ونظرا لما سبق ذكره، كان لزاما –شرعيا وسياسيا وأخلاقيا- على قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ الأوفياء لمشروعها وتضحيات رجالها طرح مبادرة سياسية كمخرج للخروج من الأزمة السياسية والإجتماعية والإقتصادية وايقاف التدهور الأمني بعد أن بلغ الفساد والإفساد السياسي مداه وتصاعد حركات الإحتجاج والتململ الشعبي على أكثر من صعيد، مما ينذر بالخطر إن لم يستدرك على عجل.
أما معالم وكليات المبادرة السياسية التي نراها كفيلة بالخروج من الأزمة السياسية الخانقة فيمكن تلخيصها فيما يلي، وهي صالحة للإثراء والتعديل والتطوير من طرف الجميع، سلطة ومعارضة وقادة الفكر والعلم من خلال عقد مؤتمر أو ندوة وطنية تعقد لهذا الغرض النبيل.
أولا: الإصلاح السياسي:
مما لا شك فيه أن كل الإصلاحات مآلها الفشل والواقع أكبر شاهد على ذلك ما لم نتجه بكل شجاعة رأسا إلى إحداث إصلاح سياسي شامل ولكن لب الإصلاح السياسي الهادف يتمثل في الإصلاح الدستوري الشامل والعميق وليس مجرد تعديلات جزئية لا تسمن ولا تغني من جوع، إن الإصلاح الدستوري وهو ذلك الذي يضع بكل دقة ووضوح قواعد النظام السياسي الذي يرد للشعب حريته، وكرامته، وحقه في التمتع بخيرات بلاده، وحقه في اختيار ممثليه بكل حرية بعيدا عن الضغط والإكراه والتزوير بجميع أشكاله، كما يعيد للشعب سيادته داخليا وخارجيا بعيدا عن اكراهات الداخل، وهيمنة الخارج، كما يرسم بدقة الصلاحيات والمسؤوليات ويجعل حدا للتداخل بين الصلاحيات والسلطات والمؤسسات ويفصل بوضوح في النظام الأنسب بين الرئاسي والبرلماني، ولن ينجح الإصلاح الدستوري الشامل إلا عن طريق مجلس تأسيسي منتخب، أمّا الجري وراء التعديلات الظرفية المزاجية ذات الطابع السلطوي الإستبدادي الذي يوسّع صلاحيات الرئيس ويضيّق حقوق الشعب وحرياته الأساسية فلن تجدي نفعا، ولن يعود على الشعب بأي خير، ولن تستفيد منه إلا السلطة الخفية الفعلية النافذة.
ثانيا: الدعوة إلى عقد مؤتمر أو ندوة وطنية:
إن الهدف من وراء عقد المؤتمر أو الندوة الوطنية لجميع الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية دون اقصاء أوتهميش تهدف بالدرجة الأولى إلى دراسة أسباب الأزمة، ومراحل تطورها، وسبل ووسائل الخروج منها، وفتح حوار حقيقي وجاد يقلع جذور الأزمة من أصولها، وتحقيق مصالحة حقيقية بعد الفشل الذريع لقانون السلم والمصالحة الأحادي الجانب القائم على الإقصاء وتجريم من عمل داخل الشرعية ومنح الحصانة لمن انقلب على الشرعية الشعبية الدستورية والخروج بقواسم مشتركة يتعهد الجميع باحترامها، والتزامها سلطة ومعارضة مما يرسخ الوحدة الوطنية وممارسة التعددية الحقيقية لا الزائفة الشكلية واستعادة السلم والأمن السياسي والإجتماعي والنفسي، مما يعيد للشعب عامة والشباب خاصة الأمل في مستقبل زاهر كما يعيد للجزائر مكانتها الدولية بعد الإنحسار الديبلوماسي المريع وتراجعها في مناصرة القضايا العادلة في العالم العربي والعالم الإسلامي، ومن الأليق أن ينبثق عن المؤتمر أو الندوة الوطنية لجان لمعالجة كل من جوانب الأزمة السياسية الإجتماعية والإقتصادية والأمنية والثقافية.
