قد يبدو هذا السؤال غريب أو مستهجن ومستفز من قبل البعض لكنه مُلِح ومشروع إلى حد ما. لا أعتقد أن هناك موضوع أثار جدلا وخلافات بل واتهامات متبادلة بين الفرقاء، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو حتى الدول، مثلما أثارته ثورة سوريا وهروب الطاغية وانهيار نظامه بتلك السرعة وسعة الانتشار. تباينت “المواقف” بين من جهة، طرف مهلل مهنئ للشعب السوري على استعادة حريته وكرامته وسيادته، ومبتهج للإفراج عن الآلاف من المعتقلين، خاصة النساء والأطفال، من غياهب سجون الموت، ومن جهة ثانية، طرف متشكك مرتاب، يعتبر أن الموضوع لا علاقة له بثورة ولا استعادة سيادة، وأن الأمر هو حبكة أجنبية، أمريكية تركية صهيونية، تحت غطاء شعبي، على غرار الثورات الملوّنة في أوروبا الشرقية قبل عقدين (وأيضا الاتهام المُوّجه إلى ثورات الربيع العربي). يرى هذا الطرف المُشكك أن هذه الثورة ليست أكثر من انقلاب جاء أصلا وأساسا للإطاحة بقلعة من قلع الممانعة والمقاومة، خدمة للكيان لصهيوني، ويرى من ثم أن كل من شارك في هذه الحبكة فهو جزء منها أو على الأقل، عنصر ساذج يخدم أجندة لا يعرف تفاصيلها.
– أولا، لا اعتقد أن هناك انسان سوي يجهل أو ينفي أن لأمريكا وإسرائيل وغيرهما أغراض وأجندات وأهداف تسعى لتحقيقها في سوريا الثورة بعدما حققتها في سوريا الأسد (هذه الجهات تدور حيثما دارت مصالحها)، ومن السذاجة الاعتقاد أن هذه الأطراف ستبقى مكتوفة الأيدي، وتترك السوريين يحددون مصيرهم بكل حرية، بما قد يهدد مصالحها، لكن هل تقاطع مصالح ظرفية بين أطراف متناقضة، يجعل بالضرورة، الطرف الثائر على استبداد آل الأسد، تابع لهذه الجهات الأجنبية أو عميل لها؟ المعادلة لا يمكن أن تكون بهذه البساطة والاختزال؛
– من الطبيعي أن هذه الأطراف، أمريكا، إسرائيل، تركيا، روسيا… تحاول كل من جهتها استثمار الوضع الجديد، وعدم تفويت الفرصة للتموْقع في زمن إعادة تشكل خريطة سوريا ما بعد آل الأسد. ومن أجل جني ثمار الثورة بأكبر قدر ممكن، تسعى هذه الأطراف، في مقدمتها أمريكا وإسرائيل إلى إضعاف مكوّنات الثورة، وتأليب بعضها ببعض، لإحداث شروخ وانقسامات بل والدفع نحو اقتتال داخلي بما يعزز تواجدها، خاصة ضمان أمن الكيان الصهيوني الذي فقد داعمة “موضوعية” ممثلة بنظام الأسد؛ دون أن ننسى دول الجوار، مثل السعودية والإمارات ومصر وعدد كبير من الأنظمة العربية، التي أفزعها التحوّل في سوريا بهذه السرعة الدراماتيكية، وتشعر بالروع من وجود دولة ذات سيادة شعبية، مستقلة القرار، ونموذج لتعددية حقيقية، قد تثير لهم مشاكل وسط شعوبهم؛ وثالثا، القوى العظمى في العالم الغربي عموما، التي تريد أن تجعل سوريا الثورة مجرد كيان هش يتآكل من الداخل، على غرار مصر والأردن وسلطة فيشي في رام الله، دول فاشلة لا قوة ولا شرعية ولا إرادة أو سيطرة على كياناتها خارج إرادة وهيمنة الكيان، بدعم أمريكي، لتلتحق سوريا ما بعد الأسد بكوكبة الدول التي لا يمكنها الاستمرار من دون غطاء أمريكي صهيوني؛
– من أهم أهداف جميع هذه الأطراف، استنزاف سوريا الثورة وتشتيت جهود بناء الدولة لجعلها رهينة المحيط والقوى الخارجية وتثبيت هيمنة الكيان وإدخال سوريا الثورة بيت الطاعة، أي إخضاعها للصيغة الوحيدة المقبولة لدى اسرائيل “كيانا وظيفيا هشا وغير قادر على تحديها أو تشكيل أي خطر عليها” ولا يهم إن كان بصبغة داعيشية أو شيعية أو إرهابية أو علمانية أو ما شئت، طالما أنه كيان خاضع لا يهش ولا ينش.
