محمد مصطفى حابس: جينيف / سويسرا
في إطار الحوار بين الأديان وبمناسبة شهر رمضان الفضيل، نظمت قناة الميزان في فرنسا ندوة للتعريف بالصيام في الديانات الثلاث لدى اليهود والنصارى والمسلمين، أدار الندوة باقتدار الإعلامي (المسلم) فؤاد بحري ونشطها عن الجانب اليهودي، الحاخام قابريال (جبرائيل) حقان وعن الجانب المسيحي الكاهنة البلجيكية الأخت ماري (مارية) كوسترنان، وعن الجانب الإسلامي، الجزائري الدكتور العربي كشاط، العميد الأسبق لمسجد الدعوة بباريس، و بعد تعريف مقتضب بالشخصية الثلاث، قدم منشط البرنامج تعريفا عاما بحيثيات الصيام عموما في الأديان السماوية التي عرفت الصيام كابرا عن كابر منذ قرون متوالية من لدن آدم عليه السلام الى صاحب الرسالة الخاتمة عليه الصلاة والسلام، ووفق هذا الترتيب و طبعا ترتيب الرسالات السماوية الثلاث التاريخي، جاء ت التدخلات كالتالي، بداية باليهودية:
الصيام عند اليهود متعدد ومتشعب وفيه بعض الشبه بالإسلام:
حيث ذكر الحاخام اليهودي جبرائيل، أن الصيام عند اليهود متعدد ومتشعب، وهناك نوعان من الصيام، الصيام الطويل الذي يدوم يوما وليلة أي 24 ساعة والصيام القصير الذي يدوم تقريبا يوما واحدا بالامتناع عن الأكل و/أو الشرب و/او الجماع ..
يبتدئ الصيام عند اليهود في الصنف الأول من قبل غروب الشمس إلى بعد غروب الشمس من اليوم اللاحق، ويمتنع فيه اليهود عن الطعام والشراب والجماع، وبعض الأيام يكون صيامهم فيه من شروق الشمس إلى غروبها، ويمتنعون فيه عن الطعام والشراب فقط.
على سبيل الذكر لا الحصر: ولليهود أيام عديدة متفرقة يصومونها لمناسبات عدة، منها
– صوم يوم الغفران: وهو أهم صوم عندهم، وهو الصوم الوحيد الذي يعزونه إلى الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام.
– صوم تموز (شهر جويلية): وهو صيام يوم واحد في الثامن عشر من شهر تموز اليهودي، ويعتبرونه حداداً على حوادث مختلفة، أهمها: تحطيم ألواح التوراة، إبطال القربان اليومي صباحاً ومساء، إحراق التوراة في أورشليم على يد القائد (إتسويندوموس)، وكذلك يجعلون هذا الصوم ذكرى بداية مهاجمة تيطس الروماني لأورشليم بقصد إبادة اليهود سنة (70) م.
– صيام التاسع من آب/ أوت (أغسطس): وهو ذكرى سقوط أورشليم على يد تيطس، وتخريب الهيكل الثاني زمن أدريانوس.
كما بين الحاخام الفرنسي أن هناك صيام بعض اليهود للتوبة من الذنوب، كل أيام الاثنين و الخميس (كالمسلمين تماما) كما يصوم اليهودي وقت الحاجة، كالصيام عند الرؤية المفزعة في المنام، ويَعْتِبر الصيام حينها مكفر للذنوب والمعاصي التي قد يقترفها العبد من حين لأخر..
لا يوجد صيام دوري على النصراني، بل يصوم الإنسان وقت الحاجة:
من جهتها قدمت الراهبة المسيحية ماري تعريفات متضاربة عن الصيام لدى الملل المسيحية المتعددة، وهو عموما الامتناع عن الطعام حتى بعد منتصف النهار، ثم تناول طعام خال من الدسم عند البعض، والبعض الاخر منهم يرى أن الصوم امتناع عن الأكل والشرب من الصباح إلى المساء، وهم يصومون يوم الأربعاء؛ لأنه يوم المشاورة على موت المسيح عندهم، ويوم الجمعة؛ لأنه صلب عندهم فيه المسيح، وصوم الميلاد (كريسمس) وعدد أيامه (43) يوماً تنتهي بعيد الميلاد، وأياماً أخرى غيرها وضعوها لمناسبات خاصة تختلف من كنيسة إلى كنيسة. وبعضهم يرى أنه لا يوجد صيام دوري على النصراني، بل يصوم الإنسان وقت الحاجة للصيام، ويَعْتِبر كل صيام محدد بدعة غير مشروعة !!
الصوم عند الطوائف المسيحية هو أيضا الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته، مقتصرين على أكل البقول، وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى
لأن المسيح – حسب المتدخلة المسيحية – حضَّ على الصوم عموماً ولم يحدد فيه كيفية ولازمانـاً ولا شيئـاً من ذلك، فتأوله كل جماعة مسيحية منهم على ما أرادت بدون أن يكون هناك أي دليل يعتمد عليه من قبل المسيح ( عليه السلام) !!
وهذا كله- في نظر المحاضرة – لأن النصارى فصلوا بين العبادة الواردة في العهد القديم والعبادة في العهد الجديد، فحرَّم عليهم بولس العمل بشيء من تعاليم الناموس (التوراة) كما سبق بيانه – فصارت ديانتهم دعوة عامة ليس فيها تفصيل لشيء من العبادات !!.
