تواترت الشهادات، الصوتية منها والمرئية، تقدم بها عدد كبير من مختلف أجهزة الأمن والمخابرات، من صف ضباط وضباط وحتى ضباط سامون، أدلوا فيها بشهاداتهم الحية، حول جرائم مهولة اقترفتها هذه الأجهزة، بشكل منهجي وعلى نطاق واسع، وبمعرفة وأوامر القيادات العليا في هذه الأجهزة. إلى جانب هذه الشهادات الشفوية، هناك شهادات أخرى، تم توثيقها في مؤلفات عدة، اشتهرت خارج الوطن، لكن مُنِع تداولها داخله، نذكر منها على سبيل المثال، شهادة الملازم حبيب سوايدية في كتابه “الحرب القذرة” (La Sale guerre) التي زعزعت أركان قيادات الجيش والمخابرات، وكشفت الحقيقة المفجعة لمن ادعوا حماية الوطن من البربرية وزعموا إنقاذ الجمهورية من غول الأصلية، وعزفوا على وتر “محاربة الإرهاب”، الذي تطنب له آذان الضفة الشمالية من البحر الأبيض المتوسط، وباعوهم أسطوانة ناعمة تظهرهم في صورة أبطال يخضون حربا مقدسة تدور رحاها بين جيش جمهوري حدثي، مدعوما من مجتمع مدني علماني مستنير، وأصولية قرسطوية دموية، تريد جر البلد إلى عصر متخلف ظلامي سحيق، وكانت دهاليز مصالح الحرب النفسية، قد فبركت هذه الصورة وروّجت لها داخليا وخاصة في الخارج، للحصول على دعم غربي أو على أقل، الظفر بصمت يسمح لهم بإتمام حرب الإبادة التي أطلقوها ضد فئات عريضة من الشعب، مثلما صرح بذلك أحدهم بكل عنجهية، عند قوله “لو اقتضى الأمر قتل 3 ملايين، لن نتردد”.
ظلت هذه الرواية سائدة بدون منازع، أو صوت يخالف الرواية الرسمية المفروضة قهرا، مع سيف العقاب مسلطا على كل من يغرد خارج السرب، حتى انطلقت الالسنة وذاب جليد الكذب المؤسس، لِينكشف حجم الدمار وجرائم هؤلاء القتلة، وبشاعة الحقيقة الدموية للذين وظفوا وسائل الدولة ومقدراتها لقتل كل رافض للانصياع لأوامرهم والخضوع لإرادتهم، فكانت تلك الشهادات، مفحمة وفاضحة إلى درجة أثارت هلعا وحالة استنفار واسعة وسط أباطر المافيا في السلطة.
ثم جاءت شهادة ثانية لا تقل خطورة، تضمنت معلومات وأخبار مذهلة، قدمها العقيد في المخابرات DRS، محمد سمراوي، في كتابه “وقائع سنين الدم” (Chronique des années de sang ) وثق فيها الأحداث بالأسماء والوقائع والتواريخ مع سرد خلفية كل حدث، بتفاصيل أربكت كل المسؤولين عن تلك الجرائم والدسائس، التي تخللتها حروب عصابات وعمليات تصفية بين الأقطاب، كل طرف منهم يبغي الحفاظ على السلطة والنفوذ ولو اقتضى الأمر الدفع نحو اقتتال لا يبقي ولا يذر، مثلما أوضحه سمراوي نفسه في كتابه، وأعرب عن خيبة أمله، عند اعتقاده أنه التحق بهذا الجهاز لإتمام مشروع من حرروا البلد من المستعمر، ليكمل بتحقيق رقيه وبنائه، وحماية الوطن ومصالحه، حتى وجد نفسه شريكا في حماية مصالح مجرمين اخذوا الدولة رهينة بين أيديهم.
