هذا السؤال (بعيدًا عن التمنّي) تفرضه التطوّرات المتلاحقة، على مستوى العالم، خاصة بالنظر إلى حراك الجماهير في الدول الغربية وداخل جامعاتها المرموقة عبر عواصم العالم، ومواقف عدد لا يُستهان به من كبار المسؤولين في دول غربية، وجرأتهم على التعبير عن مواقف لم يكن يتصوّر أحد أنه يمكن الصدع بها علانية في تحدٍّ لقيود وترهيب آليات النظام الدولي، الأمريكي خصوصًا تحت هيمنة اللوبي الصهيوني، على غرار ما صرّحت به قبل يومين، نائبة رئيس الوزراء الإسباني، ورئيسة حزب سومار، يولاند دياز، في قولها “نحن نعيش لحظة يُعتبر فيها القيام بالحد الأدنى أمرًا بطوليًا، لكنه غير كافٍ في الوقت ذاته”، داعية إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي لإلغاء جميع الاتفاقيات مع إسرائيل!!! مثل هذه التصريحات بدأت تتوالى، خاصة بعد أن تعاظمت جرائم الصهاينة في قطاع غزة وبلغت حدًا غير مسبوق، بحيث لم يعد بالإمكان تجاهلها أو التغاضي عنها، مما استدعى إصدار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، السيد كريم خان طلبًا بتوقيف نتنياهو وغالانت على ارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ومثلما كان مُتوقّعًا، أعربت أمريكا (وبريطانيا وألمانيا) عن سخطها من هذا القرار، مع رفض هذه الإمبراطوريات الإمبريالية مثل هذا القرار باعتباره “غير مؤسّس” و”سخيف”. هذا الرفض والموقف المتغطرس، أمر “طبيعي” وينسجم مع سياسة أمريكا الداعمة اللامشروطة للكيان، وسبب ذلك بديهي، لأنّ المسؤولين النافذين في أمريكا، ديمقراطيين وجمهوريين على حد سواء، يدركون تمام الإدراك أنهم جزء لا يتجزأ في آلية ارتكاب تلك الجرائم التي يُتابع عليها نتنياهو ووزيره للدفاع، وقبولهم بالقرار أو الترحيب به، معناه أنهم يقرّون بعدالته ويتحمّلون المسؤولية عمّا يتمخّض عنه من تبعات، أي المتابعة القضائية أمام نفس المحكمة على مشاركتهم إلى جانب الكيان المغتصب، في اقتراف الجرائم المشار إليها في القرار، من خلال إمداد الكيان بالأسلحة في تنفيذ هذه الجرائم، ويعلمون أيضًا أنّ لائحة الاتهام ستشملهم في مرحلة لاحقة، وهو تحديدًا ما حذّر منه النائب الجمهوري لندساي غرهام عندما صرّح قائلًا أن “إصدار القرار بحقّ زعماء إسرائيل هو مرحلة أولى، ستشمل مسؤولين الأمريكيين”، ناهيك عن كون قرار المحكمة الدولية لا يقوّض موقف إسرائيل فحسب ويلطخ سمعتها، بل يضعف ويقوّض ويلطخ أيضًا سمعة أمريكا ومن سار على دربها في مساعدة دولة متهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قِبَل هيئة دولية رسمية.
نصوص ميثاق روما واضح بهذا الشأن، فكلّ من يعترض على قرارات المحكمة الجنائية الدولية أو يعرقل تنفيذ قراراتها مُعَرّض للمساءلة والمتابعة بخرق هذه النصوص وعرقلة سير عملها، ممّا يضع الإدارتين الأمريكية والبريطانية وغيرهما (من قبيل مواقفهما وتهديداتهما للمحكمة وأعضائها)، في موقع الخارج عن القانون والمناهض للمؤسسات الدولية المعترف بها من قبل غالبية أعضاء الأمم المتحدة. يتوقّع أخصائيون في القانون الدولي، أن تقوم المحكمة الدولية في مراحل تالية بتوسيع لائحة قائمة الاتهام والمتهمين، لتشمل جرائم أخرى وأطراف أخرى، إما متوّرطة في الأعمال المشار إليها، سواءً في غزة أو الضفة الغربية (مسؤولين عسكريين وسياسيين في جيش الاحتلال، مثل باقي أعضاء مجلس الحرب الإسرائيلي) أو الداعمين لهم ومزوديهم بالأسلحة والدعم الدبلوماسي، مثل الرئيس بايدن ووزيره للخارجية بلنكن ووزير الدفاع أوستين ورئيس الحكومة البريطاني سوناك وغيرهم، بتهمة المشاركة في الجرائم ضد الإنسانية، وهو ما يفسّر حجم السخط وردود الأفعال الهستيرية من هذه الشخصيات، وتصريحاتهم الملتهبة والمتشنجة، بل إصدارها تهديدات باتجاه المحكمة ورئيسها ومساعديه بل وأفراد أسرهم، في حالة إصدار القرار، في مشهد بائس يذكّر بتصرف الدول المارقة التي تتصرّف وكأنها عصابات مافيا دولية.
