لا نتحدث هنا عن جيوش، لا سمح الله، تُعدّ وتوجّه لنجدة شعب شقيق يُباد على المباشر، تلبية لنداء ومعتصماه! ولا حتى مساعدات بالسلاح لتمكين المحاصرين من الدفاع عن النفس، ولا حتى مؤن تسد رمقهم وتنقذهم من جوع مميت. كلا، لم ينتظر أهل غزة أي شيء من ذلك، علما منهم بحالة النظم العربية، لكن هذه “المساعدة” كانت بطعم الغدر والخسة، ما بعدها خسة، جاءت من وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في شكل دعوة “لنشر قوة دولية في قطاع غزة”، لتكون “دعما للسلطة الفلسطينية”؛ لاحظوا أنه لم يتحدث عن دعم الشعب الفلسطيني، ناهيك عن المقاومة، بل عن دعم سلطة فيشي في رام الله التي تقوم أصلا بحماية أمن الكيان ومحاربة المقاومة.
تجدر الإشارة الى أن دعوة (نشر قوة دولية في غزة) هي في الأساس مطلب لجهات إسرائيلية في المقام الأول، وبالتالي فهي تتقاطع مع نداءات أنصار أوسلو، الفلسطينيين والعرب والعجم، الذين بعد عجزهم المتكرر عن استرداد سيطرة قطاع غزة لصالح سلطة فيشي، ظلوا يجددون دعواتهم بضرورة تدخل المجتمع الدولي “لإنهاء حكم إرهاب حماس”. فهذه الدعوة من الوزير السعودي إذن ليست جديدة، بل حاصل إجماع عليها بين واشنطن وتل أبيب والمطبعين من العرب، خاصة السعودية والإمارات والأردن ومصر وسلطة التنسيق الأمني مع الاحتلال.
دعونا ننظر في حقيقة هذه الدعوة، التي غلفت برداء الحرص على سلامة وحياة الفلسطينيين، وما هي أهم الأهداف وراء الترويج لها.
أولا وقبل كل شيء، التخلص من المقاومة المسلحة التي راهنوا على إمكانية دحرها طيلة شهور، دون أن يتحقق لهم هذا المبتغى رغم الدعم متعدد الأوجه الذي قدمته هذه الجهات، العربية والغربية، للاحتلال ليخلصهم من مأزقهم. لقد أدركوا خطورة ومعضلة صمود المقاومة في غزة، وأن عدم هزيمتها، سوف يشكل سابقة وأمل بالنسبة للعديد من الشعوب العربية التي تقبع تحت احتلال محلي، فيكون صمود هذه المقاومة معلما تهتدي به الشعوب العربية، ويشجعها على السير على الدرب، فيكون لذلك تداعيات على استقرار أنظمة التطبيع أولا والمصالح الأمريكية ثانيا، والنظم العربية التسلطية الأخرى ثالثا، التي اعتقدت أنها نجحت في صد رياح التغيير التي هددت كياناتها خلال الربيع العربي، وأنها قضت على الثورات الشعبية، فإذا بها تجد نفسها اليوم، محاصرة بثورة شعبية فريدة من نوعها، تحتضن جميع مكوّنات الشعوب العربية، تهدد أركان عروش هذه الحكومات المستبدة، وتعيد إلى الحياة أمل الاستئناف التغيري الشعبي في نفوس ملايين المواطنين العرب.
ليس سرا أن معظم الأنظمة العربية تحارب أي مقاومة شعبية، ولا سيما إذا كانت حركات تحررية ذات جذور دينية، بما يُحرج هذه الأنظمة ويضعها في موفق صعب أمام شعوبها، ويرفع عنها غطاء الشرعية الدينية التي وظفتها الكثير منها لتبرير سياساتها، ويبرر مواقفها المتخاذلة بما يتناقض مع استطلاعات الرأي التي تؤكد تضامن هذه الشعوب مع المقاومة وشرعيتها وترفض التعامل بأي شكل من الأشكال مع الكيان الغاصب، وتناهض التطبيع بنسب تتجاوز الـ 90%.
أنذل وأخطر ما في هذه الدعوة، أن نشر قوة دولية في غزة يرفع عن عاتق الاحتلال الصهيوني عبء القتال وتكلفة المواجهة مع المقاومة الفلسطينية، فيغسل أيادي من قتل آلاف الأبرياء، معظمهم نساء وأطفال، وتنوب عنه جيوش عربية أو شركات أمنية متعددة الجنسية، كالتي ارتكبت مجازر مهولة في العراق وأفغانستان وسوريا، فقتلت مئات الألاف من المدنيين، دون أن تحاسب على واحد منهم.
وما يميز هذه الدعوة أيضا أنها لا تعير أي اهتمام للصوت الفلسطيني، وللشعب الفلسطيني وللإرادة الفلسطينية، التي ينظر إليها على أنها غير ذات قيمة بل وعاجزة عن إدارة شؤونها السياسية، ويقرر مصيرها غيرها، ضد مصالحها وخياراتها.
