* والأخطر من هذا كله، إن القانون الجديد والمراسيم التنفيذية الرئاسية المزمع تطبيقها بموجب ذلك القانون تضمن إفلات المسئولين عن الفظائع المروعة من العقاب وتكمم الأفواه بشكل تام ونهائي إزاء كل نقاش عام حول الأزمة وما خلفته من دمار وذلك عبر سن ترسانة قانونية رادعة، منتهكا بذلك القانون الدولي فيما يتعلق بالجرائم الخطيرة بحيث تجعل كل نقاش في هذا الصدد مستحيلا بفعل إصدار مواد صريحة في هذا الباب تعاقب من يخوض في الموضوع، ويعتبر ذلك مساسا خطيرا بحقوق الإنسان في الجزائر، فتمنح هذه المراسيم العفو الشامل الغير قابل للنقاش أو المراجعة لصالح قوى الأمن والمليشيات المسلحة من قبل السلطة والمسئولة عن اقتراف جرائم تدخل في نطاق جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، دون أن تجرى إلى يومنا هذا أي تحقيق مستقل نزيه فيها؛
* والقانون لا يتوقف عند حد منع المتابعة القضائية بل ويغلق الأبواب أمام كل نقاش عمومي بشأن جرائم ما بعد الانقلاب 1992، إذ تنص المادة 46 على ما يلي: "يعاقب بالحبس لمدة تتراوح بين 3 إلى 5 سنوات سجنا وغرامة مالية قدرها بين 250000 و500000 دينار كل من يستغل جراح المأساة الوطنية، سواء كان ذلك من خلال تصريحات أو كتابات أو على أي نحو آخر، للمساس بمؤسسات الجمهورية الجزائرية وإضعاف الدولة وتشويه شرف أفرادها الذين خدموها بكرامة أو تلطيخ صورة الجزائر على الصعيد الدولي." وتأتي هذه المادة لتحرم الضحايا وعائلاتهم والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحافيين وكل جزائري وجزائرية من حق الشهادة وانتقاد جرائم قوى الأمن المرتكبة طيلة عمر المحنة ما بعد الانقلاب، وتبطن المراسيم تهديدا لعائلات المفقودين الذين يحاولون مواصلة حملتهم للبحث عن الحقيقة بشأن ذويهم.
يستخلص مما سلف أن السلطة في الجزائر تتجاهل كليا بل وتزدري الحقيقة الجلية والتي مفادها أن السلم والمصالحة هما نتيجتان طبيعيتان لمسار يعالج الأسباب الحقيقية للازمة، التي لا يمكن أن تحل بدونها.
إن واضعي هذه المراسيم قاموا بتمجيد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من خلال قوانين جائرة تحميهم وتوفر لهم الغطاء للإفلات من العقاب، غير أنه سيسجل التاريخ على الرئيس بوتفليقة، الذي لم يكن طرفا في المحنة، لا في نشوبها ولا في تغذيتها، إن لم يستدرك الأمر، أنه فوت على الشعب الجزائري فرصة ثمينة أخرى للخروج من الأزمة.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نجدد، قبل فوات الأوان، دعوتنا للنظام في الجزائر لاحترام حقوق كافة الأشخاص الذين تعرضوا لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، ابتداء من الحق في معرفة حقيقة ما جرى طيلة عمر الأزمة الدامية إلى تحقيق العدل للجميع فضلا على تعويض المتضررين، أصحاب الحقوق دون مقايضة ذلك بأي شرط، ناهيك عن السكوت، فمن شأن مثل هذه الضمانات أن تعبد الطريق لمصالحة صادقة ترجع الأمل الحقيقي.
وعلى أشراف الأمة أن لا يسكتوا وأن لا يركنوا أمام محاولات النظام الرامية إلى إجهاض الحقيقة ونسيان الآلاف المعذبين والقتلى والمفقودين الذين سيبقون جراحا غائرة تؤرقنا وحية في ضمائرنا إلى أن يكشف عن مصيرهم، أحياء كانوا أم غير أحياء، وهو ما يوجب على الشرفاء مواصلة عملهم للمطالبة بتحقيق نزيه تقوم به هيئات مستقلة مشهود لها بالنزاهة والمهنية، سواء من داخل البلاد أو خارجها، بعيدا عن تدخلات أجهزة الجلاد، ولا نقبل أقل من الحقيقة، كل الحقيقة ولاشيء غير الحقيقة.
بقلم: د. رشيد زياني شريف
نائب منتخب عن مدينة سيدي بلعباس (ديسمبر 1991)