منذ 22 فبراير 2019 وحتى قبل أيام قليلة، تستمرّ حملة الاعتقالات، تصطاد المعبرين عن رأيهم، وكافة أنصار التغيير الجذري السلمي. ولم يخلُ يومٌ إلا وسمعنا عن ملاحقات ومحاكمات ورقابة قضائية ضد عشرات الموطنين، رجالًا ونساءً، لم تستثن منهم حتى القُصّر، وعن انتزاع للاعترافات بالقوّة والإكراه، فضلًا عن مسلسل الشهادات المتلفزة لأشخاص موقوفين، في انتهاك صارخ لكافة القوانين والمواثيق والحقوق الأساسية للمعتقلين. امتدّت يد التعسّف والقمع خارج الوطن، لتطالب الدول بتسليمها مواطنين جزائريين، ناهيك عن اعتقال حراكيي الجالية من المطارات مباشرة عند دخولهم أرض الوطن ومنعهم من العودة إلى بلدانهم عند انتهاء إجازتهم، لا لشيء سوى نشاطهم السياسي في إطار الحراك وفضحهم فساد وتعسف العصابة الحاكمة عبر وسائل التواصل الاجتماعية، والتعريف بقضايا معتقلي الرأي. شملت حملات القمع: الاعتقال التعسفي لمئات المواطنين المسالمين، والتضييق على الجمعيات، وحلّ البعض منها، وسجن الصحفيين والمحامين والحقوقيين، والسياسيين، في محاولة مستمرة لكتم أنفاسهم، وثنيهم عن مواصلة الحراك الشعبي الذي انطلق يوم 22 فبراير 2019 وهزّ أركان العصابة كما لم تشهده من قبل. استمرّت مسيرات الحراك بشكل سلمي حضاري، طيلة 18 شهرًا قبل أن تتوّقف مسيراته في أعقاب جائحة كورنا، فاغتنمت السلطة الفرصة لإحكام قبضتها ومضاعفة ممارستها القمعية لإجهاض كل محاولات العودة إلى الشارع.
هذه الأحداث والمشاهد الأليمة ذكرتنا بحقبة العشرية الدامية وأعادتنا إلى ما كُنّا نعتقد أنه من ممارسات عهد ولّى بلا رجعة. انتشرت الأخبار عن المعتقلين، وحظيت بتغطية متواصلة، بفضل الإعلام البديل، المتمثّل في وسائل التواصل الاجتماعي، التي كسرت احتكار السلطة وفضحت تواطؤ الإعلام المرتبط بدهاليز السلطة ورشاويها، لكن رغم ذلك، ما زالت قضية المعتقلين تتعرّض من جهة للتضليل من طرف السلطة وتوابعها، ولنظرة قاصرة متجزئة، من جهة أخرى.
تكمن النظرة القاصرة في مقاربة مُبسّطة لمعاناة المئات من ضحايا التعسّف والاستبداد وأسرهم المكلومة، من قبل بعض الذين تضامنوا معهم ويطالبون بالإفراج عنهم. فهؤلاء يفعلون ذلك من زاوية إنسانية فحسب، دون ربط تلك المعاناة بالنضال السياسي لأصحابها من أجل قضية التغيير السلمي. وإن ما يؤكد البعد السياسي لعمليات الاعتقال، طبيعة التهم الموجهة إليهم من قبيل التجمع غير المسلح، والمساس بالوحدة الوطنية، ونشر أخبار كاذبة، والانضمام إلى “منظمات إرهابية” (تمّ حظرها وتصنيفها إرهابية، دون ارتكابهم أي عمل يدخل في تصنيف الإرهاب كما هو معرّف)، والتآمر على أمن الدولة.
إلى جانب الذين اختزلوا هذه المحنة، عن حسن نية في الغالب الأعظم، في معاناة إنسانية، وضرورة معالجتها بتدابير الرحمة وإصدار عفو بحقهم، فقد جنّدت السلطة القائمة ترسانة هائلة للتضليل وتشويه موضوع معتقلي الحراك، بدءًا من نفيها وجود مساجين سياسيين بالأساس، مثلما صرّح تبون مرارًا وتكرارًا بأنّ المعتقلين هم أشخاص انتهكوا القانون واعتدوا على الممتلكات، أي أنهم سجناء الحق العام يُطبَّق عليهم القانون، أو أن اعتقالهم تمّ بموجب مواد تتعلق بمكافحة الإرهاب. يضاف إلى ذلك أنّ القمع لم يمسّ المئات من المعتقلين فحسب (يوجد في المعدّل حوالي 300 معتقل في كل حين، لا يُطلق سراحهم أحدهم، حتى يحل محله آخر) بل يتعدى ذلك بكثير، كونه يشمل المئات الذين يخضعون للرقابة القضائية، في شكل سيف ابتزاز وتهديد مسلّط على رقابهم، لثنيهم عن أيّ نشاط سياسي قد يزجّ بهم في السجن، والمئات الآخرين، الذين فُرضت عليهم غرامات مالية تفوق قدراتهم المادية بالنظر إلى وضعهم الاجتماعي والمهني، ومنهم من مُنع من العودة إلى عمله بعد خروجه من السجن، ليُضرب به المَثَل ويكون عبرةً لغيره، بسبب مشاركته في الحراك.
