التقيت شيخاً رثّ الثياب يحمل عصا… تعرّفت عليه من خلال الإقامة التي كانت تجمعنا. كان يراقب حركاتي وسكناتي بدقة المجرّب والخبير…
وذات يوم دخلت المطبخ المشترك لأحضّر وجبة الغداء، وعند جلوسي لتناول الغداء في نفس القاعة، أي مطعم ومطبخ، جاءني شخص من مدينة بالغرب الجزائري يقطن في نفس المكان. فاجئني بحديث لم أسمعه في حياتي…
ولم أكن أدري ما هو سبب مجيئه إلى قاعة المطعم ومخاطبتي بذلك المستوى المتدني… قال لي انهض، فاندهشت من تصرّفه، وحدّقت فيه، فكرّرها صارخا: قلت لك انهض… فقلت له لماذا ولم أكن أفهم ما يريد، لأنه لم يسبق وأن تناقشت معه؟ وكأنه أصيب بالجنون، قال: هذا مكاني، فقلت له يا رجل هل تعي ما تقول؟ فقال: نعم ،قلت لك انهض ولا أريد أن أطيل معك، انهض وانتهى الأمر…
فقلت له أريد أن أفهم منك، هل أنا في مسكنك أو في مطعمك لا قدّر الله، وهل اعتديت عليك؟
فقال: هذا كرسي أجلس عليه منذ عشرين سنة ولا أريد أن أراك جالساً عليه…
فضحكت حدّ القهقهة، وقلت له: هل اشتريته بمالك؟ هذا الكرسي تابع للإقامة وليس من حقّك احتكاره…
فبدأ يصرخ ويصرخ….وكأنه أصيب بالكلَب؟ سمع ذلك الشيخ الذي تجاوز الخامسة والسبعين من عمره وأدرك مراده. وبمجرد أن فتح ذلك الشيخ الجاهل “الذي لا يقرأ ولا يكتب” باب حجرته، أخفت الظالم والمعتد ي صوته… فقلت له: هل تعتقد أّنّني دون وثائق وجئت أسكن في هذه الإقامة؟ فسكت برهة، فأخرجت له ورقة الإقامة وقلت له: أسكت أو ناديت الشرطة، فانصرف…
أكملت غدائي ودمي يثور… حملت محفظتي وخرجت متوجّها لمسجد باريس أين كنت أدرس آنذلك… فسار الشيخ من ورائي وهو يناديني: يا سي محمد، يا سي محمد، وكرّرها ثلاث… فالتفت، وإذا به الشيخ فلان من “مدينة بريكة ” تقع بين ولاية باتنة و بسكرة بالجزائر…
سلّم عليّ وقال لي: أريد أن أتحدث معك في أمر مهم يا بني… فقلت له باسما تفضل… قال لي ما رأيك فيّ؟ فقلت له: لم أفهم سؤالك أيّها الشيخ، فقال: أقصد حالتي وهو يضحك… يلبس قندورة ممزّقة ومخيّطة وحذاء مقطع… فقال لي: أنظر إلى هذه التقطعات في لباسي، هل تعتقد أنني أعجز على لبس ثوب أحسن من ثوبك وأشتري آخر حقيبة دبلوماسية وأشتري آخر جوال وأسوق آخر سيارة؟ هل تعتقد أنك أشطر مني؟ ثم قال لي: يابني، هذا الشخص له عشرين سنة وهو يستيقظ على الرابعة صباحا، وينام في نفس السرير ويجلس في نفس الكرسي… جئت أنت البارحة لتراه بهذه الهيئة…
ثم ظل يسرد علي بعض القصص وختم بنصيحته الذهبية التي أصبحت لا تفرقني وهي: أنت على حق يا وليدي ولكن لمن لا يعرفك يعتبرك ظالم. فقلت له: كيف؟ فقال لي: يا ولدي أنا الشيخ العجوز… أمتلك عدّة شاحنات وعدة سيارات وبيوت وهيأتي تجعل الإنسان يبتعد عن طريقي. أما أنت فلا تملك قوت يومك وعندما يراك شخص يعتقد من أنك رجل أعمال… ولو يراك الناس في هذه الهيئة الآن، ويرونه كما هو لأعطوه الحق ولو كان ظالما… الحمد لله أنني كنت شاهدا على ما سمعت…
فوجدت في كلامه منفعة وأخذت منه الحكمة، حتى ولو لم يكن هذا الشيخ على صواب… لأنّ الله سبحانه وتعالى خلقنا ورزقنا وقال: “وأمّا بنعمة ربّك فحدث”… فيحب أن يرى أثر النعمة على عبده…
عندما أتذكر ذلك الشخص الذي أمرني بأن أنهض من الكرسي، أقول في نفسي: كيف ينزل السلاطين والملوك من عروشهم؟ ثم أستدرك فأقول: وعسى أن تحبوا شيئا وهو شرّ لكم؟
مغزى الحديث: أن هناك أناس معهم الحقّ وقد فازوا بالانتخابات الشفافة والنزيهة… ولكن تصرّفاتهم وأسلوبهم يجعل الناس يتضامنون مع من هم في النظام… لأنهم لم يعرفوا الطريقة الصحيحة التي يستردّون بها حقّهم المشروع.
كم من شخص على حقّ وعلى بينة، عوض أن يأتي بحقه بأسلوب هادئ يجذب الناس، تراه يعطي خصمه الهدايا بل يعطيه مفتاح السرّ ويعطيه المبرّرات ليأخذ منه الحق…
ها هو شخص مجرم قاتل… هذه الأيام وجد السند والدعم من خلال اللعب على وتر تاريخي لاستعطاف الجزائريين والجزائريات، فيما الضحية لا تزال تهمة الإرهاب تطارده حتى وهو في قبره.
نور الدين خبابة
8 أوت 2011