الصيام عند المسلمين على ضوء الحكمة العامة للتشريع، وهي ربط المخلوق بالخالق:
أخيرا أحيلت الكلمة للشيخ الدكتور العربي كشاط، المفكر والإمام ، العميد الأسبق لمسجد الدعوة بباريس والمتخصص في التقريب والحوار بين الأديان منذ عقود خلت، بما في ذلك الاشراف على نشاط و تكوين وتأطير أئمة وطلبة جاليتنا المسلمة في الدعوة في ميادين التربية والصحة والسجون و الجيش و .. الذي استهل كلمته بالتعريف بالصوم عموما مبينا أن صوم شهر رمضان من كل عام هو الصوم المفروض على المسلمين، بالإجماع. ويكون بالإمساك والامتناع عن المفطرات من طلوع الفجر حتى غروب الشمس، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو من أحب الأعمال إلى الله- جل وعلا في علاه -؛ نسبةً إلى الحديث القدسي : «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما فرضت عليه»، حيث أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله عز وجل . وفرض في السنة الثانية من الهجرة النبوية، قال البهوتي: «فرض في السنة الثانية من الهجرة، إجماعا، فصام النبي ﷺ: تسعة رمضانات إجماعا». والأصل في وجوب صومه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءآمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ..﴾ الآية ثم تعين صوم شهر رمضان بآية: ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ وحديث: «بني الإسلام على خمس». وذكر منها: «صوم رمضان». ويجب على كل مسلم، مكلف بالغ عاقل، مطيق للصوم، صحيح، مقيم، غير معذور. وصوم رمضان يكفر الذنوب لمن صامه إيمانا واحتسابا.
وكان فرض الصيام أول ما فرض على المسلمين في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَ الَّذِينَ ءآمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وكان في ابتداء فرضه: مقدرا في أيام معدودات، هي: «شهر رمضان»، وقول الله تعالى: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ بمعنى: الإخبار أن الصوم كان مفروضا في الشرائع السابقة.
وقد رغب للمسلمين الصيام في أوقات أخرى، كأيام الخميس والاثنين، و ثلاثة أيام من كل شهر، أي الأيام البيض..
الصيام تخليص للإنسان من رِق الشهوة والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها:
وقد فصل الدكتور كشاط بقوله، أن الصيام عند المسلمين يأتي على ضوء الحكمة العامة للتشريع، وهي ربط المخلوق بالخالق، وإعداد الإنسان لتحقيق خلافته في الأرض بالأخلاق الشخصية والاجتماعية يمكن توضيح الحكمة من الصيام فيما يأتي:
1 – الحكمة من الصيام أن فيه تقديم رضا الله على النفس، وتضحية بالوجود الشخصي بالامتناع عن الطعام والشراب، وبالوجود النوعي بالإمساك عن الشهوة الجنسية، وذلك ابتغاء وجه الله وحده، الذي لا يتقرب لغيره من الناس بمثل هذا الأسلوب من القربات، ومن هنا كان ثوابه عظيمًا، يوضحه ويبين علته قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي” رواه البخاري ومسلم.
و الحكمة من الصيام أنه إحساس بمقدار نعمة الطعام والشراب والمتعة الجنسية عندما يحرم منها ونفسه تائقة إليها، فيكون شكره عليها بالإطعام المتمثل في كثرة الصدقات في فترة الصيام. وفي توقيت الصيام بشهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن تذكير للإنسان بنعمة الرسالة المحمدية، ونعمة الهداية القرآنية التي يكون الشكر عليها بالاستمساك بها “لعلكم تشكرون”
2 – الحكمة من الصيام أنه تخليص للإنسان من رِق الشهوة والعبودية للمادة، وتربية عملية على ضبط الغرائز والسيطرة عليها، وإشعار للإنسان بأن الحريات مقيدة لخير الإنسان وخير الناس الذين يعيش معهم، هذا جهاد شاق يعوِّد الصبر والتحمل، ويعلم قوة الإرادة ومضاء العزيمة، ويعد الإنسان لمواجهة جميع احتمالات الحياة بحلوها ومرها وسائر متقلباتها ليجعل منه رجلاً كاملاً في عقله ونفسه وجسمه، يستطيع أن يتحمل تبعات النهوض بمجتمعه عن جدارة.
والصيام أيضًا يعوِّد التواضع وخفض الجناح ولين الجانب، وبالتالي يعرف الإنسان قدره ويحس بضعفه، ومن عرف قدر نفسه تفتحت له أبواب الخير واستقام به الطريق. إن الصيام إلى جانب ما فيه من صحة النفس فيه صحة بدنية أسهب المختصون في بيانها وتأكيد آثارها الطيبة، ففي الحديث: “صوموا تصحوا”
3 – الحكمة من الصيام أن الجوع والعطش حين يحس بهما الصائم تتحرك يده فتمتد بالخير والبر للفقراء الذين عانوا مثل ما عانى من ألم الجوع وحر العطش، ومن هنا كانت السمة البارزة للصيام هي المواساة والصدقات وعمل البر، وكانت شعيرة يوم العيد هي زكاة الفطر للتوسعة على الفقراء، وهي بمثابة امتحان للصائم بعد الدروس الطويلة التي تلقاها في شهر رمضان.
واختتمت الندوة بذكر الأهداف المنتظرة من الصوم في صفوف شرائح المجتمع على اختلاف مللهم ونحلهم، قصد الفهم الصحيح للصيام والعمل به للتقريب بين الناس قصد التعاون على البر والتقوى كما جاء في قوله تعالى في سورة المائدة:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