جاء في العلم النبويّ أنّ الدماء هي أوّل ما يُقضى فيها بين الناس يوم القيامة ومع ذلك، لم يتـّعـظ أكثر طلاب المُـلك على طول تاريخ المسلمين ـ إلاّ ما كان من اسـتـثـناءات شهدتها الخلافة الراشدة أو جسّدها ـ في ندرة ـ حكام آثروا آخـرتهم على دنيانا!
إن الدّماء ما سالت بين المسلمين، على طول القرون، مثلما سالت عندهم اقتتالا على السلطان ـ سواء أقال ذلك الشهرستاني أم الحلـّي أم ارتاب منه ابن تيمية!
وهل يبالغ المرء إذا حسب ـ جزافا ـ أنّ الدم المسلم الذي سال ـ طاهرا ـ في ساحات جهاد ضدّ الكفار المعتدين كان أقـلّ حجما من الذي ضاع هـدرا بين مسلم ومسلم بـسـبب كرسيّ حكم؟
انظروا إلى تاريخ السّلاطين الذين حكموا الأمّة المسلمة: فكم منهم لم يعـتـلِ العرش على تلال جماجم ووسط شلالات دم؟
وكم منهم كان خـيلفة، وكم منهم عاش مَـلكا؟
ثمّ أين هي السّـلالة أو العصبة التي لم تـَـبـن مُـلكها على السـيف ترهيبا، وعلى الصرّة تـرغـيـبا؟
وأمام هذه العروش المحْمرّة بالدم المسلم البـريء، وقف كثير من السّادة الفقهاء حيارى.
بل سرعان ما وجدوا أنفسهم وسط معـضلة لم يفلت منها، إلى اليوم، إلا قـليل!
فهُم يُحرّمون الخروج على السلطة القائمة، بينما لا يتوانون في الإقرار بشرعية الحـُـكم الناجم عن ذلك الخروج ـ بعد أن يمسي أمرا واقعا!
فكأنما يمكن تشـبيه تلك الصورة بإنكار زواج، مع الاعتراف بما تبعه من إنجاب!
إنّ المسألة تـقـترب هنا من نوع آخـر من الاسـتـلحـاق، بعـد ذلك الذي استفاد منه ـ عسـفا ـ زياد ابن أبيه أو ابن أمـّه!
بل كأنـّـه “اسـتـلحـاق سياسـي”!
ولو أنّ اقـتـتال المسلمين أسال تلك الدماء الغـزيرة العـزيزة بين أهل الحق وأصحاب باطل، لخـفـّـت المصيبة سياسيا وفقهيا، ولـقال أولو الألباب: هو الحق يحتاج تمكينه إلى فاتورة حتى يخسأ الباطـل المعـتـدي.
ولكنّ المأساة الأخـرى أنّ الحديد في حالات معـيّنة هو الذي كان الحاسم التاريخيّ بين دعـاة “حـقّ” ودعـاة “حـقّ”!
وهنا منبت الداء السيّاسـي الناجم عن سوء تسيير الخلاف الفطري والتنوع الشرعي.
فكلّ طائفة استيـقـنـت الصّواب ـ “الشرعـي” ـ في موقفها، أو هكذا زعمت!
وزاد في الطين بلة أنّ كلّ فريق منهما قد احتكم إلى الحسام المهـنـّـد!
فكأنّ “صوابا” ينازع صوابا!
ولكن بالعدة والعدد! بالقوة المادية!
أمّا البـيعة ـ القـسـرية أو المُغـرية ـ فقد كانت آخر هموم الفائزين في ساحة الوغـى!
ثمّ ألـَـم يكن سهلا على الغالبين ـ بعد الاستحواذ على الكرسي ـ أن يُـحضروا جماعة من “أهل الاختيار” أو “الحلّ والعقد” كي تـتـمّ جمركة سرقة المُـلـك!؟
ولو أنهم سُمّوا “أهل العقد… والحلّ” لكان خيرا، إذ كيف يكون حلّ قبل… عقد؟
وهكذا سارت المبايعة شبه تلقـائية من قـِـبل جموع ضعيفة باختيارها حينا ومسـتضعـفة مكرهة حينا آخر.
وهل كانت كلّ النفوس بعـزّة ابن الزبـير أو بإبـاء حسـين أو برجولة ابن جبير؟
لم يبخل بعض الفقهاء بإسهام لاشعوري في شـدّ مـُـلك جبريّ هنا وهناك.
ذلك أنّ منهم، خارج الأئمة الأتقياء، من أعانوا على باطل إلزام الأمـّة “طـاعة” أصبحت لصيقة باسـتعباد، بعد أنّ انفلتت من إطارها القرآني، فأصبحت “واجبة” ـ في منكر وفي معروف، على حـد سـواء!
ثمّ استمـرأ الناس الغلبة في الاسـتـئـثار بالحكم، وسط إفتاء بعض الأصـوات بصحّة البيعة إذا ما أقدم عليها بضعة أشخاص ـ حتى قـيـل نشازا أنـّـه يكفي فـي ذلك رجلان اثنان!