مثل هذه الدعوة، قد ينطبق عليها المثل القائل “سكت دهرا ونطق كفرا”، لكن حتى هذا المثل، على مرارته، لا يوفي صاحب الدعوة ومن يقف خلفه، حقهم، لأنهم لم يكتفوا بالسكوت طيلة الأشهر التسعة منذ بداية الإبادة، بل كانوا معولا فعالا من معاول الحرب ضد أهل غزة، معولا وصل إلى حد تسخير السلاح الجوي لمد الآلة الصهيونية لدك بيوت ومستشفيات وملاجئ العزل في قطاع غزة، وحتى عندما وقف أهل اليمن الأصيل، موقفا شريفا وأخلاقيا، نصرة لأهل غزة، من خلال قطع الطرق البحرية على السفن الصهيونية التي تمدها بالبضائع، قامت هذه الحكومات العربية المتصهينة، بتعويض الكيان عبر الطرق الملتوية مرورا بالإمارات فالأردن، في وقت أمعن الصهاينة، بمساعدة وكيلهم على الجانب الآخر من رفح، بتضييق الخناق وتجويع أهل غزة حتى الموت.
ما يدمي القلوب ويزيد من حسرة الشعوب، أن معظم هذه الحكومات العربية كانت تنتظر بفارغ الصبر أن ينتهي الصهاينة من القضاء المبرم على أهل غزة المقاومين، ليرتاحوا من قضية اسمها فلسطين، فلا تعكر عليهم بعد ذلك، صفو احتفالات اتفاقيات أبراهام، والاندماج مع كيان ممسوخ، عبر بوابة هيكل متعاون، في شكل سلطة فيشي موسعة، تكون سدا منيعا في وجه كل مقاومة تروم تحرير فعلي لفلسطين. وهذه حقيقة كشفها مسؤولون أمريكيون وصهاينة، بشأن ما دار في نقاشاتهم مع ساسة عرب، أعربوا لهم عن موقفهم الجازم والمناهض لأي مقاومة فلسطينية، واعتبروا طوفان الأقصى عدوا نسف أمانيهم، بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من طي الملف بلا رجعة.
مقترح وزير الخارجية، لن تنطلي مراميه على المقاومين الذين استبسلوا في الدفاع عن أرضهم ومقدساتهم وشعبهم، فهم لم يقدموا كل هذه التضحيات الجسام ليقعوا في شراك المرجفين، ويقبلوا أن تنصب عليهم سلطة عميلة، تدخل غزة على ظهر دبابة أمريكية برعاية سعودية مصرية إماراتية، وتمويل في شكل مقايضة وابتزاز، لكن أنى لهؤلاء السماسرة أن يفقهوا أن المقاومة التي باعت نفسها لله ولشعبها، وضحت بالغالي والنفيس، هي من طينة غير طينة المتاجرين بذمم ودماء وكفاح الشعوب؟
إنّ الشعب الفلسطيني الذي قاوم آلية الصهاينة الفتاكة وواجه تحالفًا دوليًا جارفًا تقوده أمريكا، لن يرضى بأقل من فلسطين حرة ذات سيادة كاملة، يقرر مصيرها الشعب الفلسطيني وحده، بكل أطيافه وليس لغيره الحق في فرض رأيه عليهم؛ والفلسطينيون أذكى وأفطن وأدرك من أن ينخدعوا بدولة مسخ، على شاكلة الدول العربية الأخرى تضاف إلى نادي الجامعة العربية. وإذا كانت الدول العربية المستقلة قد وقعت في معظمها في فخ الذين استولوا على ثمار وتضحيات الذين دفعوا أنفسهم رخيصة في سبيل تحرير أوطانهم فالفلسطينيون يدركون غاية الإدراك، مهالك هذه الحقبة البائسة ويرفضون نفس المآل، ولهذا السبب لن يقعوا في فخ أصحاب دموع التماسيح وشفقة الذئاب، من نوع “9 أشهر بركات” على غرار “7 سنين بركات”، بل يستميتون في مقاومتهم حتى التحرر الكامل، تحرير الأرض والإنسان والإرادة، وحتى لا تسرق منهم تضحياتهم الجسام في لحظة عاطفة في غير محلها.
تعليقان
سي رشيد ، هؤلاء و أولئك ، من البداية كانوا يتكلمون و يمنون أنفسهم : ماذا بعد غزة ، و كأن غزة انتهت و صارت في حكم ما اتفقوا عليه في حدود ” صفقة القرن ” ! غير أن المقاومة حسمت أمرها و حددت موقفها و سألت سؤالها: ماذا بعد الطوفان ؟ و هل ينتظر هؤلاء و أولئك سوى الزلزال؟ زلزال السلمية يتسم بالمفاجأة ، أو لم يكن طوفان السلمية مفاجئا ؟
زلزال الأقصى ٱت لا محاولة ، و وقوده هو الدماء الطاهرة على خط التمحيص ، ذلك الذي لم يدركه النائمون على قارعة التاريخ ، رحم الله شهداء الأمة.