معارضة الانقلاب
جاء توقيف عملية التحوّل الديمقراطي ليحطّم تلك الأحلام، ويحبط الآمال ويقلب مجرى حياة مراد دهينة رأسًا على عقب، مثلما قلب مصير الملايين من الجزائريين. ففي 11 يناير/كانون الثاني 1992، قام الجيش بالانقلاب على أوّل انتخابات برلمانية حرّة ونزيهة منذ الاستقلال، منحت نتائجها الأغلبية البرلمانية لحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بما لم يتفّق مع النمط الذي كان يتوقّعه الجيش، أي تقديم واجهة ديمقراطية للبلد، ليس أكثر.
فقام العسكر بإلغاء نتائج هذه الانتخابات، وتحييد الرئيس الشاذلي بن جديد واستبداله بالمجلس الأعلى للدولة، مع المباشرة في عملية تدمير الجبهة الإسلامية للإنقاذ وهياكلها، حيث تعرّض الآلاف من أطر وأعضاء وأنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، سواء الفعليين أو مجرّد المشتبه فيهم، إلى الاعتقال أو الترحيل دون أدنى تهمة نحو معسكرات الاعتقال في الصحراء، ذاق العديد منهم أشدّ أصناف التعذيب. وردًّا على عنف الدولة، لجأت بعض الأطراف المتناثرة من أنصار الحزب، ممّن نحَوا إلى التطرّف نتيجة ما لاقوه من قمع جسيم، إلى انتهاج سبيل العنف المضاد، من خلال قيامهم بقتل عدد من عناصر الشرطة والجنود والموظفين المدنيين. وهكذا غرقت الجزائر في دوامة من العنف، تصاعدت حدّتها، لتخلّف بعد عقد من الزمن، مآسي فظيعة، راح ضحيتها ما لا يقلّ عن 200 ألف قتيل [29] – 500 ألف قتيل وفق تقدير رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، الأستاذ عبد النور علي يحيى [30] – ومئات الآلاف من السجناء السياسيين وتقريبًا نفس العدد من ضحايا التعذيب [31]، وما بين 12 و 20 ألف من المفقودين [32]، وعشرات الآلاف من الجرحى ومليون ونصف نازح داخليًا [33] ومئات الآلاف من المنفيين.
ورغم أنه لم يكن عضوًا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فقد أدان مراد دهينة عملية الانقلاب العسكري فور وقوعها، وقرّر معارضة خطة الانقلابيين، دون أن يغيب عنه ما سيكلّفه الالتزام والنزاهة السياسية من ثمن باهظ، في ظل الديكتاتورية، سواء كان ذلك الموت، أو الاعتقال أو النفي أو العزلة. وحتى انطلاقا من خارج الوطن، لم يكن اتخاذ القرار أمرًا سهلًا، نظرًا لما حظي به الانقلاب من دعم من الدولة الفرنسية والقوى الغربية، بالإضافة إلى حملة الدعاية واسعة النطاق، التي انتشرت كالهشيم بهدف شيطنة كلّ من يعارض مشروع الجنرالات الجزائريين. وفي هذه الظروف الحسّاسة، انخرط مراد دهينة في حملة إعلام للرأي العام الدولي عن انتهاكات حقوق الإنسان في الجزائر، وقام بتنظيم العديد من الفعاليات لهذا الغرض. وعندما قام الجنرالات بحلّ الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مارس/آذار 1992، من خلال استصدار قرار إداري، قرّر مراد دهينة، احتجاجا على ذلك، الانضمام إلى صفوفها في الخارج كمناضل، وبفضل كفاءته وانضباطه ومنهجه القائم على أسلوب التوافق، وتفانيه في خدمة ما يؤمن به، سرعان ما برز كشخصية تحظى باحترام واسع ولها صوت مسموع من قِبل مسؤولي وأطر الحزب.
وفي الذكرى السنوية الأولى للانقلاب، في يناير/كانون الثاني 1993، قام مراد دهينة بتنظيم حلقة نقاش في جنيف، شارك فيها الأستاذ عبد النور علي يحيى رئيس الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، للتعريف بما يقع في الجزائر من انتهاكات، مثل الاحتجاز التعسفي، والاعتقال في معسكرات الصحراء والتعذيب المنهجي للمعتقلين السياسيين.
وفي عام 1994، شارك مراد دهينة مع مجموعة صغيرة من الأصدقاء، في تأسيس دار “الهوﭬار للطباعة”، تولّت نشر تقارير عن حالة حقوق الإنسان في الجزائر، وتحوّلت في ما بعد إلى “معهد الهوﭬار”، وتعلّم مراد دهينة من خلال التجربة الميدانية مهنة الطباعة بالأوفسيت، وتكفّل بنفسه بطباعة أولى منشورات معهد الهوﭬار، ومنها الأجزاء الثلاثة للكتاب الأبيض عن القمع في الجزائر [34]، الذي تمّ حظره في التراب الفرنسي [35].
![]() |
![]() |
![]() |