ التوجّس. وخوفًا من إسهام مزيد من تصريحات الزوجين في إرباك حسابات مصالح باسكوا، وتفنيد الرواية الرسمية الجزائرية الفرنسية، تمّ نقل الموظفين الثلاثة بأوامر من السلطات الفرنسية إلى جزر فيدجي، على بعد آلاف الكيلومترات من فرنسا، لمدة عشر سنوات، تفاديًا لمزيد من الأسئلة المحرجة، وأملًا في أن يلفّ النسيان هذه القضية.
بالفعل كانت تلك الشكوك في محلّها، إذ تبيّن لاحقًا من خلال شهادات عدة أنّ المختطِفين لم يكونوا في واقع الأمر سوى عناصر من الاستخبارات الجزائرية بتنسيق مباشر مع مصالح ماركياني، مثلما جاء في شهادة آلان فريسيي بثها برنامج “تحقيق الاثنين” (Lundi Investigation) لقناة كنال بلوس (Canal+)، يؤكد فيها السيد فريسيي أنّ عملية الاختطاف كانت من تدبير أجهزة الاستخبارات الفرنسية والجزائرية. من جهة ثانية أفاد الرهائن الثلاثة، المقيمون في جزر فيدجي خلال نفس البرنامج أنّ الإفراج عنهم، لم يتمّ كما ادعت الرواية الرسمية في ذلك الوقت، من خلال هجوم شنّه الجيش، حيث أضاف فريسيي: “لم أر أبدًا أيّ هجوم من الجيش، لا شيء. هذا شأن الدولة، إنها قضية دبلوماسية”.
ومن خلال تلك العملية، مرّر مركياني رسالة مشفّرة إلى الحكومة الفرنسية مفادها، أنه في حالة تنفيذ ما يطلبه الجنرالات الجزائريون، أي تنظيم عملية طرد معارضيهم من فرنسا، سيبذلون جهدًا للإفراج عن الرهائن. ورغم معارضة أسلوب الابتزاز الذي قام به الثنائي باسكوا مركياني، فهم آلان جوبي، وزير الخارجية آنذاك، الرسالة واستسلم لطلب ماركياني والجنرالات، واضطر لإقرار عمليات المداهمة العنيفة التي قام بها باسكوا في أوساط الإسلاميين، تحت عدسات كاميرات القنوات الفرنسية الرئيسية “عملية أقحوان”.
في المقابل قامت الجهات الجزائرية بتنفيذ الشق الخاص بها، في عمليات مماثلة، دائما بحضور كاميرات القناة الأولى الفرنسية للإفراج على المباشر عن الرهائن أحياء. وثلاثة أيام بعد عملية الاختطاف، تمّ القبض على 80 معارضا إسلاميًا من المقرّبين من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تمّ احتجاز بعضهم في منطقة فولامبري (Folembray)، فيما أُبعد آخرون إلى بوركينا فاسو، لا يزال بعضهم هناك إلى يومنا هذا، منهم الأستاذ المحامي أحمد سي مزراق، أحد محاميي الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
أمّا الأدلّة التي ما فتئ باسكوا يلوّح بها أمام كاميرات المحطات التلفزيونية تبريرًا للمداهمات المخطّط لها سلفًا، فقد ثبت لاحقًا أنها لم تكن سوى عملية مدبّرة، ولم تكن سوى عبارة عن وثيقة وضعها جهاز ماركياني (DST) في حقيبة موسى كراوش، في شكل بيان يتبنّى فيه الجيا عملية اختطاف الزوج تيفنو وفريسيي، ثبت بالدليل القاطع أنّ الوثيقة المزعومة هي من صنع مديرية الاستعلامات والأمن، تمّ تصويرها في باريس وتقديمها على أنها الدليل المادي لتوريط الأشخاص الذين تمّ اعتقالهم.
وبعد مضيّ ثمان سنوات عن الحدث، اعترف القضاء الفرنسي بشكل رسمي أنّ الشرطة الفرنسية قد زوّرت الأدلة بخصوص هذه القضية حيث صرّح رسميا القاضي روجي لولوار الذي تولّى الملف آنذك، أنّ تلك الأدلة (الوثيقة المصورة) كانت مزوّرة، وتمّ تسريبها من قِبل عناصر الأمن في بيت السيد كراوش. والمثير للانتباه أنّ وسائل الإعلام التي غطّت بشكل مكثّف عمليات المداهمات في أوساط المقرّبين من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لم ينبسوا ببنت شفة لا بشأن الإفراج عن معظم من تمّ القبض عليهم، دون توجيه أيّ تهمة، ولا حول تصريح القاضي الفرنسي في عام 2000 بخصوص تورّط مصالح الأمن الفرنسية من جهاز الدي أس تي (DST) الفرنسي والدي أر أس (DRS) الجزائري في دسّ دليل مزيّف، لتبرير عملية “الأقحوان”.