رجلان!؟ اثنان!؟
وربّما اكـتـُفِي في ذلك بحاجب الأمير الجديد الغالب وبمـُـهـرّجه في ليالي السّـمـر العابثة الماجـنة!
لقد كان أهل السلطان في غفلة عن قول النذير الصادق ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يحـدّث النـاس عن الإمارة: “… وإنها يوم القيـامة خزي ونـدامة، إلا مـَـن أخذها بحقـّها وأدّى الـذي عليه فـيها”.
”أخذها بحقـّها”: فيكون الحكم شـرعـيّـا في المنبت.
و”أدّى الذي عليه فيها”: فـتـصـيـر ممارسة السلطان ”شـريعـيا”ـ غير مخالف للشريعة.
وقد يجد أهل الفقه الدستوري في هذين الشرطين مفتاحين، فيقال حـيـنئذ في أوساطهم: هما الشّرعية أوّلا والمشروعية ثانيا…
أو قـلْ هما الشـرعـيّة من جهة، و”الشـريعـيّـة” من جهة ثانية ـ ما دامت مشتقات لفظ الشرع قد اختطفتها المنظومات الوضعية ـ بمجاليها الغربي والمستغـرب…
* * *
مع بدء الملك العـضوض، غابت عن المسلمين مكرمة اتكاء الحق على رضا الأمّة.
ثمّ صار الأمر عاديا إلى أن أصبح ذلك جزءا من ذهنيّـة المسلم!
وانتهت تلك “البرمجة” بـ”الصحوة” إلى أن تصارعت أجنحتها أو تنظيماتها على وضع اليد على هذا المسجد أو ذلك المركز الدعويّ، قـبل أن يخـتمها أفـغان باقـتـتالهم في شوارع كابول، بعد أن أبلوا ذلك البلاء الحسن ضدّ العـدى الشيوعي المقبور!
هل كان أهل أفغانستان المتـقاتـلون يـُـضحكون الأعداء والخصوم على المسلمين لو أنـّهم ساروا بعد دحـر جيش موسكو على ما سار عليه الصحابة الكرام بعد أن غادرهم المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى دار الخلد؟
فعندما يتعـدد ادّعاء الحـق، لا يبقى سوى سـواد الأمّة فـيْصلا منصفا.
وإلاّ كيف يُحـكـَم بين حجج هذا الفريق وحجج ذاك؟
بين أدلة هذه الجماعة وأدلة تلك؟
فالمسألة ذهنية، ومناط الحق فيها صعب تحديد تخومه، ناهيك عن كُـنهه!
رضي الله تعالى عن الصحابة الكرام.
فقد كان الإمام عليّ يرى نفسه أحق بالخلافة من غيره، ولـكـنه قبِل في النهاية حكم من سـبقـوه من الراشـدين.
ذلك أنـّه لم يـخفَ ميـل الأكثريّـة إلى غيره.
وهـذا ما ينبغي أن يـتـسامح فيه الشـيعـة.
ولـم يكن ذلك أبـدا انتـقاصـا من قـدرات الإمام.
وذاك ما ينبغي أن تـعـيه جيدا جموع السـنـّـة.
إنّ اتـّـباع “سبيل المؤمنين” ـ بعد الفلتة الموفـّقة في سقيفة بني ساعدة ـ لا يمكن أن يكون ضلالة…
ويرحم الله تعالى الأنصار ـ “وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار” ـ وقد تنازلوا بأريحية ـ وهم أهل الدار، دار الهجرة ـ عن الخلافة والوزارة معـا، بعد أن طلبوا في السقيفة مجرّد نصف الإمارة!
أجل! الأمّة المسلمة حَـكَـما، ابتداء من حُسن اختيار سيدنا أبي بكر ـ وعـبر الأغـلبية.
وتلك هي “الحَكـَميّـة”.
فهل نسينا حـلّ الـتحـكيـم المذكور في سورة النـّـساء الجليلة: “فابعثوا حـَـكما…”، بما لا يتعارض مع الآية 114 من سورة الأنعام؟
إنها الحَـكـَميّة التي تفصـل سياسيا في الترشِيحات من جهة، وبين البرامج المستطابة من جهة أخرى.
وإلاّ كيف يُـفكّ الخلاف بين تنظيمات مسلمة يدعو أحدها إلى حظـر عمل المرأة وثانيهما إلى تشغيلها مطلقا، بينما يقـترح ثالـثهما المشاركة بضوابـط في الحياة العمومية؟
ونعم، مرة أخرى: الشعب المسلم حَـكـَـما.
فبذلك يُغـسـَل “الكرسيّ” من دماء المؤمنين البريئة ويـستحضـر الناس حُـرقـة عـليّ: “عـلامَ يـتـقـاتـل الناس يا معـاوية”؟!
