هل يخشى الحاكم في الجزائر إسلامية التغيير أم حقيقة التغيير؟
لا بد في هذا الصدد دحض إحدى الأكاذيب التي طالما استخدمتها السلطة والدائرون في فلكها والمنتفعون من ريعها، في تبرير عملهم الشنيع الذي أسموه إنقاذا للبلاد، ونعلم كم كلف البلاد ذلك الإنقاذ. يتمثل تبريرهم هذا في التهديد المزعوم الذي كان سيشكله الإسلاميون على " الديموقراطية"، بينما أتضح أن الأمر ليس له علاقة بالطابع الإسلامي او المتطرف كما زعم أصحابه، السبب الوحيد هو ما كان سيشكله الاختيار الحر النزيه الذي لا يخضع لسيطرتهم على خططهم وامتيازاتهم وفضح لجرائمهم طيلة عقود من الحكم، وذلك آيا كانت النتيجة، سواء اشتراكية او وطنية او إسلامية، فنتيجة استقلاليتها هو الخطر بالنسبة لساسة الحكم المتواري وكان سيترتب عليه نفس المصير (انقلاب يناير 1992) حتى ولو اختلف شكله. ولنا دليل على ما نقول، تبرهن عليه العمليات الانقلابية داخل أركان الأحزاب المتمردة على سلطة الحكم العسكري آنذاك، مثل القوى الاشتراكية من محاولة زعزعة أركانها ونشر بدور الفتنة وسطها، وشقها الى نصفين، والشيء نفسه بالنسبة لجبهة التحرير الوطني التي تم الانقلاب على أمينها العام وقسمها الى قسمين، وكل ذلك لرفض هذين الحزبين مسايرة الانقلابيين وحرصهما على حل سياسي شامل لا يقصي أحدا، وهو ما رأى فيه الانقلابيون خطرا عليهم، بحيث ذهبوا الى حد إقصاء جبهة التحرير من السلطة عبر ولادة قيصرية لحزب جديد ( التجمع الوطني الديموقراطي برئاسة أويحي المطاح به مؤخرا، "حصل" في غضون أقل من نصف السنة على الأغلبية لتشكل الحكومة بعد أن باتت جبهة التحرير غير مأمونة ( والآن عادت بعد تطهيرها من المشوشين "مساندي الإرهاب").
إن طبيعة هذا النظام تجعله لا يجد أدنى مشكلة في تغيير الهندام سواء حكم البلاد بعمامة الإسلامي او برنيطة الرفيق او ربطة العنق الليبرالي، طالما بقيت حقيقة الحكم في يده، فكل شيء ما عدى ذلك مجرد تفصيل لن يقف في طريقه. ولو قبلت يومها الجبهة الإسلامية للإنقاذ ( وقبلها جبهة القوى الاشتراكية) هذه المعادلة ما انقلب عليها النظام الذي تأقلم مع إسلامية حماس سلطاني الإخوانية الدولية وإسلامية النهضة فالإصلاح، كما استوزرت إسلامية مراني ( الجبهوي) السلفية جدا ولم يقلقها تكفيرية سحنوني التي اقتضت الضرورة أن يغض عنه البصر، بل وتعايشت السلطة حتى مع مدني مزراق المسلح جدا، وكل ما سقناه من أسماء الهدف منه سوى التأكيد أن الثابت الوحيد هو قبول هذا الطرف أو ذاك الدور المنوط به دون البحث عن حقيقة الحكم. وبناء على هذه القاعدة الضمنية، غير المدونة، يتم تحديد درجة ومعيار العدو من الوطني المخلص لبلده، بحيث يقرب المرء او يقصى حسب قبول او رفض هذا الطرف او ذاك قاعدة السلطة في تسيير الأمور، أما غير ذلك ليس أكثر من " هندام المرحلة"، او تفصيل هامشي.
استباق بالتغيير لإجهاض التغيير
تأتي إذن عملية إزالة أويحي في إطار التركيبة الكيماوية لبقاء النظام على حاله، أي الثابت الواحد الأوحد، القاضي بأن كل شيء متغير أو قابل للتغيير ما عدى حقيقة الحكم وطبيعة السلطة او ما يطلق عليه محليا الحكم الفعلي، الذي يتغير عشرات المرات بنفس الرجال وبنفس الهياكل… لا رجال الواجهة، أعني رجال بلا وجوه.
