عطفًا على المقال الذي تمّ نشره يوم 18 ماي الفارط على نفس المنصّة من طرف السيد الفاضل محمد مصطفى حابس، بشأن تفنيد ما ورد في حقّ جمعية العلماء المسلين من أنّها تخلّفت عن ركب الثورة في بدايتها. والذي ذكر فيه أنّ جهود رجالات الجمعية كانت منصبّة من أجل الدفاع عن الشخصية الجزائرية وتثبيتها، وإصلاح ما أفسده المحتل من مقوّماتها، ونشر الوعي وبثّ الفكر التحرري بين أفرادها. وذكّرنا الكاتب بأحد أفذاذها من فرسان القلم والفكر معا ممّن نفخر بهم ونتشرّف بذكر أسمائهم الشيخ والعلّامة محمود بوزوزو وجهوده من أجل توحيد الجزائريين والعمل على تجاوز الخلافات بينهم لتحقيق الهدف الأسمى وهو التحرّر من الاحتلال. لذلك.. إنصافًا للحق بشأن هذه اللّبنة الأساسية في صرح الحركة الوطنية التي لا يُنكر مُقسط فضلها وجهودها في سبيل استقلال الجزائر، وددنا المساهمة في رفع هذا اللبس وبعده إحراز العبرة من مُجريات الأمس.
إنه ممّا لا يخفى على كلّ من لديه القليل من المعرفة بتاريخ الجزائر الحديث أنّ بداية القرن الماضي كانت من أحلك الفترات التي مرّت بها. إذ فشلت الثورات الشعبية المتفرّقة من حيث الأزمنة والأمكنة، واستتبّ للاحتلال حينها بثّ جذوره وركّز أساسا على محو ملامح الشخصية الجزائرية سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا. فقيّض اللّه لهذه الأرض الجريحة وأهاليها الكسيرة أحد أبنائها البررة، شيخنا وإمامنا عبد الحميد بن باديس. الذي، بعد إنهاء دراسته بالزيتونة وعودته من رحلته إلى أرض الحجاز أين تعرّف على البشير الإبراهيمي وتدارسا أحوال البلاد والعباد، أخذ على عاتقه القيام بالنهضة التعليمية في مدينته قسنطينة أوّل الأمر. لكنّه لم يكتف بذلك فقرّر إضافة جهود إلى جهوده وإنشاء تنظيم ينقذ من خلاله شعبه من هلاك محتّم. فدعا الطلبة العائدين من المشرق العربي أقصاه وأدناه، وسنة 1928 كُتب له الاجتماع بثُلّة منهم أين قام بعرض مُلخّص لما آلت إليه البلاد والشعب وسياسة فرنسا وقوانينها الجائرة. وورد في جزء من خطابه لهم: «وأنا أقول لكم هذا اليوم: لم يبق لنا إلا أحد أمرين لا ثالث لهما، إمّا الموت والشهادة في سبيل اللّه وانتظار النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين؟ أو الاستسلام ومدّ أيدينا إلى الأغلال وإحناء رؤوسنا أمام الأعداء فتكون النتيجة، لا قدّر الله، أن يجري علينا ما جرى في بلاد الأندلس وبعض البلاد الإسلامية حين تركت الجهاد واستسلمت للأعداء». وما هذا إلّا دليل واضح على إيمان الرجل الذي انتُخب بعد ذلك رئيسًا لجمعية العلماء سنة 1931 بمبدأ النضال، ولنَقُل المُسلّح، من أجل إنقاذ هذا الوطن من يد المحتلّ الغاشم.