ثالثا: حل المجلس الوطني الشعبي:
بعد القيام بالإصلاح السياسي المنشود وعلى رأسه الإصلاح الدستوري بالطريقة السالفة الذكر لا بد من حل المجلس الوطني الشعبي لأنه فاقد للشرعية التمثيلية والسياسية، والكل يعلم أن السلطة الفعلية قد قامت بإلغاء الانتخابات التشريعية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بل وقامت بالانقلاب على المؤسسات الدستورية في جانفي 1992 بدعوى أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ لم تحصل إلا على 3260222 صوتا من أصل 13258554 ناخبا وهذه النسبة في نظرهم لا تمثل الشعب حق التمثيل رغم أن نسبة المشاركة كانت 59% وحصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على 47% منها في الدور الأول ولا بأس أن نعقد مقارنة بين نتائج 11جانفي 1992 ونتائج 17 ماي 2007 ليظهر الصبح لذي عينين، لقد حصل الائتلاف الثلاثي المساند للسلطة الفعلية على 2459100 ناخبا من أصل 18760400 أي بنسبة 10/13، بينما حصلت الجبهات الثلاث التي تمثل عمق الشعب الجزائري بمختلف تياراته السياسية الكبرى والتي أصرت على ضرورة مواصلة المسار الانتخابي على 5383830 صوت من أصل 13258554 ناخب أي بنسبة 40،60% في الدور الأول، فأي التشريعات الأحق بالإلغاء “مالكم كيف تحكمون” !!؟ وأغلب النواب يمثلون السلطة ولا يمثلون الشعب والأدهى أن الذين فازوا في الإنتخابات فتحت لهم المحتشدات والسجون والذين سقطوا في امتحان الصندوق أعطيت لهم مناصب سياسية على مؤسسات الدولة!!! ولذاك نطالب بحل المجلس الوطني الشعبي على غرار حل المجالس البلدية والولائية لـ 06 ولايات استجابة لأرضية القصر الصادرة عن حركة العروش رغم فقدانها للشرعية الدستورية والقانونية!!! ولا يمكن لبرلمان فاقد الشرعية التمثيلية والسياسية وبتلك النسبة المتدنية أن يشرّع في أمهات القضايا المصيرية للشعب لسبب بسيط لدى العقلاء، ذلك لأن السيادة الشعبية لا يمكن أن تمارس بالتزوير والإقصاء وفي ظل حالة الطوارئ وبرلمان هذا حاله غير مؤهل لتغيير أو تعديل الدستور، فالشعب ليس قطيعا يساق كيفما اتفق.
رابعا: موعد إجراء الانتخابات المحلية :
إجراء الانتخابات المحلية بعد القيام بالإصلاح السياسي والدستوري الهادف وصياغة قانون دقيق للبلدية والولاية يهدف لأن يكون رئيس البلدية أشبه برئيس جمهورية مصغر على أرض بلديته ويتمتع بصلاحيات حقيقية وليس مجرد موظف سامي لا يتصرف إلا في الأمور التافهة التي لا تخدم المواطن ولا تعود عليه بأي نفع مادي أو معنوي كما هو مشاهد في معظم بلديات القطر مما جعل البلديات أشبه بأوكار فساد رسمية، فلا بد من قانون جديد يحرر رئيس البلدية من كل ألوان الضغوط الفوقية التي تجمد نشاطه نتيجة تنازع الصلاحيات مما يعطل مشاريع البلدية التي على أساسها انتخب رئيس البلدية شعبيا.
خامسا: الإجراءات التي ينبغي اتخاذها :
من أجل إحداث انفراج سياسي حقيقي لا بد من اتخاذ إجراءات تساهم مساهمة فعالة في تهيئة الأجواء النفسية والسياسية والأمنية وتمهد لعقد مؤتمر أو ندوة وطنية تحقق ما سبق ذكره من وجوه الإصلاح السياسي الشامل وترفع المعاناة التي يتخبط فيها ضحايا الأزمة ويمكن تصنيف الإجراءات إلى ما يلي:
أ-إجراءات سياسية:
1.رفع حالة الطوارئ وفتح المجال السياسي والإعلامي والدعوي والخيري واعتماد الأحزاب المعارضة المستقلة عن السلطة وكذا الجمعيات الخيرية، وأن يكون الاعتماد بمجرد الإخطار لا الترخيص لأن الحريات العامة ومنها حرية التعبير لا تحتاج إلى ترخيص.
