ونكتفي في هذا السياق بثلاثة نماذج توضح كيفية تعيين " الموظف" السامي، وطريقة إنهاء مهامه، مجسدة في الرؤساء الثلاثة على التوالي: الشدلي بن جديد، ومحمد بوضياف وليامين زروال.
1- جاء الشادلي بن جديد الى كرسي رئاسة الجمهورية في ظروف جد خاصة لم يكن يتوقعها أحد، وكان ذلك عقب الوفاة المفاجئة للرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، وهو الأمر الذي أحدث فراغا في المنصب السامي، أضطر أصحاب القرار الى ملئه في عجالة، لتفادي ما يمكن أن ينجم عن التنافس عليه، ويعلم الجميع أن وقتئذ، كان التنافس محتدم بشكل أساسي بين محمد صالح يحياوي ( أحد أقطاب حزب جبهة التحرير) وعبد العزيز بوتفليقة ( هو بالذات) على كرسي الرئاسة، وكان يرى يومها كل منهما أنه الرجل المناسب والكفء للمنصب، لكن أصحاب القرار فضلوا عليهما "وجها" لا يشكل خطرا على حقيقة الحكم ولم يكن يعرف عنه طموح سياسي كبير ومن ثم قابل للتعايش مع أركان الحكم دون كثير مشاغبات. وتسبب ذلك الاختيار " الشاذ" في سخط وتدمر بوتفليقة الذي اعتبر ذلك إجحافا في حقه، خاصة وأنه كان مقرب جدا من بومدين، مما جعله " يقاطع" أركان الحكم مؤثرا المنفى الاختياري، دام من 1979 الى ما بعد الانفتاح السياسي ( عقب أحداث أكتوبر 88)، وتمكن الشادلي من البقاء في الحكم، تزكية وتجديدا لعهدته الرئاسية عن طريق انتخابات معروفة النتائج، بل واستطاع حتى البقاء بعد أحداث أكتوبر، بفضل تمكن السلطة الحقيقية التضحية يومها بأحد الوجوه البارزة آنذاك ( الأمين العام لجبهة التحرير الوطني سابقا السيد مساعدية)، السبب الأساسي في ذلك يتمثل في تبني الشادلي موقفا "حاميا" لأركان الجيش من جنرالات أصحاب القرار، المسئولين عن تحويل انتفاضة أكتوبر الى حمام دم وحملة عشواء من التعذيب لم توفر لا النساء ولا الأطفال، وتحمل الرئيس الشادلي المسؤولية عن الأحداث هو ما ضمن له البقاء. لكن انتهى كل شيء بالنسبة لشادلي مع ظهور نتائج انتخابات ديسمبر 1991، ورفضه وقف العملية الانتخابية بين الدورين، الأمر الذي رأى فيه أركان الحكم تهديدا مباشرا لهم، وبلغ بهم الهلع الى دراجة اتهامهم الرئيس بالتواطؤ مع الجبهة، كل ذلك نتيجة رفضه الانصياع لأوامرهم وإعرابه على قرار الالتزام بما وعد به الشعب لما شرع في الانفتاح السياسي. هذا الموقف من الرجل كلفه منصبه، إذ قرار أصحاب الحكم " إقالته" في صور استقالة لم تقنع أحد، بعد توجيه تهديد مبطن في شكل عريضة موقعة من عشرات الضباط السامون يعلنون فيها " خروجهم عليه"، وتمخض عن ذلك استقالة " منقولة على المباشرة" مكنت أصحاب الحكم من إنهاء الفاصل الديموقراطي وقذف البلاد مجددا الى الأحكام الاستثنائية من حالة الطوارئ واستعجال وما الى ذلك.
وجدير بالذكر في هذا الباب، الإشارة الى خطورة الوضع آنذاك بالنسبة للانقلابيين بحيث جعلتهم يقدمون على حماقات صارخة جمة منها سلسلة من انتهاكات لدستور البلاد عقب انقلاب يناير 1992:
– فمع أن الدستور ينص على تنصيب رئيس البرلمان رئيسا مؤقتا للجمهورية لفترة مدتها 40 يوما، يتم خلالها التحضير الانتخابات جديدة، تم تجاوز ذلك عن طريق تعيين مباشرة لرئيس المجلس الدستوري، السيد بن حبيلس ( ويأتي هذا التعيين في المرتبة الثانية من حيث سلم ملء الفراغ في حالة مثل الوفاة المفاجئ) الذي أعرب عن عدم قدرته تحمل المهمة ( أو هكذا تم تقديم الرفض) ليفتح المجال أمام تدخل أركان الحكم المفضل، أي العودة كما في السابق، قبل الفاصل الديموقراطي.