لكن تحليل ابن باديس ومن معه لراهن الأمور حينها.. موقع القوة الذي استحوذ العدو عليه وموقع الضعف الذي تبقّى لشعبه وحالة الجهل والبؤس التي كان غارقًا فيها، قاده وإيّاهم إلى التركيز على التعليم ونشر الوعي والعمل الإصلاحي ذي الطابع الديني أوّلا. وقد ورد عنه أنه قال: «تستطيع الظروف أن تُكيّفنا، ولكنها لا تستطيع أبدًا أن تُذيبنا أو تمحونا.. كائنًا ما كانت هذه الظروف لينًا وعُنفًا، نُبلًا وسخفًا! سنتكيّف إذًا إلى حينٍ، ولكننا سنصنع منها جسرًا معلّقًا نعبر عليه إلى المهمّ والأهمّ..». هنا، من خلال هذا التصريح، لا يختلف اثنان على أنّ المكسب الأهم بالنسبة له هو سياسي أساسًا ويتمثّل في استقلال الجزائر. لكن حنكة العلماء وإدراكهم لموازين القوة وتحليلهم لسابق الأحداث ورؤيتهم الاستشرافية لقادمها، دعاهم إلى عدم اتخاذ طابع الثورية في ذلك الوقت والتّصريح أنّ جمعيّتهم لن تتدخّل في الشؤون السياسية. إنّما وصفوها بأنّها منظمة إرشادية أخلاقية لتكون بذلك جسرهم المعلّق للعبور عليه إلى ضفة الحرية، فعملوا من خلال جمعيتهم على توعية الشعب وإصلاح حاله الثقافي والأخلاقي والديني. حتّى أنهم طالبوا السلطات الفرنسية بتطبيق قانون فصل الدين عن الدولة الذي طُبّق في فرنسا سنة 1905 ولم يُطبّق في الجزائر على المسلمين، وكان ذلك تقديرًا منهم للمصلحة ومُرونتهم وإدراكهم أنّ هذا القانون يسمح لهم بالتمتّع بالحرية أكثر وإفلات شؤون المسلمين الدينية من قبضة الاستعمار. وإلى من عاب هذا الأمر على الجمعية حينذاك من أبناء يومنا هذا، نقول بما قال أحد رجالاتها المؤسّسين الطيّب العقبي في واقعة مُرتبطة بفصل الخطاب بين خلافات الأجيال
كُلٌّ أصاب إذا نظرت لحاله * والله أنفذ فيكما ما شاء
أمّا فيما يخصّ نشاط الجمعية إبّان الثورة، صحيح أنّها أعلنت رسميًا انضمامها إلى العمل الثوري سنة 1956، لكن رجالاتها كانوا ممّن كانت لهم الأسبقية في النضال. هنا نبدأ بذكر أعضائها والأساتذة الذين كانوا يحرّضون الطلبة على خوض غمار الجهاد السياسي والعسكري. فمِن أعلامها من بدأ بنفسه بالعمل مع الجبهة والتنسيق مع قادتها كمحمد خير الدين، وأحمد بوشمال الذي وضع مطبعة الجمعية في خدمة الثورة غداة الإعلان عنها والمساهمة في نشر النداءات وإعداد كل ما له علاقة بالطابع الإداري لجبهة وجيش التحرير الوطنيين. والعربي التبسي الذي صرّح قائلًا: «لو كنت في صحتي وشبابي، ما زدت يومًا واحدًا في المدينة ولأسرعتُ إلى الجبل فأحمل السلاح وأُقاتل مع المجاهدين»، وهو الذي تمّ اختطافه وتعذيبه ثم قتله حرقًا في الزيت المغلي! لأنّه استمر في تحريض الثوار بدل تهدئتهم ورفض التفاوض مع المستعمر حتى لا يكسر صفوف المناضلين والمجاهدين. ولا ننسى ذكر عبد الرحمن شيبان الذي التحق بالثورة أيضًا وعمل في مجال الإعلام وشارك في تحرير عدة جرائد تصف التطورات في الصفوف الثورية؛ مع