2.رفع الحظر على نحو 39 تشكيلية سياسية حلت بعد قانون الأحزاب الإقصائي 6 مارس 1997 والذي يمنح وزارة الداخلية صلاحيات فوق الدستور وفي مقدمة الأحزاب التي يجب رفع الحظر عليها الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي فازت مرتين في إطار الشرعية الدستورية وبإشراف السلطة ذاتها وأن تكون الأحزاب حرة في اختيار مرجعيتها الفكرية والسياسية دون تدخل من السلطة التي تسعى لترويضها وتدجينها وتطويعها، فالسلطة ليست مخولة لتحديد مرجعيات الأحزاب أو تقيد الحريات العامة والحقوق الأساسية للمواطنين وشتان بين التنظيم والتقيد والتدخل.
3.رفع الممنوعات عن شريحة كبيرة من المواطنين الذين سلبت حقوقهم السياسية والاجتماعية والمدنية وحق اللاجئين السياسيين في العودة إلى أرض الوطن وتمتعهم بسائر حقوقهم المشروعة دون منّة أو تزلف أو إكراه معنوي أو مادي.
4.رفع الوصاية عن الإعلام الوطني بعيدا عن تهديدات مراكز النفوذ ومجموعات الضغط التي تريد أن تجعل من رجل الإعلام مجرد مرتزق أو كاتب ضبط أو ناطقين باسم السلطة الفعلية الخفية، وإيقاف العمل بالقوانين القمعية المسلطة على رجال الإعلام ورفع الحظر على الجرائد المعلقة.
5.ايقاف العمل بالقوانين والإجراءات القمعية المهنية المسلطة على الإئمة والتي تجعل من الإمام مجرد موظف تابع للسلطة، وليس داعية صاحب رسالة شريفة تقوم على التزكية والتعليم والإرشاد والنصح والصدع بكلمة الحق دون خوف من راع أو رعية.
ب.إجراءات ذات طابع إنساني اجتماعي:
1.إعادة إدماج العمال المطرودين بسبب أرائهم وقناعاتهم السياسية.
2.تسوية الأوضاع الاجتماعية لكل المسلحين الذين نزلوا من الجبال في إطار قانون الوئام المدني لسنة 1999 والذين مازال أغلبهم يعانون من التهميش والفاقة والعوز هم وعوائلهم، مما يدل على فشل قانون الوئام المدني الغامض الذي لم يطبق منه سوى 5%.
3.استدراك الثغرات الميدانية التي شوهت وعطلت البنود الخاصة برد الحقوق الاجتماعية والمدنية لشريحة كبيرة من المواطنين من قانون السلم والمصالحة رغم اعتراضنا عليه في جوانب كثيرة بالغة الخطورة.
4.الكشف عن مصير المختطفين والمفقودين وإطلاق سراح من هو على قيد الحياة والكشف عن أماكن رفات من توفي منهم، والتعويض المعنوي والمادي لعوائلهم المكلومة والتي تعاني من آلام وصدمات نفسية عميقة ومعاناة اجتماعية مريعة.
5.إطلاق سراح كافة مساجين الأزمة وإعادة إدماجهم في المجتمع مما يحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم.
6.التكفل بضحايا المأساة الوطنية دون تمييز أو انتقاء وفي مقدمة الضحايا الأطفال والنساء والأرامل وأصحاب الإعاقة لتجنب ردود فعل غير منتظرة مستقبلا.
ج. إجراءات للانفراج الأمني
1.التحقيق في جرائم الاغتيال السياسي الذي طال شخصيات سياسية من مختلف التيارات السياسية وكذا التحقيق في الجرائم الغامضة داخل السجون وخارجها وإنشاء لجنة وطنية منبثقة عن المؤتمر أو الندوة الوطنية من أجل العدالة والكشف عن الحقيقة وتحقيق المصالحة الحقيقية والعفو الشامل.
2.إيقاف جميع المتابعات القضائية والأمنية وإيقاف المداهمات والاعتقالات العشوائية القائمة على التعسف في استخدام السلطة والوشاية وتصفية الحسابات.
3.على القيادات العليا للأجهزة الأمنية المختلفة أن لا تتعامل مع قواتها الأمنية كأنها مجرد مرتزقة أو دروع بشرية في خدمة مصالح خاصة مشبوهة لا تمت إلى خدمة المصالح العليا للبلاد بصلة، فأغلب القيادات الأمنية العليا في العالم العربي والإسلامي أصبحت في خدمة المافيا السياسية والمالية لبرونات الفساد والإفساد.