وهكذا مع فاصل عقدين من الزمن، يجد ألان جوبيه وزير الخارجية الفرنسية، نفسه في الوضع ذاته، رهينة فريق باسكوا، مجسّدًا في تلميذه الوفيّ كلود ﭬيون.
وعلاقة ألان جوبيه المتردّية بكلود ﭬيون لا تخفى على المراقبين للمشهد السياسي الفرنسي. فمن المعلوم أنّ ألان جوبيه لم يقبل بمنصب وزير خارجية في حكومة فرانسوا فيون إلا بشرط تنحّي كلود ﭬيون من الأمانة العامة للرئاسة، وذلك لتدخّله السافر في ملفات السياسة الخارجية للدولة، وللمنزلة التي يحظى بها لدى ساركوزي، فقد كان يلقّب بـ”الكاردينال”، و”رئيس الحكومة الثاني” و”نائب رئيس الجمهورية”.
وبالفعل تصادف تعيين ألان جوبيه على رأس الكي دورسيه في 27 فبراير 2011 مع إعفاء كلود ﭬيون من الأمانة العامة لقصر الإليزيه وتعيينه وزيرًا للداخلية. غير أنّ مخاوف جوبيه لم تزل حتى بعد هذا التغيير في مهام ﭬيون، على الأقل في ما يخصّ السياسية الجزائرية لفرنسا، لأنها تدار أساسًا من طرف وزارة الداخلية، بالضبط كما كانت تُدار في الحقبة الاستعمارية.
وللتذكير فإنّ جوبيه وﭬيون سبق وأن التقيا في ممرّات الحكومة الفرنسية وأن اختلفا في التعامل مع الملف الجزائري عقي انقلاب 1992. فقد عيّن إدوار بالادور في حكومته، التي استمرّت من نهاية مارس 1993 إلى منتصف ماي 1995، ألان جوبيه وزيرًا للخارجية وشارل باسكوا وزيرًا للداخلية. وقام باسكوا مباشرة بعد توليه الوزارة بتعيين ﭬيون، الذي تعرّف عليه حين كان موظّفًا في مقاطعة الهو-دي-سان (Hauts-de-Seine)، والذي كان يشغل منصب والي مقاطعة الألب العليا منذ 1991، كنائب مدير ديوان وزارة الداخلية، ثمّ عيّنه بعد أشهر، سنة 1994، مديرًا عامًّا للأمن الوطني وبقي في هذا المنصب إلى سنة 1998، فكان بذلك هو من تعامل مع قضية طائرة الإيرباس في 24 ديسمبر 1994 ومع تفجيرات باريس في صائفة 1995.
إنّ كلود ﭬيون مثله مثل نيكولا ساركوزي ترعرع تحت عباءة شارل باسكوا الذي دفع بكليهما إلى الواجهة السياسية الفرنسية. وحتى عودة ﭬيون إلى الداخلية في 2002 حين كان ساركوزي وزيرًا لها، بعد غياب لمدة أربع سنوات، كان بتدخّل من باسكوا. ولذا فليس من المستغرب أن يقوم ﭬيون، كردّ للجميل، في أبريل 2010 بالدفاع عن باسكوا أمام المحكمة في قضية “كازينو أنماس” التي تعود وقائعها إلى سنة 1994، وهي واحدة من العديد من قضايا الفساد التي تورّط فيها باسكوا.
ومع باسكوا تعرّف ﭬيون على شبكات الفرنسأفريقيا (Françafrique) والفرنسجزائر (Françalgérie) وربط علاقات وطيدة معها، ولذلك فأوّل شيء قام به حين عُيّن أمينًا عامًّا للرئاسة في 2007، هو استبدال الدبلوماسيين “الإصلاحيين” بزعماء تلك الشبكات الموازية التي يتحكّم فيها، والتي تُسطّر إلى يومنا هذا السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا والجزائر على وجه الخصوص، في بعض الأحيان في تناقض مع توجهات السياسة الخارجية التي يعدّها الكي دورسيه.
وإذا كان ألان جوبيه قد رضخ عقب انقلاب 1992 واضطر إلى الاستسلام لابتزاز شارل باسكوا، ومنح الضوء الأخضر لـ”عملية الأقحوان”، فهل سيستسلم هذه المرة أيضًا في قضية اعتقال الدكتور مراد دهينة لسياسة الفرنسجزائر التي ينتهجها ﭬيون سليل باسكوا، الوزير المتحضّر الذي يهوى الأدب الأمريكي ويستمع إلى معزوفات موتزارت والذي صرّح في بداية هذا الشهر أنّ “الحضارات ليست متساوية”، أم أنه سيكفّر عما مضى رافضًا الانزلاق والتصديق على إجراء ظالم تحت ذريعة وجود سجل عدلي، فرنسا هي أوّل من يعلم طابعه السياسي، مع الأدلة المؤيّدة.
رشيد زياني-شريف
عضو مجلس حركة رشاد
19 فبراير 2012