الإشارة إلى فضله الكبير بعد الثورة أيضًا على نوعية التعليم لجيل ما بعد الاستقلال، هذا القطاع الذي بدأ في التدهور بعد اختفاء اسم شيخنا الفاضل من قائمة المشرفين على الكتب المدرسية بعد ذلك(!). وغير هؤلاء الأفاضل الكثيرين ممن ذكرت أسماؤهم ولكنها لم تنل حظها الوافر من التعريف بها كالشيخين محمد الغسيري وعمر دردور مثلا وممن قلّ أو انعدم ذكر أسمائهم كالشيخ بوزيد قارش الذي كان من خرّيجي الزيتونة وعيّنته الجمعية مدرّسًا ومشرفًا على المدرسة في مدينة تازولت. هذه المدينة المعروفة بسجنها التليد الذي يعود تاريخه إلى أيام الرومان وحاميتهم لتخلِفهم فرنسا وتبني جدرانه وأسواره الحالية ويحتفظ به ورثتها ليستمرّ في حبسه للأحرار الثوار إلى اليوم! وهذا المناضل الأخير، يعني بوزيد قارش، انضم للمنظمة المدنية لجبهة التحرير الوطني غداة الثورة وكان عضوًا نشيطًا فيها مُستغلًا مدرسته التي جعلها معبرًا للثّوار ومخزنًا للإمدادات التي كان يتبرّع بها الشعب إلى أن وُشي به وسُجن وعُذب، ليبقي تحت الإقامة الجبرية بعد إطلاق سراحه إلى غاية الاستقلال. أمّا فيما يخص أحد أعضاء الجمعية المؤسّسين محمد السعيد الزاهري الذي كان حاضرًا في اجتماع 1928 الآنف الذّكر، فقد تمّ اغتياله سنة 1956 وذلك لانضمامه إلى جماعة مصالي الحاج؛ ليكون أحد ضحايا تلك الخلافات في الحركة الوطنية والتي ستبقى نقاطًا سوداء في سجلّها لا تُمحى بمرور الزمن. ولمنطق الاغتيالات هذا(!) أن يوحي لنا أنّه لو لم يكن أعضاء الجمعية مناصرين للثورة حقًا منذ بدايتها وتخلّفوا عن ركبها لنال معظمهم منها ما نالهم!؟
ونحن نستعيد بعضًا من ذكريات أجدادنا الذين طوت اللحود أجسادهم وبقيت ألسنتنا عطرة بتلاوة ذكرهم، رحمهم الله جميعهم، وجب علينا أن نكون مُقسطين إزاءهم ولا نبخسهم حقوقهم ربّما بسبب عدم دراية بالحقيقة المنصفة لهم، أو تعصّب وعدم توافق أيديولوجي أو فكري معهم هنا أو هناك. ووجب علينا كذلك أن نكون لهم شاكرين ممتنّين على جهودهم وتضحياتهم في سبيل هذه الأمة. والأمر هنا لا ينطبق فقط على أعضاء الجمعية، وإنّما يتعدّاهم إلى كلّ من حمل همّ هذا الوطن على عاتقه وعمل ما في وسعه من أجل إنقاذه والقيام به بين الأُمم. إلّا أنّه مِمّا يصعب على النفس المنصفة تقبّله أحيانًا هو المرور ببعض المنعطفات التي كانت محطات خلافات لأسلافنا، فنتعجّب ونتساءل ونحن في موقع راحتنا وسكينتنا ونقول كيف لهذا وكيف لذاك؟! وما كان حريًا بهذا وما كان حريًا بذاك! لكن.. لو قُدّر لهم جميعًا العودة إلى الحياة اليوم وهم الذين استقرّوا في دار الحق وأدركوا جوهر الوجود وحقيقة الأشياء من سفاهة إغراءات النفس وخطأ الخلط بين القضية والأمور الشخصية، لأجمعوا كلّهم وبدون استثناء على أنّ الأساس لأيّ عمل نضالي هو الصدق والاخلاص بإعلاء المبدأ وإنكار الذات، ولهمسوا لنا بجملة من النصائح والتعليمات.