لكن ما يُلاحِظه المرء، أن هذه الشهادة، رغم ما تحتويه من معلومات خطيرة وجسيمة، يستحق أصحابها، إن صحت، مثولهم أمام المحكمة الدولية لجرائم الحرب وضد الإنسانية، وكان يفترض منهم بداهة، وينتظر منهم، ومن حقهم قانونا، وهم كبار قادة الجيش والمخابرات، العمل على تبييض صفحاتهم وتبرئة ذمتهم، لتفنيد هذه التهم ومتابعة من يتهمهم بالقذف والتشهير، لكن الغريب أنهم لزموا صمتا مطبقا، ولم يفعلوا، لماذا يا ترى؟
قبل الجواب على السؤال “لماذا لم يفعلوا”، تجدر الإشارة ـ أن المعنيين فضلوا القيام بعمل آخر بدل ذلك، اعتقادا منهم أنه أسلم، ومن شأنه أن يخفف وطأة هذه الفاجعة، فوظفوا كل وسائل الدولة لمحاصرة الكتب هذه ومنعوا تداولها وتوزيعها وبيعها، وتنزيلها عبر الانترنت، ومعاقبة كل من يلقى بحوزته نسخة منها أو استند إليها في مقالات وحوارات أو نشرها كاملة أو جزء منها، أي بالمختصر، فضلوا مقص الرقابة وسيف القضاء المحلي الخاضع لأوامرهم، لكتم الأنفاس وحرمان الشعب الجزائري من الاطلاع على شهادات تدحض الرواية الرسمية، تماما كما دأبت السلطات المتعاقبة، عند كتابتها تاريخ الثورة وصناعة الأبطال وفبركة الأعداء والإرهابيين، من مصالي الجاج إلى شعباني الى بوضياف قبل استجلابه وتوظيفه قبل قتله، وايت احمد ومئات بل آلاف خصومها على مر عقود من الزمن.
في الحقيقة، رفض جنرالات الدم والمال، خيار المقاضاة، لم يقتصر فقط على كتابي سوايدية وسمراوي، بل شمل كل الشهادات الموّثقة التي فضحت جرائمهم بالدليل والأرقام والأسماء والتفاصيل والخرائط، على غرار الكتاب الأبيض حول التعذيب بالجزء الأول ولثاني والملحق، الذي مُنع تداوله في الجزائر وكذلك فرنسا بتنسيق قيادي المخابرات إسماعين العماري، والثنائي إيف بوني، وشارل باسكوا عن الجانب الفرنسي، وكذلك مجلد “تحقيق في المجازر في الجزائر” (Inquiry into the massacres )، و”همس الجزائر” ( L’Algérie en Murmure) ، في كل هذه الشهادات لم يتجرأ أباطرة السلطة على متابعة أصحاب الشهادات، إدراكا منهم خطورة تبعات مثل هذه المغامرات غير المحسومة، فآثروا بدل ذلك طرق ملتوية تجنبهم مخاطر لن يستطعوا الإفلات منها في حالة وقفوا أمام المحاكم، فعمدوا إلى توكيل قوافل من الأقلام العليفة في صحف “الإشهار” ANEP بقيادة المايسترو ‘العقيد فوزي’، ومرتزقة الأقلام والسياسة والثقافة، لتسويد صفحات أصحاب الشهادات والكتب والتشهير بهم واتهامهم بكل التهم القبيحة والافتراءات السمجة، دون أن تتحمل السلطة تبعات مثل هذه الحروب التي تعلم الثمن الباهظ الذي ستدفعه لو تبنتها هي بشكل رسمي، خاصة وأنها تعلم أن “في كرشها التبن” مما يجعلها تبتعد عن كل عود ثقاب قد يشعلها نارا.