– ولا ننسى أن تواجد هذه الأطراف الأجنبية المذكورة لم يكن نتيجة انتصار الثورة، بل جلبها نظام بشار، إما لدعمه، أو نتيجة تصرفاته، مع الإشارة أن كافة هذه الأطراف كانت متمركزة ومرسخة الوجود في ظل حكم بشار على مرّ سنين، دون رقيب أو حسيب؛
– من نافلة القول أنه من مصلحة هذه الدول القيام بحركات وتصريحات، توحي من خلالها أنها هي صانعة الثورة، لسلب الثورة ثمرة جهودها وتضحياتها وإضعاف شرعيتها، بما يحرمها من أحقيتها ودورها، ويقزم دور الشعب السوري في ثورته وتصويره في شكل طابور عميل يخدم غيره، بهدف زرع الانهزامية وسط شعوب الوطن العربي، وإقناع هذه الشعوب أنه حيثما انتفضت ضد الاستبداد، فالعملية هي أساسا من صنع الامبريالية، على غرار ثورات الربيع العربي التي شُبهت بثوار الملونة، أي صنيعة اليد الأجنبية، الأمريكية تحديدا، والرسالة المراد نشرها، نفي عن الشعوب القدرة على الفعل والإرادة، وفعل التغيير، ليكرس في ذهنيتها بذرو القابلية بالوضع القائم دون محاولة تغييره، لأن التغيير هو “خيانة” للوطن، وعمالة للأجنبي؛
– إن ما يُروّج له من خلال هذه الرسالة هو قبول الوضع المتردي على يدي أعتى المستبدين “الوطنيين”، الذين لم يقلقوا يوما هذه القوى الأجنبية ولم يعرضوا مصالحها للخطر، مثلما يؤكده لنا دعم هذه القوى المطلق لأبشع أنظمة الاستبداد العربي، على غرار دعمها لنُظم مصر وتونس وغيرها. أما زعمها تشجيع الديمقراطية والحرية والتعددية، فالواقع يثبت أن هذه القوى تحاصر كل مَن جاءت بهم ثورات الربيع العربي أو خيارات الشعوب عبر الصناديق الشفافة، ولم يهنأ لها بال حتى أعادت رجالها إلى السلطة، مثل السيسي، أو دعمها المطلق لحكام الخليج المُحصنين من أي بذرة للتغيير، دون أن يشكل ذلك حرجا أو مانعا لهذه الأقطاب “الديمقراطية”، طالما ضمنوا السيطرة على الشعوب العربية قاطبة؛
– أما فيما يخصن، “مؤامرة” إسقاط قلعة من قلع المقاومة ليحل محلها عميل مطيع، فقد ثبت اليوم مع زوال حكم بشار الاسد وانتهاء المهمة الوظيفية الموكلة إليه (حافظ آل الأسد طيلة نصف قرن على إسرائيلية الجولان دون أي جهد لاستردادها) زيف هذا الادعاء، وقد شهدنا منذ الأيام الأولى من انتصار الثورة عشرات الغارات التي يشنها الكيان، مستغلا الوضع الجديد وانشغال السوريين بترتيب أحوالهم بعد مآسي حكم الأسد، لتدمير الترسانة العسكرية السورية، البرية والجوية والبحرية، لحرمان سوريا من أي قدرات الرد أو الدفاع ضد هجمات الكيان الغاشم، مما يدحض مزاعم دعم الكيان للثورة، ويؤكد تخوّفه الفعلي ولو المؤجل، مما هو قادم من المجهول، وعدم ضمان اي نظام يتشكل في سوري.
خلاصة القول، لنا أن نسأل متى تستعيد الشعوب العربية الثقة في النفس والاقتناع بقوّتها وقدرتها على تحديد مصيرها بنفسها ونبذ التشكيك في الذات الذي يجعلنا نرتاب من أي حركة شعبية، ونرى فيها يد الخارج، وعمالة الداخل، فنتهِم ظلما وزورا القائمين عليها بخدمة الآخر، لغير حساب الوطن والشعب؟ ألم يقال، أن الحروب، انتصارا وانهزاما، تبدأ في الأذهان؟
تعليقان
سي رشيد زياني شريف يؤكد من خلال هذه الرؤية سلامة مساره التحليلي القائم على فكرة و المنسجم مع قناعاته المؤسسة على إيمانه الراسخ بحاجة شعوبنا العربية و الإسلامية إلى التحرر ، لذلك و لذلك فقط ذهب إلى دحض ما تم الترويج له بخصوص التفاهم و التوافق بين إدارة العمليات السورية من جهة ، و الكيان الصهيوني و أمريكا و تركيا من جهة ثانية.