4.فتح حوار حقيقي وجاد لا مع السياسيين فقط، بل مع حاملي السلاح لمعرفة مختلف الدوافع والمظالم التي دفعت بهم لحمل السلاح، ولقد علمنا التاريخ القديم والحديث أن جميع النزاعات المسلحة الداخلية والخارجية انتهت بحلول سياسية، والحل الأمني لا يمكن أن يكون بديلا عن الحل السياسي، وإننا لنعجب أشد العجب من أن هناك نزاعات مسلحة داخلية وخارجية، اندلعت بعد إيقاف المسار الانتخابي في 1992 في بلدان كثيرة وجدت حلولا سياسية حقيقية وبمشاركة حاملي السلاح مما سمح لهم بممارسة حقوقهم السياسية والدعوية والخيرية والإعلامية والأمثلة على ذلك كثيرة في العالم العربي والغربي، بل وجدنا بعض قادة العمل المسلح تولوا مناصب سياسية مرموقة، أما النظام السياسي الجزائري، مازال يتخبط في أزمته إلى يوم الناس هذا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لأن الحلول المطروحة كانت دوما انفرادية، أحادية، إقصائية من إملاء السلطة الفعلية النافذة فضلا على أنها مغشوشة لا صدق فيها ولا إخلاص.
سادسا: دعوة الرئيس لتجسيد معالم المبادرة :
تلك هي أهم معالم المبادرة السياسية التي نتقدم بها إلى رئيس الجمهورية بحكم أنه يمثل السلطة الرسمية ولما يتمتع به من صلاحيات دستورية تخوله اتخاذ الإجراءات اللازمة للخروج من الأزمة السياسية التي تنذر بالخطر على أكثر من صعيد، كل هذا نفعله نصحا، وإعذارا أمام الله تعالى، ولأن صاحب السلطة أولى وأقدر على تجسيد المبادرات ممن لا يملك إلا قوة الطرح وأن الله يزع بالسلطان ما يزغ بالقرآن، ولوكنا نحن في سدة الحكم لما تخلفنا عن تجسيد هذه المبادرة التي نراها كفيلة للخروج من الأزمة واستعادة الجزائر عافيتها على أكثر من صعيد، على رئيس الجمهورية إلى استدراك تفاقم الأزمة السياسية بنفسه عشية ذكرى عيد الاستقلال الخامس والأربعين، فيعمل بجد على عقد مؤتمر أو ندوة وطنية تتشكل من الشخصيات التاريخية والوطنية وقادة الأحزاب السياسية بما في ذلك قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ ورجال العلم والفكر والدعوة والثقافة ورجال الإعلام النزهاء المستقلين للخروج بأرضية مشتركة تكون المنطلق الحقيقي للخروج من الأزمة السياسية التي إن لم تعالج بسرعة وحكمة وشجاعة سياسية، يوشك أن يؤدي إلى الانفجار لا سمح الله تعالى، وأن يسرع بتشكيل حكومة إنقاذ وطنية مشكلة من جميع التيارات السياسية والدعوة إلى انتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور جديد يحدد بدقة معالم النظام السياسي الذي يعيد للشعب مكانته، وعزته، وكرامته، داخليا وخارجيا بعيدا عن التلاعب والمخادعة والانفراد باتخاذ القرار السياسي.
وأخيرا نرجو من الله تعالى أن لا تتعامل السلطة مع هذه المبادرة القابلة للتطوير والتعديل وإثراء كسابقتها منذ اندلاع الأزمة في 1992، ومهما يكن أمر، فقد عزمنا بحول الله وقوته على مواصلة الدفاع عن حقوقنا السياسية والدستورية والإنسانية بكل الطرق المشروعة، ولنا -بحمد الله تعالى- في الجعبة أكثر من بديل وطرح وصدق الله العظيم إذ يقول “ولا تهنوا، ولا تحزنوا، وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”.
نسأل الله تعالى السداد والثبات وحسن الخاتمة، أمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
علي بن حاج
الجزائر يوم الأحد 15 جمادى الثاني 1428هـ
الموافق لـ: 01 جويلية 2007