ثم فـيمَ تنفع إذن عصمة الأمّـة التي لا تجتمع على ضلالة؟
أم أن حلفاء علـوّ في الأرض يريدون أن تبقى الأمّة الوسط قطعانا من الأنعام، لا أن تكون شهيدة على الأنـام؟
وبمثـل حَـكَـمـيّـة الأمّة هذه، يتمّ انتـفاء غلبة سيف و”إمارة استيلاء” و”خروج”.
ولكن بعـد أن يـُجتـث الغـصْـب.
ويزول الطغيان.
ويختفي توأمه الإسراف.
فـتـنـام عندئذ الفتن.
ويتبع ذلك مـَأسَـسَة الإدالـة، فتكون الـدَولـة دُولة… لا حكرا على هذه الفئة الأنانية أو تلك!
إنّ المرء يكاد يُجنّ وهو يرى أمّة اختارت خليفتها الأول منذ نحو 1400 سنة، وهي، بعد الخلافة الراشدة، غارقة بسبب السلطة في بحار دماء دونها بحار!
والذي يدمي القلب هنا أيضا أنّ الكفار أصبحوا، قبل أكثر من قرنين، أكثر حرصا منا، نحن “المسلمين”، على الدماء الداخلية ـ وقد حلوا سلميا معضلات نبوت وقوت وموت السلطة!
و كان حقا على “الإسلاميين” توطين أنفسهم في كلّ بلاد الإسلام على قبول رأي الشعب المسلم الحرـ في أي اتجاه سار!
فإنْ زكـّـتهم الأمـّة فـ »ذلك ما كـنا نبغ«، وإن لم تفعـل، فلا تكفـير لها ولا تفـسـيق.
وعليهم، عندئذ، ألا يلوموا إلا أنفسهم بأن أساؤوا التبليغ أو العرض!
ذلك أنّ قبول الشعب الإسلام لا يعـني رضاه بكـلّ ”إسـلامـيّ” أطـلـق لحـيـة أو بـيّـض ثوبـا!
فالدّواء الربانيّ شيء، و”الطبـيب” ـ إن كان طبـيـبا ماهرا ـ شيء آخـر!
وإن اتهَم الشعبَ بعضُ “أنصاف الديمقراطيين” (DEMIcrates ou démocrates non-pratiquants) من ضحايا التغريب بشيء يشبه العته النفسي عندما لم يخترهم، فإنه ينبغي التأكيد على فطام أنصار المشروع الإسلامي، إن عاقبتهم الأمـة بحق، عن الوقوع في خطيئة إخراجها من الملة أو التبرؤ منها…
كما أنّ أهل “الصحوة” أنفسهم يحتاجون، في ما بينهم، إلى إيلاف هذه الحقيقة التي نسيها بعضنا في غمرة استسهال التمكين.
فاختلاف فـُهـوم أصحاب المشروع الطيب ـ أشخاصا وجماعات ـ هو أحد دواعي تعـدّدية المشهد السّياسي لديهم، حـتـى بعد التمكين.
ذلك أنه في ظلّ الصراط المستقيم الواحد، سنرى كيف تكون الأمّة حَـكَـماً بين السـّبل الشرعية المتنوعة: “والـذين جاهدوا فينا لنهديـنّهم سُبـُلـَـنا”.
إنّ تنوع السّبـل هذا ـ من القرآن الكريم ـ هو الذي يـُـفضي إلى تعدّد الاجتهاد ـ فقهيا وفكريا وسياسيا ـ، مما يجعل التنظيمات والبرامج شـتـّى، وهي تـنبثـق أسـاسـا من الخط الرساليّ الحضاريّ الواحد.
أم أننا نريد أن نـُـحكم بفرعونية مستعـبـدة مستبدّة ـ لا نستبشعها إلا عند الآخرين: “مَا أُرِيـكـُم إِلا مَا أَرَى”؟
هكذا يـتـضح إذن صرح المرجعية، لدى الأمّة المسلمة، شـرعـيا، حـرا، عادلا، قـويا وسـلـسا:
فنحن أمام أحْـكميّـة الله تعالى، أوّلا، في قمة الهرم المرجعيّ والنصوصيّ ـ فلا معـيشة ضنكا…
تليها، ثانيا، “حَـكـَمـيّـة” الأمـّة وهي تختار بين السّـبل الشرعية، عـبر ما يتفرع عن تنوّعها الطـّيب من قيادات وتنظيمات وبرامج.
ولأولي الأمر، ثالثا وبعد ذلك، حاكـمـيّـة خاضعة لتلك الأحكمية الإلهية الجليلة، بعد أن يفـرزها، بوعي وبحريّة، اختيارُ شعـب مسـلـم مسـلـِّـم تسليما!
ذلك هو الصّرح الحـُـكميّ الثلاثي الذي لا تؤذى معه ألوهية جليلة ولا تـُـبعـد فيه أمّـة ولا يـُـبـقىَ معه على علوّ في الأرض!
وبعـد ذلك كلـّه…
قد تكون نواة خلافة سـياسـية، متبوعة باسـتخلاف حضاريّ…
فـمتـى؟ وأيـن؟
”إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”…
أحمد بن محمد
22 أوت 2008
المصدر: يومية الشروق الجزائرية