أستاذنا الكبير الدكتور عثمان سعدي، كما عرفته..
محمد مصطفى حابس : جينيف / سويسرا
التحق بالرفيق الأعلى قبل البارحة 29 نوفمبر ، شهر الشرارة الأولى للثورة المباركة، المجاهد والدبلوماسي والباحث الدكتور عثمان سعدي عن عمر يناهز الـ 92 سنة، والدكتور عثمان سعدي الأمازيغي كما يحب تلقيب نفسه من مؤسسي الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية ورئيسا لها منذ تأسيسها عام 1989، وهب حياته للأمة الجزائرية قلبا وقلبا، وعاش لثوابت الأمة على نهج شقيقي دربه العلامة المجاهد محمود بوزوزو [القبائلي البجائي] والسفير المجاهد إبراهيم مزهودي [الشاوي التبسي] وبتعبير أعم على نهج شيوخ جمعية العلماء الاجلاء يتقدمهم الثلاثي الذهبي الاصيل الشيخ عبد الحميد بن باديس [الصنهاجي] والشيخ البشير الابراهيمي [القبائلي] والشيخ العربي التبسي [الشاوي] وأعضادهم من رجال الخير في ربوع جزائرنا العميقة بكل مكوناتها. إذ تولى مباشرة بعد الاستقلال مهام دبلوماسية عديدة، حيث كان رئيس البعثة الدبلوماسية بالكويت بين سنة 1963 وسنة 1964، ثم قائما بالأعمال بالسفارة في القاهرة بين سنة 1968 وسنة 1971، وبعدها سفيرا في بغداد بين سنة 1971 وسنة 1974 وأخيرا سفيرا في دمشق بين سنة 1974 وسنة 1977، ثم برلماني فكاتبا جسورا مهتم بالثقافة والأدب، بحيث اصدر كتبا عديدة في فنون شتى منها التاريخ و الرواية و الشعر، أما المقالات في الصحف العربية والفرنسية و أحيانا الانكليزية فحدث عن البحر و لا حرج؟
من رجالات الجزائر الذين رفعوا رايتها في المحافل الدولية
وبالتالي تكون الجزائر قد فقدت، في الدكتور عثمان سعدي، ابنا من أبنائها القلائل الذين أخلصوا لها حد الثمالة وأفنوا طاقاتهم فيها حد النخاع ولم يكلوا ولم يملوا. لا ننسى ان الدكتور سعدي، يعد من زمان، رجلا عظيما من رجالات الجزائر، الذين رفعوا رايتها في المحافل الدولية بقلمه ولسانه ديبلوماسيا كسفير وكاتبا ومحاضرا، وبالتالي تكون الساحة الثقافية قد فجعت بانطفاء سراج وهاج من مصابيحها الوطنية الوضاءة في عتمة “الفرنكوش” الزاحف من الضفة الاخرى للمتوسط، على الاخضر واليابس من مغربنا العربي الإسلامي.
عرف الدكتور عثمان سعدي بالحق وعرف الحق به في الدفاع المستميت عن لغة الوحي الالاهي، لا يخشى في الله لومة لائم وهو الامازيغي الشاوي الاصيل، يقدم على العظائم مهما كانت نسب التضحية ولا يحجم حتى مع من “يدَّعون وصلاً بليلى … وليلى لا تقر لهم بذاكا.”
اللوبي الفرنسي أساس البلاء الذي لحق بنا منذ الاستقلال
الدكتور عثمان سعدي رجل ذو عزم وحزم حتى اخر رمق من حياته خاصة فيما يخص صراعه الحضاري حول ثوابت الامة الجزائرية الثلاث، وقيمها، بداء بسماحة الإسلام و ووحدة الوطن وعربيتهما، ضد اللوبي الفرنسي الذي يعتبره “أساس البلاء الذي لحق بنا منذ الاستقلال الذي سرقوه، من أجل خدمة المستعمر حتى وإن غادر التراب الوطني”- على حد تعبيره -رحمه الله-، وهو الذي واجه حملة شرسة من أذناب البربرييست المأجورة من وراء البحار، ففي شهر يونيو- حزيران 1996 رفعت ضده المحافظة السامية للأمازيغية التابعة لرئاسة الجمهورية، دعوى قضائية بسبب مقال نشره في أسبوعية الشروق الأسبوعي يوم 26/03/1996، تحت عنوان “هل تنجح الأكاديمية البربرية في فرنسا في ترويض الأوراس الأشم؟”، وربح القضية أمام العدالة الجزائرية، بعد أخذ ورد و سجال سياسي و إعلامي مرير، نفخت نيرانه أبواق “الفرنكوش” في الداخل و الخارج.