– ونذكر للمنسبة بحادثة غريبة تخص بالذات البرلمان في تلك المرحلة الحاسمة ورئيسه السيد بلخادم تحديدا، ( بعد 12 يناير 1992). فيومها أعلن أن الرئاسة لم تنتقل الى رئيس البرلمان السيد بلخادم عملا بأحكام الدستور، لأن البرلمان كان قد حله الرئيس قبل "الاستقالة"، بينما السيد بلخادم نفسه صرح للإعلام أن حل البرلمان لم يبلغ إليه رسميا حسب مقتضيات الدستور، ولم يسمع به إلا عبر وسائل الإعلام.
– ودائما ضمن انتهاكات الدستور، نعلم أن بعد الانقلاب تم الإعلان عن حالة الطوارئ وتم تشكيل المجلس الأعلى للأمن المكون من ترويكا تتشكل من مجموعة من المسئولين، من ضمنهم وزراء الداخلية والدفاع ، ورغم أن الدستور ينص على أن هذا المجلس هو استشاري بطبعه، ومن ثم لا يحق له تعيين هيئة أكبر منه، قام هذا المجلس في انتهاك صارخ لمواد الدستور بتعيين هيئة أعلى منه، مجلس الأعلى للدولة.
ولجوء أركان الحكم الى هذه الانتهاكات فرضها عليهم الظرف المباغت الذي ميز المرحلة وحتم القيام بالانقلاب، بحيث لم توفر أصحابه الوقت الكاف للتأقلم مع نصوص الدستور كي يتماشى مع مخططهم. ونلاحظ للمفارقة أن كلا من بلخادم وبوتفليقة اللذان تم " إقصاءهما" بطريقة مافياوية، أعيد تعيينهما بطريقة لا تقل مافياوية، وقبلا بها، وكأنهم نسيا أن التاريخ لا يرحم والذاكرة لا تنسى.
2- أما الرئيس بوضياف، رغم العداء المتبادل بينه وبين السلطة ( عداء ناجم أصلا عن ممارسة السلطة وطرق تنفيذها عقب استقلال البلاد مما فرض عليه المنفى عقود طوال) وعدم ثقته فيها ( عبر الرجل عن ذلك مباشرة عقب الانفتاح السياسي، لما وجهت له بعض الأطراف الدعوة للعودة الى البلاد بحجة توفير مناخ حر وتعددي، وكان ذلك خلال نقل تلفزي مباشر شهده المواطنون، من منفاه بالمغرب، إذ صرح عدم ثقته في صدق التوجه)، إلا أنه بعد انقلاب يناير 1992 ، رأى فيه الانقلابيون رجل الساعة واللحظة التاريخية، مما جعل هذه السلطة "تتجاوز" خلافتها معه مغلبة المصلحة، وحاجتها الماسة والحاسمة الى " خصائصه" الملائمة جدا للمرحلة، فهو يمثل في مخيلة الشعب رجلا نزيها، لم يتلطخ بالحكم وبممارسات النهب والرشوة وما الى ذلك، كما أنه معروف عنه لغته المباشرة وعدم التملق مما رشحه لملء المنصب الشاغر بفعل انقلاب يناير 92 وكلف أصحاب القرار كل من علي هارون ( أحد أعضاء المجلس الأعلى للدولة لاحقا) وأبو بكر بلقايد ( وزير الداخلية المغتال) لزيارته الى المغرب وإقناعه بالتضحية من أجل بلده، وكان لهم ذلك ( بعد تردد). وبعد أقل من نصف سنة من توليه المنصب واضطلاعه بالمهمة القذرة المتمثلة في منح الانقلابيين الشرعية وبعد تسببه في معاناة شعب بأكمله، ولما اكتشف حقيقة الوضعية التي ورطه فيها أولئك الذين لم يكن يثق بهم أصلا، وبدأ يهم بفتح بعض الملفات، لم يوفره أصحاب القرار فاستبقوا الباب وأنهوا مهمته على رأس الأشهاد، فتخلصوا منه بعد أن لطخوا سمعته وحملوه جزء من المسؤولية كي لا يبكيه أحد.