بالنظر إلى هذه التطورات، يمكننا القول أن قرار محكمة العدل الدولية قبل أشهر ثم طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قبل أيام (بحق أعلى قيادات هذه الدولة)، يشكلان نقطة تحوّل مصيرية في تاريخنا المعاصر، خاصة بعد فقدان هذه المؤسسات الدولية المصداقية وثقة شعوب “الجنوب”، بعد أن اختصرت هذه المؤسسات الدولية ولايتها على الدول الأفريقية أو المغضوب عليهم من القوى الغربية النافذة مثلما صرح به المدعي العام للمحمة الدولية، كريم خان للصحفية كرستيان أمنبور على قناة CNN، عن التهديدات التي تلقاها من مسؤولين غربيين تحذّره من مغبة توجيه طلب التوقيف بحق “حلفاء” أمريكا، وأن “المحكمة مخصّصة للأفارقة والبلطجية وليس للقادة الغربيين”.
هذا القرار أعاد الأمل والمصداقية في هذه المؤسسات، ويعدّ بمثابة تحوّل جوهري لأنه يضع حدًا لعصر اللاعقاب والحصانة التي ظلت تتمتّع بها إسرائيل، ويُنهي وضع “الاستثنائية” والضحية الأبدية، التي فرضتها على العالم حتى الآن، وتحصنها من أيّ متابعة مهما اقترفته من جرائم بشعة على مرّ عقود، تحت المظلة الأمريكية الغربية والحماية المطلقة، ممّا جعلها تتحدّى المجتمع الدولي قاطبة، بل وتتطاول عليه بتخليد جنودها جرائمهم في صورة تثبت أن فاعليها يشعرون بحصانة استفزازية تسمح لهم بفعل ما يشاؤون دون خشية المساءلة.
حتى في حالة عدم متابعة المسؤولين الأمريكيين والغربين عمومًا (على الأرجح) على مشاركتهم في هذه الجرائم، ففي حالة إصدار القرار من المحكمة الجنائية الدولية (بعد اتخاذ القضاة الثلاثة في المحكمة قرارهم ردًا على طلب المدعي العام)، فمن شأن ذلك أن يزيد في عزلة هذه الدول وترسيخ تهمتهم في مشاركة دولة متهمة رسميًا من قِبَل محكمة دولية مستقلة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانة، وهو ما يعزّز موقف ونضال مواطني هذه الدول الذين عبّروا عن رفضهم المشاركة في سياسات دولهم الإجرامية، ويحفّزهم على زيادة الضغط على حكامهم لوقف إمدادهم الدولة المارقة بالأسلحة، ويزيد من عزيمتهم لمواصلة نضالهم المناهض لحكامهم ورفضهم أن يتم ذلك الدعم باسمهم (Not in our name!).
إننا نشهد اليوم، من جهة، الإبادة الجماعية على المباشر، ومن جهة ثانية، ردًا إسرائيليًا متحدٍّ لكل قرار دولي، يعزّزه تضمان أمريكي غاشم ومتهوّر للكيان، وهو ما شكّل نقطة التحوّل في العالم والمجتمعات الغربية خاصة، وهذا الوضع بالتحديد يقدّم الصورة الحقيقية عن إسرائيل، التي تغرق في وحل جرائمها أمام العالم، وتجرّ معها مساعديها، وعلى رأسهم داعمها المطلق أمريكا.
اليوم غير البارحة، فأمام التغيّر الهائل الحاصل والمتعاظم، بين جيل العالم الغربي المؤيد في معظمه لإسرائيل، والجيل الحالي الذي يرفض أن يكون جزءًا من آلة الإجرام، قد نشهد تغيّرات مصيرية في السنوات أو العقود القادمة، كيف لا ونحن نشاهد ملامح هذا التحوّل وإرهاصاته الأولى، التي تعدّ بمثابة زلزال في المنظومة العالمية المهيمنة، لم يكن يتصورّه أحد، قبل 7 أكتوبر 2023.