صلبا وشرسا في دفاعه عن أمانة لغة الأمة ورسالة الشهداء
ورغم تقدمه في السن و مرضه ومحنة ترمله منذ ما يقارب ربع قرن دون زوجة ثانية ترعاه، وبقي وفيا لزوجته الأولى و كتب عنها مرثيته المعروفة، رواية ” دمعة على أم البنين”، لازال الرجل صلبا وشرسا في دفاعه عن رسالة الشهداء و أمانة ارض الشهداء، بل و متعففا حتى ماديا، لأنه لما جاء لزيارتنا في سويسرا، اتصلت به الكاتبة لترسل له السائق لإحضاره لمقر عملنا قرب مبنى الأمم المتحدة، رفض بتواضع و قال لها ” لا حرج.. معي ابني نأتيكم بالباص أو الطاكسي”، ووفاء من بعض زملائه في السلك الديبلوماسي الجزائري الشحيحة، أستضافه السفير إدريس الجزائري، و حرص هذا الأخير أن أكون معهما، ودار نقاش مطول بيننا وبين الدكتور سعدي حول المؤامرات الغربية على الجزائر في العشرية السوداء و ضرب ثوابتها بدءا بعدم اعتماد قانون تعميم اللغة العربية، ثم أوقف السفير إدريس الجزائري – رحمه الله -حديثا بينا ذي شجون بلفتة ديبلوماسية متبسما، قائلا للدكتور سعدي، سرح لنا الأستاذ حابس يا سعادة السفير عثمان سعدي، فهو أيضا تنتظره أعمال جليلة لينهيها ظهر اليوم، ونحن نذهب لنتغدى سواء، بعده سيكون لكما مجال في التحدث حتى عن علاقتكم العائلية، لأني أعلم أنه بينكما علاقة مساهرة في مدينتكم تبسة”.
لكن الأمر بالنسبة لي غير هذا، لأن السفير إدريس الجزائري، تصرف بهذا التصرف اللبق، رفقا بالضيف الكريم، الذي كان مريضا بالسكري وأمور أخرى، لكنني رغم ذلك استمتعت بالحوار معه و استفدت منه كثيرا، بل ووجدته في كامل نباهته و قوة حجته و حفظه للتاريخ والأسماء و الألقاب والمناطق والمراجع .. فعلا كان قامة علمية كبيرة لم تستغلها الجزائر كما يجب، لأن العديد من دول المشرق خاصة العراق ومصر وسوريا، عرضت عليه أعمالا فكرية وتربوية جليلة في جامعاتها ومؤسساتها، لكن حبه للدفاع عن لغة الجزائر وشعب الجزائر، جعله يتملص من هذه المشاريع بحيل ديبلوماسية ضانا في قرارة نفسه أن هناك في المشرق طاقات كثيرة في مقدورها أن تخدم المشروع الحضاري الكبير للأمة، وهو في الجزائر يعد نفسه أحد هذه الروافد التي تصب كله في الخير العميم للإنسانية قاطبة، كالغيث أينما وقع نفع” …
وفاء وصفاء ونقاء في علاقاته مع الجميع
عموما ذلك ما لاحظته عليه وهو يصارع بقلمه ولسانه، ليس فقط من خلال وسائل الاعلام، بل معايشة، لما ساقته الاقدار أيضا في شهر سبتمبر من عام 2016، وجلسنا معه، في احدى زياراته لأوروبا، وأشتكى لي من الحصار الاعلامي عليه و على أفكاره و قلمه وجمعيته “الجمعية الوطنية للدفاع عن اللغة العربية”، التي تيمت بمرضه ومحاصرة نشاطاتها، ضف لذلك جرح ترمله الغائر الذي ما أحببت أن أثير شجونه بحضور ابنه، لكني آثرت تذكيره بنجاح ابنته الباهر علميا وعالميا في كبرى الجامعات الامريكية، كما ذكرني هو من جهته بفضائل ومناقب زميله وصهره عمي المجاهد الطبيب مصطفى حابس المعروف في شرق الجزائر، علما أن المصاهرة بين الزوجين لم تنتهي على ما يرام، لكنه أثنى كثيرا على عمي وعده من اول الأطباء الذين تفخر بهم ليس الجزائر وحدها بل العالم العربي و الاسلامي، إذ يعد عمي هذا أول الأطباء الذين تخرجوا بجدارة من جامعة جنيف السويسرية للعلوم الطبية في نهاية خمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي و فتح أول عيادة طبية في ولاية تبسة النائية يومها وزهد في فتح عيادته في العاصمة كما يحلو ذلك لمتخرجي جيله، بل فضل تلك المنطقة الفقيرة المهجورة وفاء منه لشهداء الأوراس بالجهة الجغرافية التي كانت تعرف بمحور قسنطينة-باتنة-تبسة، وكان يشتغل طبيبا مدة 18 ساعة في اليوم، يأتيه المرضى من جل ولايات الشرق الجزائري و لا يخرج من العيادة الا في حدود منتصف الليل في بعض الأيام، قائلا لي أن عمك مصطفى سجل في الجامعة السويسرية بجنسية مغربية وليس بجنسية جزائرية، لأنه لو عرف انه جزائري ألاصل، لن يرحمه أخطبوط فرنسا ليزيحه في أول سنة دراسية، كما أزاح و أزعج التبسي الاخر المفكر مالك بن نبي، بل قد يلفقون له التهم لدى السلطات السويسرية على أنه مقرب حتى من النازية الهتليرية، كما لفقت شرطة فرنسا لمالك بن نبي – رحمه الله- فسجن هو وزوجته الفرنسية، لما يزيد عن سنة في سجون فرنسا، على حد تعبيره رحمه الله. ثم تكلم بخير عن بنت عمي هذا وذكرني بنجاحها “المالي” الكبير ضمن “سيدات ربات الاعمال الكبريات في العام العربي.”