تستعمل العصابة التوقيف والاعتقال والرقابة القضائية، والغرامات المالية، سلاحًا لتحقيق أغراض شتى، أوّلها معاقبة الحراكيين وخاصة الوجوه البارزة في الحراك، ذوي الثقل والثقة وسط الجماهير، والقادرين على تحريك الشارع لمواصلة مسيرات الحراك، تصطادهم بعد ترصدهم من خلال كاميرات عناصرها المندسّين. لم تعُد عمليات الاعتقال تتم كالعادة في الشارع أثناء المسيرات، بل أصبحت قوات القمع تداهم بيتوهم وتختطفهم من داخلها وأمام أفراد الأسرة، قبل أن تلقي بهم في السجن، ثم تسلّط عليهم أبشع ضروب سوء المعاملة وحتى التعذيب، فضلًا عن حرمانهم من حقوقهم الأساسية حتى كسجناء عاديين، ناهيك عن كونهم سجناء رأي، وحرمانهم من العلاج والزيارات وفرض العزلة عليهم، وتسليط أبشع السجانين لتعنيفهم والتضييق عليهم وازدرائهم، لمعاقبتهم على “جرأتهم” على السلطة وتمرّدهم على هيمنتها. ويُستعمل الاعتقال، أيضًا كسلاح لإنهاك أنصار التغيير الجذري وتبديد جهودهم وأوقاتهم في تسخيرها للإفراج عن المعتقلين، واستنفاذ كلّ مواردهم في سبيل ذلك، حتى لا يبقى لهم وقتٌ ولا جهدٌ ولا حتى فرصة التفكير في الهدف الأسمى الذي خرجوا من أجله واعتُقل بسببه العشرات منهم، وهو المطالبة بالتغيير.
لم يتوّقف هذا التعسف عند هذا الحدّ، بل تجاوزه إلى محاولات ابتزاز واستدراج المعتقلين، وإجبار البعض منهم على المشاركة في حلقات متلفزة دحدوحية، للإدلاء بشهادات كاذبة وتوريط وجوه المقاومة وتلطيخها، مقابل التخفيف عنهم، أو تشديد العقاب على كل من يرفض الرضوخ والمقايضة. هذه الممارسات المنتهكة لكافة القوانين، دفعت العديد من السجناء إلى الدخول في إضراب عن الطعام، تعبيرًا عن رفضهم لتلك الممارسات، دون أن تكثرت السلطة بهم، ممّا تسبب في أوضاع حرجة للبعض منهم، وحالات هلاك وشيك.
لم يقتصر العقاب على الحراكيين، بل شمل أسرَهم، من خلال حرمانهم من المُعيل، وتعريضهم لقسوة التنقّل حين زيارتهم للسجون، ناهيك عن سوء التعامل معهم، إمعانا في الانتقام منهم، ودفعا إياهم لتحميل المعتقل مسؤولية كلّ ما تتعرض له عائلته، حتى يُصبح المعتقل مثالًا يردع كلّ من يريد السير في دربه، وشمل العقاب والانتقام كل من تضامن مع الأسر ولو من باب إنساني يُمدّهم بالعون لسدّ رمق أبنائهم، فتمّت متابعتهم بتهمة دعم الإرهاب والتمويل الخارجي. هذا السلاح في التنكيل والانتقام، أجبر كثيرًا من الأسر على عدم التبليغ عن اعتقال ذويهم، معلّقين الأمل من جهة على وعود العصابة في التخفيف عنهم، ومن جهة أخرى، خشية تشديد العقوبات عليهم في حال تم الإعلان عنهم في وسائل التواصل الاجتماعي أو رفع قضاياهم إلى المنظمات التي تُعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان والمحامين. وهذا ما يفسّر انخفاض الأعداد المعروفة والمُعلنة كثيرا عن الأعداد الحقيقية التي يحدّدها المختصّون بهذا الملفّ بـ 11 ألف حالة توقيف منذ انطلاقة الحراك في 22 فبراير 2019، يقبع المئات منهم تحت الرقابة القضائية، بينما تُسجن المئات الأخرى.
