بداية، وجب الإتفاق على أن الثورة نابعة من صميم المعاناة المتراكمة على كاهل الشعوب و عاتقها جيلا بعد جيل، أما الصفقة فهي من صميم سلة المظالم التي تسبب فيها الاستبداد جيلا بعد جيل، وشتانا بين ثورة المظلومين و صفقة الظالمين.
ثورة القرن
كل الثورات التي سبقت قرننا هذا، كانت الكلمة فيها للشعوب، سواء تلك التي عانت من وطأة بيوتات الإقطاع في أوروبا، ودور الكهنة
الذين اقتاتوا على فتات السلطان، قتلوا العلماء وعاقبوا المفكرين، معلمين ومتعلمين، فانتفضت الشعوب من الأوساط العلمية التي واجهت بقوة الفكرة وقوة المنطق، أباطيل الحكام المستبدين، و لم يكن غريبا أن تتعلم الشعوب من مفكريها و علمائها و متعلميها، كيف يجب مواجهة سلطان الجهل بسلطان العلم و المعرفة، و من دون ريب فقد كانت الكلمة الفصل لسلطان العلماء الذين رفعوا رفقة شعوبهم راية العلمنة في وجه غطرسة أباطرة رأس المال الحرام، وأكاذيب القساوسة والرهبان من أولئك الذين أرهبوا الناس بأكاذيبهم وتناقضاتهم التي شوهوا بها نصوص الدين الذي حرفوه و سرقوا منه كل نص أصيل. هذا من جهة أوروبا، أما باقي أنحاء المعمورة في أمريكا و إفريقيا و آسيا فقد نغصت حياة الناس تلك القوى الاستعمارية الغازية للأرض والمنتهكة للعرض، والغريب في ذلك أن الذين قادوا تلك الحملات هم سياسيو أوروبا المغامرين و قساوستها المنبوذين الذين أثقلوا كاهل أوروبا إلى زمن قريب، و قد عبثت عساكر المحتل الغاصب بحياة الإنسان بصورة لا يمكن أن تسعها في الوصف عبارة”إرهاب”التي باتوا يستخدمونها في وجه الأبرياء في أيام الناس هذه. و بالرغم من الثورات المسلحة التي ميزت حركة الشعوب في وجه المحتل الغاصب، والوصول إلى دحر عساكره، فإن كثيرا من تلك الشعوب لم تتحرر إلا نسبيا، بسبب واحد، وهو أن الاستعمار الإستيطاني خصوصا لم يغادر الديار المحتلة حتى غرس فيها أنظمة استبدادية فاسدة، عوّل عليها كثيرا من أجل تطويع الشعوب و قهرها في سبيل الحفاظ على تبعيتها. هذا هو الطرف الأول في المشكلة التي انفردت القوى الرأسمالية الاستعمارية مع نهاية النصف الأول من القرن العشرين وحتى العقد الأول من القرن الجديد في صياغة نصها ورسم منحنياتها وضبط نتائجها، غير أن السنة الأولى من العقد الثاني من القرن الواحد و العشرين حملت للعالم بشرى إنكشاف الأقنعة، خصوصا الأقنعة التي تسترت من ورائها قوى الصهيونية العالمية المتحالفة
والمستخدمة لبقايا القساوسة الذين لفظتهم الشعوب الأوروبية، ولم تعد تثق بهم جميعا بالرغم من الاستماتة المحتشمة لبعض تلك الرموز التي باتت تشبه كثيرا تلك الجثامين المحنطة لفراعنة مصر و كهنتها. و دون سابق إنذار تحركت شعوب المغرب والمشرق من بعد عشر سنوات على أحداث2001/09/11 كمحطة من محطات اتفاق القوى الظالمة على تكريس استعباد الشعوب، هذه الأخيرة التي ثارت على حكامها وأزاحت بعضهم، و لم يهدأ لها بال بالرغم من التعتيم والتضليل والتزوير رفقة التحوّل اللافت على مستوى الإدارة الأمريكية التي تمخض حملها العسير فأنجبت قمة في الغباء والوفاء، أما الوفاء فهو الاستماتة في تنفيذ المخطط الصهيوني الذي بسط نفوذه على الكونغرس أكثر من أي وقت مضى، و أما الغباء فقد كان بسبب ما اتفق عليه خبراء الصهيونية، كونهم لا يأمنون جانب الإنسان الذكي الذي يمكن أن يتحرك من داخل ضميره فيفسد أو يعطل مخططهم، و فعلا فقد كان الغباء المغلف بالدهاء صناعة صهيونية ماكرة. و اليوم و بعد أن بذلت القوى الاستبدادية كل ما عندها تقريبا من أجل قتل الشعوب وقبر آمالها، كما فعلت مع الشعب المصري الشقيق و الشعب اليمني السعيد حيث عمدت إلى إيهام الرأي العام العربي و العالمي أن مثال حاكم مصر الذي انقلب على اختيار الشعب هو النموذج المناسب و الملائم لشعوب لم تتحضر ولم تتمدن بعد، بشهادة أذنابهم و عبيدهم الذين يحرسون مصالحهم أكثر مما يحرسون أعراضهم و ذويهم.