اللوبي الفرانكفوني سبب إنهاء مهام الرئيسين الشاذلي وزروال
الدكتور سعدي في زيارته الأخيرة في سويسرا، كان يبدو لي حينها ظاهريا متعب الجسم منهك، لكن فكريا وذهنيا كان شعلة متقدة، خاصة لما يجد أذانا صاغية مهتمة في الغرب بطروحاته ونضاله، مذكرا اياي بما نشره عن قناعته وأفكاره في أسباب المؤامرة على الجزائر ولغتها العربية، بقوله” أن سبب إنهاء مهام كل من الرئيسين السابقين الشاذلي بن جديد واليامين زروال تم على يد اللوبي الفرانكفوني، لأن الأخيرين وقعا على قانون تعميم استعمال اللغة العربية”. وأضاف أن الضغوط الفرانكفونية استمرت لتمنع تمرير قانون تعميم استعمال اللغة العربية في المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) بالجزائر منذ سنة 1990، جعلت الرئيس الشاذلي بن جديد لا يوقع عليه، لكنه قبل التحدي وقام بإصدار هذا القانون سنة 1991، وهو ما اعتبره عثمان سعدي أبرز الأسباب التي عجلت بقيام اللوبي الفرانكفوني بإقالته سنة 1992 .
واعتبر سعدي أن وصول بوضياف إلى رئاسة المجلس الأعلى للدولة عجل بإعداد مرسوم تشريعي في نفس السنة اي عام 1992 جمد بموجبه قانون تعميم استعمال اللغة العربية، مضيفا أن في عهد الرئيس اليامين زروال تم إلغاء تجميد القانون بمرسوم وقعه الأخير سنة 1996. وأسس المجلس الأعلى للغة العربية لتطبيق القانون، “فعاد اللوبي الفرانكفوني ليقرر بواسطة وزارة الدفاع، تنحية اليامين زروال لأنه مس بخط أحمر يتعلق بسطوة اللغة الفرنسية على الدولة” على حد تعبيره.
أسوء فترات اللغة العربية في الـعقدين الاخيرين
مضيفا “أن أسوء فترات اللغة العربية كانت في عهد عبد العزيز بوتفليقة الذي ما أن تسلم مقاليد الحكم بالجزائر حتى أصبح أسير اللوبي الفرنكفوني”، بحيث جُمِّد قانون تعميم استعمال اللغة العربية دون مرسوم، وحوّل المجلس الأعلى للغة العربية من هيئة تسهر على تطبيق قانون تعميم استعمال العربية إلى هيئة استشارية، وهو ما اعتبره قمة العبث بلغة الضاد في بلد المليون ونصف المليون شهيد، الذين ضحوا من أجل إسلام وعربية الجزائر.. لا ننسى أن جريدة الشرق الأوسط نقلت عن الدكتور عثمان السعدي مقولته الشائعة الصيت، والتي مفادها “لقد بدأ الرئيس بوتفليقة ولايته الرئاسية بالوئام الوطني، هل سيختمها بالتدمير الوطني؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام؟ بهذا التساؤل أزعج الدكتور سعدي بوتفليقة والتيار الاستئصالي المفرنس، وقد كتب هذا المقال في عهد الرئيس المخلوع بوتفليقة بتاريخ 9 ماي 2009، وبوتفليقة في كامل قواه وسلطته، لمن أراد التبحر في الموضوع وأسبابه. ”
أمام هذا المصاب الجلل، فإن أجيال اليوم والبارحة من تلاميذه وطلبته وإخوانه ليعزون أنفسهم والأمة الجزائرية، وأسرة الفقيد، ويعظمون لهم الأجر، يسألون الله له الرضوان، والعفو والغفران، ومقام الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ويدعون الله لأسرته بالصبر والسلوان، وأن يعظم لهم الأجر في رحيله عن الدنيا ليلقى ربه راضيا مرضيا {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، و {إنا لله وإنا اليه راجعون}.