نعود لتفاصيل سبب عدم رفعهم قضايا ضد سمراوي
– الشطر الأهم من الجواب على هذا السؤال، نجده عند نزار في القضية التي سبق له أن رفعها ضد صاحب الحرب القذرة، حبيب سوايدية، في باريس والتي لولا حماية أجهزة الامن الفرنسية وتنسيقها مع نظيرتها الجزائرية، والطائرة التي أوفدها بوتفليقة لانتشال نزار من يد لعدالة الفرسية، لكان نزار يقبع إلى يومنا هذا في احدى سجون باريس أو لاهاي، على الجرائم الموثقة التي اقترفها في حق الشعب، ومع ذلك، القضية مؤجلة فحسب، لأنه لا يزال متابع اليوم من قبل العدالة السويسرية بتهمة جرائم ضد الإنسانية، ولم يعد يجرؤ الخروج من الأراضي الجزائرية، مخافة من أن يلقى عليه القبض ويرمى في السجن. سابقة نزار أقتعت نظراءه بتجنب المغامرة مع العدالة في الخارج وعدم التفكير بتاتا في رفع قضايا ضد الشهادات التي قد تكلفهم الكثير.
– لم يرفع الجنرالات المتهمون قضايا تشهير وقذف أمام محاكم هذه الدول لأنهم لا يضمنون “قرارات” تلك المحاكم، التي ستنظر، عكس محاكم العصابة في الوقائع والشهود، ولن تخضع للإملاءات وهو ما يجعل الجنرالات يدركون خطورة مصيرهم وجسامة الأحكام التي ستصدرها هذه المحاكم بناء على الشهادات والمعطيات الموّثقة وليس على قرارات الدهاليز الجاهزة، ويعلمون أيضا أنهم لا يملكون إرادة تطويع القضاة وشرائهم، الأمر الذي لم يفلحوا فيه حتى في فرسنا في قضية نزار، رغم عمق “العلاقة” الحميمية بين أجهزة النظامين الأمنيين وقوة التنسيق بينهما؛
– يعلمون أن هذه المحاكم، ستكون مهرجانات ستسلط الأضواء عليهم وعلى سجلهم القاتم، وليس على الشهود عليهم، وتكشف بذلك جرائمهم أمام العالم بأدلة لن يستطيعوا نفيها، ومن ثم ستنسف عشرات السنين من التضليل والتدليس وكتم لأنفاس، وتفضح زيف روايتهم التي صيغت في دهاليزهم وروّج لها من قبل مرتزقتهم، في الداخل والخارج؛
– إذا كان هناك طرف واحد يعلم، علم اليقين أن ما جاء في تلك الشهادات أمور صحيحة لا يرقى إليها الشك، فهذا الطرف، هم بالتأكيد المتهمون أنفسهم، في تلك الجرائم، ويعلمون أدق تفاصيلها. ومن ثم، هم ليسوا من الحماقة ولا انتحاريين، بحيث يُعَرضون أنفسهم طواعية للمشنقة القضائية ويسهمون بأنفسهم في رفع اللثام عما تستروا طيلة عليه أكثر من 30 سنة.
وهذه الحقيقية، كان قد أوضحها سمراوي نفسه في مقدمة كتابه ” بما أن منتقدي في السلطة بإمكانهم فبركة الأدلة ضدي وجلب الشهود، اخترتُ أنا ذِكر فقط أسماء المتورطين في الأحداث الدرامية التي أشير إليها في شهادتي، مع علمي اليقين أنهم إذا حدثتهم أنفسهم بالمغامرة في متابعتي قضايا بتهمة التشهير والقذف، أمام المحاكم الفرنسية، سوف يكون بوسعي مواجهتهم بأدلة سيعجز محاموهم دحضها”.
ختاما، سبب عدم مغامرتهم في المقاضاة واضح، والمصير وخيم. من المؤكد أنهم لم ولن يرفعوا قضايا تشهير وقذف بحق سمراوي، أو غيره، لأنهم يدركون، أن محاكمة من هذا القبيل هي محاكمة لهم وإدانة لهم ونهاية لهم، والجواب المقنع المفحم تجدونه عند نزار في قضية سوايدية.