و للتوضيح وجب القول :
1/ تصوروا أن نظام بشار الأسد استطاع إفشال المعارضة المسلحة عند حدود حلب ، ثم حاصرها و استمات في الدفاع عن باقي المحافظات الأخرى ، و استماتت روسيا ، بالرغم من تشتيت مجهودها في حربها على أوكرانيا ، في مساندة الأسد ؟ هل كانت إسرائيل ستساعد المعارضة السورية المسلحة ؟ كذلك الولايات المتحدة ، و الغرب كله، ثم دول الخليج ، و الأردن و مصر ؟ من البديهي أن الدول العربية مجتمعة ستدين هجوم المعارضة السورية المسلحة ، و سيتوجهون باتهام تركيا مباشرة ، و سيخدم ذلك إسرائيل و أمريكا كثيرا ، و سيدفعون بإمكانية تفعيل الدور الإيراني إلى جانب بشار الأسد ، و لن نسمع عن سجن صيدنايا، و المقابر الجماعية ، و تهريب الكبتاغون ، و غير ذلك كثيرا .
2/ بناء على ما تم طرحه من تساءلات ، هل يمكن أن يستقيم القول بتفاهم و اتفاق و انسجام كل من تركيا و أمريكا و الكيان الصهيوني ؟ الذي يفند مثل هذا الطرح هو محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان في 2016 ، و و قوف تركيا إلى جانب الشعب السوري منذ 2011 ، و استقبال ملايين اللاجئين لسنوات.
3/ من يستطيع القول بأن هجوم المعارضة السورية المسلحة و النتائج المحققة كان متوقعا ؟كل الذي حدث كان مفاجئا ، مثله مثل طوفان الأقصى ، العامل المشترك هو طابع السلمية! كلاهما كان مفاجئا و سلميا ، ببساطة كثير ة هي الدول التي انتظرت أن يكون هجوم المعارضة المسلحة السورية دمويا ، أو على الأقل شبيها بأفعال و دموية “داعش” .
4/ كلكم يتذكر هرولة الرئيس الفرنسي ( ماكرون) إلى المملكة العربية السعودية مع دخول المعارضة السورية المسلحة إلى مقاطعة حماه ، راجعوا الموقف و التصريحات التي صحبته .
5/ أوربا و أمريكا ، يحاولون رفقة أنظمة عربية بعينها ملء الفراغ ، و يحاولون جاهدين تعميق الفراغ ، و الفراغ من أكبر التحديات.
مما سبق ذكره نصل إلى النتائج التالية:
1/ لا توافق و لا انسجام بين تركيا من جهة و أمريكا و الكيان الصهيوني من جهة ثانية ، بخصوص سوريا.
2/ تركيا منسجمة جدا مع إدارة العمليات في سوريا و داعمة في أن واحد .
3/ قطر داعمة بامتياز.
4/ الكيان الصهيوني لم يستسغ مسار العملية العسكرية و لا نتائجها.
5/ تنسيق على أعلى المستويات بين الكيان الصهيوني ، الولايات المتحدة الأمريكية ، فرنسا،ألمانيا ، و أنظمة عربية معروفة ، خصوصا مصر ، لخلط الأوراق داخل سوريا ، و الكيان الصهيوني بات مقتنعا بوجوب الاعتماد على “التحييد المباشر” لشخص أحمد الشرع.
6/ الموقف الإيراني متذبذب و مضطرب ، لأنه بات منذ فترة بعيدة ، قائما على مشروع ثبتت محدوديته ، حتى لا نقول فشله.
7/ الذي حدث مع حزب الله في لبنان ، حيث وقف إلى جانب المقاومة في غزة و قدم تضحيات جسام ، كان للأسباب التالية :
أ- تورط الحزب إلى جانب بشار الأسد ( دماء السوريين الأبرياء) غالية عند الله قبل البشر. تمت الإشارة إلى ذلك في وقتها ، و تم التحذير من العواقب مستقبلا.
ب- الاختراق الاستخباراتي فعل فعلته ، إذ لم يكن يهم إيران سوى مشروعها.
ج/ وجب تثمين تضحيات حزب الله اللبناني ، و البحث في ما يجمع السوريين و اللبنانيين و الفلسطينيين ، و هو كثير.
*سوريا هي قلب العالم و نبض بلاد الشام ، سوريا المستقبل ، ليست سوريا الأسد ، ولا الذي يحلم به الكيان الصهيوني و داعموه.
*مشكلة المسلم اليوم هو ذاكرته ، لا يكاد يثبت على موقف ، يعتمد كثيرا على العالم الافتراضي (مواقع التواصل الاجتماعي) دون تمحيص ، و رصيده في عالم القراءة “0” !
*موقف نجل الشيخ القرضاوي غير صائب ، وجب التنبيه.
*وجب أن نبتعد عن القوالب الجاهزة ، الذي حدث في سوريا ، يصلح لسوريا ، لكنه لا يمكن أن يستقيم و يؤتي ثماره في بلد ٱخر ، لكل بلد “رابعته” رابعة سوريا ليست كرابعة مصر.
*السلمية هي العامل المشترك
*الفجائية هي سيدة الموقف.
يقول ابن خلدون: لو خيروني بين زوال الطغاة أو زوال العبيد ، لاخترت بلا تردد زوال العبيد ، لأن العبيد يصنعون الطواغيت و لا يبنون الأوطان ” .