* إقلاع لا اقتلاع :
سبق أن ميزنا بين الإقلاع والاقتلاع، ومن خلال ذلك يمكننا الوقوف على الحالة المعبر عنها بالغثائية، التي تعبر بدورها عن المسافة التي تفصلنا عن مجرد التفكير في عملية الإقلاع، وهو ما يوحي باستمرار حالة الاقتلاع. لن أخوض في التفاصيل، ولن أسرد أمثلة، يمكنكم الوقوف على ذلك بأنفسكم ومع أنفسكم داخل حدود الأسرة التي فقدت الكثير من عناصر عافيتها، والمدرسة التي لم تعد ٱمنة، والمسجد الذي لم يعد جامعا للكلمة، والجامعة التي لم تعد شاهدة، ناهيك عن دور الصحة ودور العدالة الغائبة !
*نقطة البداية :
هو سماكم المسلمين ؟!
ورد في القرآن الكريم، الٱية 78 من سورة الحج:” هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس … ”
الراجح هو أن الله سبحانه هو الذي سماكم، وما دام الله قد اختار هذا الاسم، فلا يجوز استبداله بأي حال من الأحوال. قال الإمام عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله (هو سماكم المسلمين من قبل) أي الله عز وجل. وكذا قال مجاهد والضحاك والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان.
وبخصوص الصحابة لم يثبت أنهم اختاروا لأنفسهم غير هذا الاسم. وقد قال النسائي عند تفسيره هذه الآية:
أنبأنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شعيب، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره، عن أبي سلام أنه أخبره قال: ” من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم”. قال رجل: يا رسول الله، وإن صام و صلى؟ قال: ” نعم، وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله “.
وعلى هذا الأساس وجب أن نتخلى عن أي دعوة أخرى تحت أي اسم أو شعار، خصوصا بعد التجارب المريرة التي مرت بها البلاد العربية والإسلامية، سواء في مصر، أو السودان، أو سوريا، أو العراق، أو الجزائر، أو الصومال، أو أفغانستان، أو باكستان، كل هذه البلدان مرت باختبارات عملية، ثبت على إثرها خطر الانقسام الداخلي بين المسلمين على أساس ديني، وينسحب المطلوب على أبناء الأمة الواحدة، إذ لا يجوز الدعوة إلى الله تحت أي اسم غير الذي اختاره الله لهذه الأمة .
يقول الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله:” إن مجتمعا، الفرد فيه ليس لديه موقف محدد من القضايا يؤديه تضامنا مع الجماعة، هو مجتمع مصطنع، لأن الأفراد الذين يتألف منهم يعيشون كمتطفلين مذنبين، لا يشعرون بأي حضور لهم، وذلك ما يهدم في ذاتهم قيمتهم كإنسان”. وجهة العالم الإسلامي – الجزء الثاني
انطلاقا من هذا الموقف الذي عبر عنه بن نبي مع بداية الخمسينية الثانية من القرن العشرين، أي قبل 72 سنة من الآن، أراد تسليط الضوء على مدى التحوّل الذي أصاب المسلم في مقتل، بدأ يرسم لنفسه مسار الاستسلام على خط ظاهرة القابلية للاستعمار، الضعف بدل القوة، والهزيمة بدل الانتصار، والفرقة بدل الوحدة.
وعلى هذا الأساس بات جسم الأمة الواحدة عرضة لكل مظاهر الاقتلاع، فما بالك بحال الإنسانية كلها؟ المسلم اليوم، كما كان بالأمس القريب، لم يعد يقرأ، لا في بيته ولا في مدرسته ولا في مسجده الجامع، كل ذلك بسبب سوء الاختيار.
*سؤال الاختيار :
وجب على الطالب، وكلنا طلاب، أن يختار بين أمرين، لا ثالث لهما، إما إقلاع و إما اقتلاع، أما الاقتلاع فقد وقفنا على ٱثاره المدمرة، حالنا مثل حال ركاب سفينة بعيدة عن شط الأمان، اختلف ركابها و لم يجتمعوا بخصوص طريق النجاة، كل ما يقدمون عليه يصب في مجرى الاقتلاع، الموت البطيء على خط التبعية و مزيد من ملازمة حالة القابلية للاستعمار!