لم يكن مفاجئًا “تأجيل” زيارة المقرّر الأممي المعني بحرية التجمّع السلمي وتكوين الجمعيات، بالنظر إلى ما تشهده الجزائر من اعتقالات وكتم للحريات وتعسّف على نطاق واسع. تؤكد ذلك تقارير منظمات حقوقية، داخل البلاد وخارجها. ورغم ذلك، دون حياء أو أدنى وخزة ضمير، يتجرّأ النظام العسكري المتنكّر لكلّ التزامات الجزائر في مجال حقوق الإنسان على الترشّح لعضوية مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة.
من الواضح أنّ الهدف من عرقة مثل هذه الزيارات، هو التستّر على الانتهاكات الجسيمة لحقّ التعبير عن الرأي والتجمّع، في تعارض مع التزامات الدولة الجزائرية والمواثيق التي صادقت عليها. ويكشف زيف مزاعمها، خاصة، تطبيقها صفة الإرهاب على كلّ معارض سياسي سلمي، وتجريمها النشاط السياسي المستقل، واعتقال المئات من المواطنين، بموجب المادة 87 مكرّر من قانون العقوبات الذي أقرّه مجلس الوزراء دون المرور بأي مناقشات عامة، علمًا أنّ هذه المادّة، تُجرّم كل نشاط سياسي أو تجمع سلمي أو الحق في التعبير على الرأي أو انتقاد السياسات العامة أو المسؤولين في مختلف أجهزة الدولة، أو حتى الدفاع عن معتقلي الرأي. في حين شدّد خبراء أمميون على عدم جواز تصنيف أيّ عمل على أنه “عمل إرهابي” إلّا إذا اجتمعت فيه ثلاثة عناصر أساسية: 1) أن تكون الوسائل المستعملة قاتلة؛ 2) أن تكون النية من العمل إثارة الذعر بين المواطنين؛ 3) أن يكون ذا هدف أيديولوجي، وكلّها صفات لا تنطبق ولا تتوّفر في عشرات الأسابيع من مسيرات الحراك، التي جرت في جوّ سلمي حضاري قلّ نظيره، لم يعتد فيها على الممتلكات العامة أو الخاصة.
أثبتت الأحداث، على مرّ أشهر كاملة، أنّ معتقلي الحراك مواطنون مارسوا حقّهم المشروع في التعبير عن رأيهم وطالبوا بالتغيير السلمي، ولم يخترقوا أيّ قانون، وأنّ اعتقالهم إجراءٌ تعسفي يخالف كافة القوانين والمواثيق المصادَق عليها من قِبل الدولة الجزائرية، والإفراج عنهم ليس منًّا ولا عفوًا، يستفيد منه مجرمون اقترفوا جرائم يعاقب عليها القانون، ولا مقايضة لهم، تفرض عليهم التنازل والتخلّي عن حقهم المشروع، بل واجبٌ وتصحيحٌ لخطإٍ جسيم وجبرٌ لظلمٍ تعرّضوا له هم وأُسَرُهم، وكلّ فرد من أفراد الشعب الجزائري، الذين علّقوا آمالا عليه، للخروج من أزمة غياب الشرعية التي تعيشها البلاد.
الوقوف إلى جانب معتقلي الرأي من الحراك أو غيرهم، والتضامن معهم بالكلمة والموقف والمساعدة في دفع تكاليف الدفاع عنهم وإعالة أُسَرهم، واجبٌ إنساني لا شك فيه، لكن، ليس ذلك فقط، بل هو واجبٌ وطني على عاتقنا جميعًا، لأنهم خرجوا للتعبير عن رأيهم ودفاعًا عن الوطن المنهوب والشعب المقهور، للتنديد بحكم فاسد فاشل، وضحّوا من أجل ذلك بحريتهم ومصيرهم ومصير أُسَرهم، وإذا تخلّينا عنهم وأدرنا ظهورنا لهم، ففي ذلك خيانة لهم وغدرٌ بهم وبما ضحّوا من أجله للوطن. لو وقف الشعب تضامنًا مع المظلومين قبل 30 سنة ورفض تعسّف وإجرام العصابات، لما شهدنا استمرار القمع إلى يومنا هذا وما بقي المئات معتقلين إلى يومنا هذا، والمختطفين مغيّبين حتى ساعتنا هذه. إنّ التخلي عن واجب الدفاع عن المظلوم يعزّز إجرام الجلّادين ويرسّخ تجبّرهم، ويمنحهم الثقة التي تدفعهم إلى تكرار جرائمهم في جوّ من الاطمئنان إلى الإفلات من العقاب. وإذا رضينا بذلك، فليعرف كلٌ منا أننا جميعًا مشروعُ اعتقال واختطاف وتعذيب وإذلال…آجلًا أو عاجلًا.
أرسل تعليقاً