3- أما الرئيس زروال جيء به دائما ضمن قاعدة " رجل اللحظة التاريخية"، بحيث أن خصائص الرجل من استقلالية الرأي ونزاهته وعدم تمسكه بالسلطة رشحته ليكون رجل المناسبة لاسيما وأن الفترة كانت بحاجة الى رجل بمثل تلبك الفضائل والخاصيات لاستعادة قدر من المصداقية المفقودة. لكنه بعد فترة من الحكم واتبعاه طريق الاستئصال وتغلبيه الحل الأمني البحت، أدرك استحالة إنهاء النزاع عن طريق هذه الوصفة الأمنية المغالية، واقتنع بضرورة المعالجة السياسية لسبب بسيط وهو أن المشكلة أصلها سياسي في المقام الأول. وبناء على هذه القناعة، باشر اتصالاته بقادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في السجن، الشيخين عباسي مدني وعلي بن حاج تحديدا، في محاولة للتوصل الى اتفاق ينهي الأزمة من جذورها. هذه الاتصالات من الرجل جعلت النظام يستشعر الخطر الداهم، ودبت في أوصاله القشعريرة مما سيؤول إليه مثل ذلك المشروع السياسي بين الحكم والحزب الذي يمثل الطرف الآخر بالدرجة الأولى، فلم يجد النظام بدا من أن "يتغذى بالرجل قبل أن يتعشى بهم"، فاستبقوه بنسج علاقات واتصالات بين رجال المخبرات بتنسيق من الجنرال اسمعين العماري مع قيادة الجيش للإنقاذ، دون علم السياسيين في الجبهة ( شيوخها) و السلطة (متمثلة في الرئيس زرواتل). الهدف من تلك العملية المكيافيلية: إجهاض محاولة زروال السياسية الشاملة بصفقة مبهمة البنود بين العسكريين لإبقاء النزاع في بعده الأمني حصرا. طبعا يمكن ملاحظة بجلاء ذلك التناقض الفاضح من أصحابه، الذين زعموا رفض ميثاق روما ( 1995) بين الأحزاب السياسية التمثيلية والسلطة لوضح حد للنزاع، بزعم أن السلطة لا تقبل التفاوض ولا حتى النقاش مع من يحمل السلاح، في إشارة الى ممثل الجبهة الإسلامية للإنقاذ ( الغير مسلحة أصلا ولم تصرح يوما أن لها جناحا مسلحا، لا في جيش الإنقاذ ولا غيره)، بينما لم يجد نفس هؤلاء المعترضون أدنى حرج في الجلوس وإبرام معاهدة مع من يحمل السلاح فعلا وواقعا.
ويتذكر المتتبع للشأن الجزائري كيف أن اتفاق اسمعين العماري ومدني مزراق أجهض الحل السياسي الذي كان قيد الشروع بين زروال وقادة الجبهة، مما دفع بالرئيس زروال الى الاستقالة، بعد أن أظهره الجنرالات وكأنه يرفض السلم ويريد تعطيل الاتفاق بين مسلحي الدولة ومسلحي مزراق، رغم ما يعلمه الشعب الجزائري من استئصالية ودموية "المصالحين الجدد"، وعزم زروال في حل سياسي.
4- أما مجيء بوتفليقة، فلم يكن بعيد عن هذه النماذج الثلاثة، وبعد أن كاد النظام أن يستنفذ الأوراق المتبقية، تذكر أنه يوجد " رئيس محتمل" رغم ما قام به هؤلاء من تلطيخ لسمعته عبر تمرير إعلاميا وعبر شتى وسائلهم ( الآلية الإعلامية وأحزاب المأمورية) من تهم اختلاس الأموال بل وحتى المتابعة القضائية ( مجلس المحاسبة) وذلك في الفترة بعد تعيين الشادلي. رغم هذه الخصومة المستشرية، لم يجد هؤلاء بديلا مقنعا ووفاء تتوفر فيه ظاهريا مواصفات تجعله يحظى بقبول محتمل من الشعب مثل كونه لم يشارك في الانقلاب، ( وبنفس المناسبة منحه فرصة إعادة الاعتبار لنفسه وطموحاته، والانتقام ممن أبعدوه عن الحكم المستحق بعد قضاءه عقود عرف فيها الخواء السياسي). لم تتحرج إذن السلطة من كل ذلك طالما أنه يخدم مشروعها. ونفس الإشارات يمررها أصحاب القرار الى بوتفليقة كلما أبان عن رغبة في التقرب من الملفات الساخنة، فيذكروه بأحد أنماط الخروج من قصر المرادية، مما يتجلى مباشرة في إعادة الرجل صياغة خطابه وانتقاء مفردات جديدة، عنصرها المحوري " تمجيد دور أصحاب القرار والاستماتة في الدفاع عنهم" ضمانة لمواصلة المشوار.
واليوم وقد بدا أن سفينة الجزائر قد رست على شاطئ الاستقرار ولم يعد لزوما لخطاب الاستئصال ( مع استمرار حقيقة الاستئصال بطرق شتى) وجاءت مرحلة تتطلب، على الأقل ظاهريا، رجل بخصال تطمئن المواطن الجزائري، وقع الاختيار على السيد بلخادم. لكن إذا كانت هذه الخصال هي التي شكلت سبب اختياره، فلا ينبغي أن يذهب التفاؤل بعيدا، لا بالشعب ولا بالسيد بلخادم نفسه، فلن تتاح له بكل تأكيد فرصة تجسيد تلك الخصال في الميدان، ويوم يريد تجربة حظه، فلن يفوت أصحاب التعيين تذكره بالعقد غير المكتوب.
كل ما سلف ذكره، له تفسير واحد، فلا يعقل أن ينشئ الجلادون بلاد الحرية، ولا يستقيم لأقطاب الدكتاتورية بناء دولة القانون والحق، ولا حل سوى بذهاب سبب الخراب وترك صاحب السيادة ممارسة حقه بحرية: الشعب.
د. رشيد زياني الشريف
نائب منتخب عن مدينة سيدي بلعباس
( الانتخابات التشريعية، كانون الأول- ديسمبر 1991)