إن السلطة هي صانعة التغيير، ومتى شعرت ببوادر تغيير خارج عن سلطتها ويهدد أركانها، تكون له بالمرصاد، وبطرق شتى، وهو ما يفسر لنا لماذا رغم تغييرات كانت تبدو جذرية لم تتزحزح حقيقة النظام قيد أنملة.
بعد أحداث أكتوبر 88 وما عقب ذلك من زعزعة أركان النظام استبقت السلطة الأوضاع وضحت بوجه ساهمت هي في تقبيحه وسط الشعب وشاركت في تلطيخه وتحميله كافة ويلات البلاد، فقدمته قربانا لتنفيس الشعب الساخط من جرائمها، وتمثل ذلك في التضحية برأس محمد الشريف مساعدية، الأمين العام السابق لجبهة التحرير الوطني، وبذلك تمكنت ربح بعض السنوات الأخرى، والاستمرار في إدارة دفة الحكم.
والشيء نفسه عندما قامت بالتضحية بالجنرال نزار بعد أن ورطته في تصريحات جعلته أمقت رجل يبغضه الشعب محملا إياه (تلميحا)، انقلاب يناير 1992 وما ترتب عنه من محن جسام، رغم أن الجنرال لم يكن سوى أحد المنفذين للمهمة القذرة، لكنه تميز عن الباقي بكونه ثرثارا يتحدث أكثر من اللازم ، وهو ما شكل نقضا للعقد الضمني بين أصحاب الحكم مما اقتضى تنحيته من الواجهة وقبوله المصير صاغرا.
طريقة التعيين واحدة، وأسلوب الخروج مختلفة، بلخادم لن يكون الاستثناء
وعلى مر تاريخ الجزائر ما بعد الاستقلال عرفت كيمياء التغيير طريقها لاستمرار الأوضاع، ويمكننا القول أن مرحلة اليد الحديدية التي عقبت الانقلاب كانت بحاجة الى رجل جلف غليظ يقبل المهام القذرة ويتميز ببذاءة مفرداته و خشونة تصريحاته، وهو ما جعل قرار النظام واختياره يستقر على شخص أويحيى، لكن الآن في ظل المناخ الدولي الجديد الذي يطنب الآذان بمفردات حقوق الإنسان والحريات والجرائم ضد البشرية وما إلى ذلك، فيقتضي الأمر تغيير الواجهة لتتناسب الحدث، ونظرا أن لكل مرحلة رجالها للاضطلاع بمهام بعينها، فلم يجد الساسة خيرا من بلخادم، رجل الساعة الراهنة، علما أنه رجال النظام والذي لم يبرح مكانه داخل السلطة طيلة عقود متسلقا كافة المناصب العليا الممتدة من عهد الشادلي بن جديد ( بصفته رئيس مجلس الشعب، البرلمان) الى بوتفليقة، هذا علاوة على أن الرجل، حتى وإن أراد فعل شيء ( خارج السياق المسطر) لن يستطيع فعله، ودليلنا في ذلك، تجنبا للأحكام المجحفة، أن اختيار بلخادم جاء بنفس المنطق الذي تم بمقتضاه اختيار بوتفليقة ومن قبله بوضياف وزروال، ويعلم الجميع أن ولا أحد من هؤلاء استطاع تخطي الخيط المسطر سلفا والذي يشكل ركن الأساس في الاتفاق الضمني الذي تم بمقتضاه اختيار هذا او ذاك .
ولم يفلح أحد المعينين (من قبل الفاعلين) من تقديم شيء خارج السياق، مع العلم، أن بعض رؤساء الجمهورية حاولوا وضع مخططات وبرامج خاصة بهم، غير أن كل محاولة تخطت الخطوط المسطرة عرَضت صاحبها لويلات جسام انتهت بمصير لا يحسد عليه، بين إنهاء المهمة في ظروف مهينة من قبيل "الاستقالة" او الإقالة بعد إنهاء المعني من تنفيذه للمهمة المعين بموجبها، أو النهاية الدموية على المباشر.