وضمن علاقة قومنا بعالم القراءة، نستكشف ما يلي:
يمكننا ملامسة بعض المؤشرات:
العينة 1: واحد من المواقع الالكترونية، بل محطة تستنزف كثيرا من الوقت من دون طائل، موقع عربي 21 :
– الكاتب : فراس أبو هلال، عنوان المقابلة : لماذا الطلاب الأمريكيون أكثر عروبة من الطلاب العرب ؟ 202/04/30
بغض النظر عن محتوى المقالة، العنوان يؤشر على مدى قابليتنا لعمليات الاقتلاع، الكاتب (الطالب) لا يعدو كونه متهِما -بكسر الهاء، أو متهَما – بفتحها – ببساطة هو كمن يريد من طلاب أمريكا أن يتحوّلوا إل عرب، أو يحملوا عن العرب أوزارهم، أو يملأوا بدلا من العرب ما جد من فراغ داخل حدود أوروبا وأمريكا بسبب ما لحق بسياسة إسرائيل من وهن و هوان!
– الكاتب (الطالب) : اسماعيل باشا ، العنوان : أردوغان …هل سيسقطه الإسلاميون ؟ 2024/05/01
من بين ما جاء في المقالة: ” أعادت الانتخابات المحلية الأخيرة التي أجريت في 31ٱذار / مارس الماضي في تركيا، إلى الأذهان مشاركة الإسلاميين في شيطنة السلطان عبد الحميد الثاني قبل عزله عن العرش، وأثارت تساؤلات حول احتمال تكرار ذات السيناريو بسبب موقف الإسلاميين من رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ليؤدي إلى نتيجة مشابهة وعواقب وخيمة”.
يبدو للكاتب وكثير من القراء أهمية الذي أثارته المقالة، لكن الغائب في هذا ومثله كثير، هو البناء على وعي انطلاقا مقدمات ونتائج، وبالتالي غياب الوعي بطبيعة المشكلة، لأن الذي شعر به الكاتب (الطالب) من جنس ما شعر به الرئيس أردوغان نفسه ومعه المئات من أعضاء العدالة والتنمية مع نتائج الانتخابات السابقة، أي مع انتهاء العهدة السابقة وبداية العهدة المنتهية نهاية مارس الماضي ! المؤشر – للأسف الشديد- يدل على استمرار حالة الاقتلاع، في الوقت الذي أقلعت فيه سفينة التحييد – تحييد تركيا المبطن عبر الوكلاء – بعد فشل المحاولة الانقلابية الغاشمة صيف 2016 من قرننا هذا! وتلاحظون أن المريض على سرير القابلية للاستعمار، لم يغادر مكانه إلا قليلا طيلة السنوات الفاصلة بين حكم السلطان عبد الحميد الثاني وحكم أردوغان اليوم! مما يوحي باستمرار عمليات الاقتلاع بالرغم من الفرص المتاحة، وكل ذلك بسبب سوء الاختيار! الله سماكم المسلمين، وأنتم اخترتم غير ذلك! إلى الحد الذي بات فيه من الصعب، وفق تصوري المتواضع، جلوس الرئيس أردوغان إلى رجل تركيا الغائب أحمد داود أوغلو، لتدارس الوضع المستجد بخصوص حالة السفينة التركية التي تبحث عن الطريق الملائم قصد الوصول إلى شط الأمان، لعل القوم منشغلون بنشوة الرحلة، ولا أحد يفكر في سؤال الإقلاع ؟!
العينة 2: ليس بعيدا ولا غريبا، محطة من المحطات التاريخية، تسعينيات القرن الماضي، في جو غلبت عليه حماسة الشباب في ظل تعددية حزبية تلت أحداث أكتوبر 1988، يطالب جمهور عريض بوجوب تنحية الرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله، من دون الخوض في التفاصيل التي باتت معلومة لدى الكثيرين، حتى أن الشيخ عباسي مدني رحمه الله -الرئيس الأول لجبهة الإنقاذ -طالب بذهاب الرئيس الشادلي بن جديد، ونعته بمسمار جحا! وأكد على لزوم تنحيته! من دون تفصيل جاء المؤشر وقتها يدل على قيام سلسلة من عمليات الاقتلاع! وبالرغم من وجود من حذر من خطورة الرحلة، لكن لا أحد أكد على وجوب الإقلاع، باستثناء فيلسوف الحضارة والأخلاق مالك بن نبي رحمه الله قبل ذلك بأربعين سنة! مما يؤشر باستمرار حالة ملازمة القوم سرير القابلية للاستعمار، وبالتالي استمرار مسلسل الاقتلاع!
*الخلاصة:
من دون تصحيح طبيعة الاختيار، ووجوب التخلي عن كل تسمية أو شعار يزيد من شتاتنا ووهننا وهواننا، لن يستقيم حالنا على خط الإقلاع !
هذه هي حالنا، أما الذي نراه في أمريكا وأوروبا بخصوص احتجاجات طلاب الجامعات فهو من أمارات طوفان السلمية في مواجهة الإرهاب، لن ينفع المنتظرين انتظارهم على قارعة التاريخ، ولن يعجل بإطلاق سراح المسجونين استظهار علامات الساعة على ألسنة الواعظين!
أرسل تعليقاً