توالت التصريحات الداعية للتعبئة والنداءات المطالبة برص الصفوف، في مواجهة المخاطر المحدقة بالبلد؛ هذا أمر طبيعي بل وواجب كل مواطن غيور على بلده، يفرض عليه الاستجابة والاستعداد، كوْن ذلك من صميم واجباته الوطنية والأخلاقية والشرعية، لكن، أجل لا بد من لكن، تكون مثل هذه الاستجابة طبيعية وتلقائية عندما يعيش المرء في بلد تسيّر شؤونه بشكل طبيعي، أي أن يكون المواطن، مواطنا فعلا، له واجبات يؤديها وحقوق يتمتع بها، لا أن يكون مجرد رقم لا يلتفت إليه إلا في المواعيد الانتخابية لجره نحو الصناديق ثم يتمّ نسيانه وتجاهله بل وإهانته واضطهاده طيلة الفترات بين هذه المواعيد.
يكون أمر التعبئة طبيعيا والاستجابة تلقائية عندما يكون للمواطن فعلا مكانة وصوت ورأي يصغى إليه، لا أن تُكتم أنفاسه، ويُحاصَر ويُطارد فقط لأنه يعبر عن رأيه وينتقد ممارسات فاسدة، انطلاقا من حبه لوطنه وغيرته عليه، فيُتهم بتهديد استقرار البلد وأمنه، وتشويه سمعته؛
تكون الدعوة للتعبئة طبيعية، وواجب الاستجابة أمرا شرعيا، عندما يكون المواطن عنصرا فاعلا مشاركا، كل حسب موقعه، ووفق مؤهلاته، في كل ما يخص وطنه، لا أن يكون محلّ منّ وتحقير، من قبل السلطات التي تبتزه وتقايض لقمة عيشه بـ”الدخول في الصف” وتفرض عليه الإمساك عن أي تعبير يخالف سياسات السلطات وتوجهاتها، بل يعاقب في حال “جرأته” على انتقاد الفساد ونشر أخباره.
يكون واجب الاستجابة لنداء التعبئة واجبا شرعيا، عندما لا يُمنع هذا المواطن من حقوقه الدستورية المشروعة التي تضمن له حق التجمع والتنظيم والممارسة السياسية بكل حرية، غير خاضعة للشبكة الأمنية المخابراتية لتي تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، بل وتعيّن كل من تريد داخل هياكل الأحزاب والمنظمات والجمعيات، وتقصيي من لا ترضى عنهم.
تكون التعبئة نداء وطنيا مشرفا وواجبا مقدسا، عندما يشعر المواطن أنه محل ثقة وتقدير في ضل نظام تعددي فعلي، لا أن يعيش في نظام مستبد، يتخذ من التعددية الشكلية المفبركة واجهة ديمقراطية، يُتجار بها، وقد أفلس على كافة الأصعدة، بما أفضى إلى تصحر اجتماعي اقتصادي ثقافي سياسي مهول، غرس في نفوس الغالبية العظمى من المواطنين مشاعر اليأس من أي احتمال للتغيير والإصلاح، مما دفعهم إلى الاستقالة الفعلية ونفض أيديهم من أي محاولة بعد اقتناعهم أن الأمور محسومة سلفا في كل القضايا.
كيف إذن يُراد للشعب أن يُعبأ، وهو يرى الوضع على هذا الحال، ويرى أن الثلة الحريصة على سلامة بلدهم وأمنه وازدهاره، تُكتم أصواتهم ويطاردون ويعتقلون، ويُدفع بعضهم إلى اليأس، والحرْقة والمنفى، لمجرد إبدائهم آراء، لأنها تعتبر غير ملتزمة بالنص المفروض.
تحصين البلاد يتحقق بهؤلاء الحريصين عملا لا قولا وادعاء، على سلامة الوطن، والمستعدين لدفع الثمن مقابل ذلك، وليس من خلال مطاردتهم بقوانين جائرة تجعل من المطالبة بالممارسة السياسية السلمية، تهمة بموجب قوانين مصطنعة كقانون 87 مكرر.
أما “المعوّل عليهم” في التعبئة، تلك الفئة الوظيفية المستفيدة المزمنة، التي امتهنت المزايدة في تقمص الوطنية، والسمسرة بها في كل المناسبات، دون أن يعرفوا منها سوى النهب والاختلاس وتهريب الثروات المهولة خارج الوطن، فهؤلاء يعلم الشعب الجزائري حقيقتهم وطبيعة وطنيتهم، ورأى بأم عينيه الفارق بين ما كانوا يصرخون به بهذا الشأن، وبين ممارساتهم على أرض الواقع، وربما من الجدير بالتذكير كيف وصف أويحيى مثلا، طلبة الطب المحتجين واتهمهم بأنهم “غير وطنيين” لأنهم طالبوا بتحسين وضع عملهم في المستشفيات ليس إلا، أو سلال عندما كان يحث في كرنفالات الحملات الانتخابية، النساء على “ضرب أزواجهم لتأدية واجب الانتخاب الوطني”، ويدرك الجميع اليوم نوع الوطنية التي كانوا يتحدثون عنها بعد سقوط ورقة التوت عنهم؛ وليس بعيد عنا أيضا وطنية بلقصير وبوشوارب وسعيداني وولد عباس والمئات غيرهم، الذين لطالما زايدوا على الغالبية المقهورة والمفقرة، أين هم اليوم؟ إما في السجن أو هاربين من العدالة، ومعهم ملايين الدولارات المهربة، من قوت الشعب المستضعف.
وفي نفس السياق، عن التعبئة وواجب الدفاع عن البلد، وتبيان من هم فعلا من يهرعون في الصفوف الأولى دفاعا عن أوطانهم ومن يتخاذل، هل نذكر كيف تبخرت فيالق جيش صدام عند غزو العراق وفرارهم المخزي، وكذا هروب شبيحة الأسد بعد اقتراب لهيب الثورة على أسوار المدن السورية وغيرها من الأمثلة التي تثبت أن تجار الوطنية والدفاع عن البلدان، كانت مجرد أوهام وسجلات للتزلف والارتزاق، سرعان ما تلاشت، ولم تحصن بلدانهم عندما دقت ساعة الخطر، كل ما أفلح هؤلاء في تحصينه هو ممتلكاتهم غير المشروعة وأرصدتهم البنكية في الداخل والخارج.
ختاما، إذا أُريدَ للوطن أن تُحصّن حدوده وتُصان حرمة ترابه، خاصة في ظل التهديدات الحقيقية من جهة أو الناتجة عن سوء التقدير والتدبير، فلن يجد الوطن خير من أبنائه الذين يحضرون عند المغارم ويغيبون عند الولائم، وهذا الأمر يقتضي استدراك الوضع وجبر الكسور وإعادة المياه إلى مجراها من خلال زرع الثقة والطمأنينة والعدالة، باتخاذ خطوات ملموسة حقيقية، وإعادة الأمل بين الناس، تدابير تبدأ بتحرير المعتقين ظلما وتحرير المجال السياسي والنقابي وفسح المجال أمام المواطن لممارسة حقوقه الدستورية دون خوف أو قهر أو ابتزاز أو منّ مِن أحد، هكذا يمكننا أن نحصن بلدنا وندفع عنه كل المخاطر، القريبة والبعيدة، وما من شك ستجد دعوات التعبئة صدى واستجابة طبيعية ومسؤولة، ويكون الحكم مسندا بشعب يؤمن أنه جزء لا يتجزأ من الوطن.