و من دون توقعات مسبقة خرج الجزائريون والسودانيون عن بكرة أبيهم ليقولوا لهم خسئتم وخاب مسعاكم، الشعوب لن تموت مهما صنعتم من أسباب، لأن الخراب و الإرهاب لا يحيق إلا يأهله. و أكثر من ذلك فقد أوفوا المكيال حينما أبهروهم وأرهبوهم بسلميتهم التي نسفت كل أباطيلهم وأكاذيبهم التي غطت جرائمهم في كل مكان ضد الإنسانية بغض النظر عن معتقداتها وأعراقها وألوانها ومذاهبها وأجناسها وألسنتها، فقط لأن المستبدين الظالمين هم صناع موت، لا صلة لهم بالحياة.
صفقة القرن
أهم ما ميز المرحلة التي بدأ الحديث فيها عن صفقة القرن، من بعد كل الصفقات التي دوّخوا بها العرب والعجم باسم السلام، أيام رابين والسادات، و بيريز و عرفات، هو التحوّل في سياسة الأعراب الذين خلفوا الآباء والأجداد ممن حكموا بلاد الخليج و الجزيرة العربية، الذين ضاقوا بكل ما هو عربي أصيل، خصوصا في عالم الموقف والكلمة، لقد أصبحوا بين عشية و ضحاها يضاهون أبراج دبي في المكر و الخداع، لا في العلو و الإبداع، ببساطة لأنهم أبدعوا فقط في كل ما هو عقوق و نكران، و كأنهم بقايا من صبية جحافل المغول التي رحلت إلى غير رجعة، ترعرعوا وسط غلمان السلطان حتى اشتد عودهم و صاروا بمنازل الأمراء، فشدهم الحنين ورحلت بهم الذاكرة بعيدا، فأجمعوا على إحياء الماضي و مدوا أيديهم إلى بني صهيون و أسروا لهم كل ما كانوا يخفونه من وراء قناع، و هذا ما ميز هؤلاء وأولئك طويلا، وكلاهما استفاد من حلم العرب و بساطتهم، عاشوا معهم جنبا إلى جنب فأمنوهم على المعتقد والنسب، والمال والولد، خصوصا أثناء الحربين الكونيتين إبان القرن العشرين، يوم كان يلاحقهم الهتليريون في كل مكان بما عرفوا عنهم من مكر و خديعة و خيانة للجوار. و فعلا فقد عادوا إلى صنيعهم أيام الاستعمار الذي احتل الأوطان وسلبها الأمن والأمان. و مع نهاية القرن العشرين كشرت الوحوش من جديد عن أنيابها و نزعت عنها أقنعتها، وأعلنت عن مشروعها المتفرد الجديد الذي سمته”صفقة القرن”ولم يعد يخف أمراء الأعراب وجوههم حينما صاروا يتحدثون عن المقدسات التي آوتهم طويلا، فباتوا هم العرب الخاصة من دون كل العرب، والأوصياء على كل شبر من بلاد العربية التي يريدونها، للأسف الشديد، أرضا من دون شعب، وأمة من دون مقدسات، لكن الصهاينة الذين يعرفونهم أبا عن جد و عرقا عن شجرة، كلفوهم بمهمة تخريب الأوطان، فعمد الأمراء المبجلون إلى الذي فعلوه بالسوريين حكاما و محكومين، و باليمن الذي لم يعد هذه الأيام سعيدا، وبليبيا عمر المختار الذي قهر الطليان، فكيف بحفتر الحفيان عميل استخبارات الأمريكان!؟
جوهر صفقة القرن
اتفق الصهاينة و ساسة أوروبا وأمريكا المغامرين، ولا أعمم، على ورقة تأميم الأرض المغتصبة و التي لا تخرج عن فحوى دولة إسرائيل الكبرى التي تشمل، إضافة إلى الأراضي المحتلة الآن، وفق ما يصبون إليه، الضفة الغربية بما فيها القدس، أما السلطة التي اختاروا لها مهمة واحدة، مفادها ضمان أمن الدولة الفلسطينية التي رسموا خرائطها، على أن تضم، إضافة إلى قطاع غزة، أجزاء من أرض سيناء التي هيأها السيسي وزبانيته من بعد تجريف أراضيها وهدم بيوتها و ترحيل أهاليها، حتى تصبح وحدة جغرافية محاصرة، لها منافذ مراقبة إلى العالم الخارجي، على أن تتكفل مصر بتأمين حدود (دولة إسرائيل) من جهة سيناء.
هذه صفقتهم، أما ثورة الشعوب فلها مسارها و حسمها الخاص بها، و الذي لن يكون سوى حسما حضاريا، لن يتوقعوه أبدا.
30 أبريل 2019