أولى هذه الهمسات أنّ تاريخهم لم يوجد لنا للتسلية بقصصهم ولا للتعصّب لفلانٍ أو لذمّ وطعن علّانٍ، إنّما وُجد ليكون لنا دليلًا في حاضرنا.. ينير لنا طريقنا بمصابيح إحسانهم وتوفيقهم، ويُنبّهنا للمنعرجات أين صعب عليهم التحكّم في مركبهم. ثانيها، أن نتعلّم منهم روح المبادرة لإحداث التغيير؛ وأنّ تغيير الواقع ومجابهة الظلم والاستبداد لا يكون إلّا بالاتحاد والعمل الجماعي ونبذ الفرقة والشقاق والقدرة على تجاوز الخلافات. ثالثها، سيقولون لنا اكتبوا تاريخكم اﻵن بأنفسكم ولا تتركوا غيركم يكتبه غدًا، فتُوثّقوا ظلم الظالمين ليبقى شاهدًا عليهم وعبرةً لمن توسوس له نفسه من بعدهم، وتوفوا العاملين المخلصين حقّهم، وتحيّدوا المندسّين وتغلقوا باب التحريف على المزيّفين؛ بذلك تعطوا الأمانة لمن يأتي بعدكم مطمئنين، وتنيروا لهم الطريق بدوركم مُرشدين، فتكفوهم همّ الحيرة في تضارب أقوال الراوين عنكم، وشرّ الدخول في الصراعات بسبب نقص نباهةٍ منكم.
أمّا بخصوص آخر همسة، فلنا في الحرب الضروس التي دارت رحاها على أديم الصحف الوطنية ومنها جريدة الشعب في أمد غير بعيد حول بعض الأقوال التي وردت في كتاب حياة كفاح لأحمد توفيق المدني ومحمد الطاهر فضلاء الذي اعترض عليها خير مثال. والتي كان موضوعها الأساسي بعض حيثيات تأسيس جمعية العلماء. فتمخّض هذا الصراع عن كتابين أوّلهما التحريف والتزييف في كتاب حياة كفاح وثانيهما ردّ أديب على حملة أكاذيب. ولكن الحق يقال هنا، حتى وإن وصل الصراع أوجّه إلى حد التكذيب والمساس بالمصداقية بين الطرفين، وهما العَلَمَان من أعلام الجزائر لكل منهما فضله الذي لا يُنكر، لكن المستوى الذي دار به الخلاف بينهما يبقى أبعد بكثير مما نراه اليوم ونشاهده بين بعض المناضلين في خِضم ثروة السّلم لتحرير الانسان(!) ربّما بسبب نسيانهم لأخلاقيات الثورة والنضال فوجب عليهم تذكّرها أو لجهلهم بها فوجب عليهم تعلّمها!؟ لأنّهم بوتيرتهم هذه وشخصنتهم للأمور قد أساؤوا لأنفسهم وقبل ذلك أساؤوا لثورتهم وقضيّتهم أكثر ممّا خدموها. فنرجو منهم استدراك هذا الأمر الجلل عاجلًا غير آجل! والتأسي بأجدادنا وأخلاقيات نضالهم والاستفادة من تجاربهم والعمل بنصائحهم الآنفة الذكر من صدق وإخلاص وحكمة ووحدة…
وعلى ذكر حاضرنا الذي ليس لنا منه مفرّ، نجد النفس مُثقلة والقلب موجوعًا والعين دامعة والبال مشغولًا جرّاء ما تُعانيه الحبيبة اليوم، التي اشتد الظلم فيها إذ الشعب قد انتفض، ضدّ ضيم قد تفشّى وبؤس قد رزأ… ليأتينا همس خفي آخر من أحد الأجداد، الذي كان يومًا ما الفتى شاعر الجمعية والجزائر الفتية، محمد العيد آل خليفة، الذي عاش معها أحلك مراحل الاستدمار ونقل بمرهف إحساسه وجزالة لفظه وسحر بيانه صميم مأساة شعبه وصراع يأسه وأمله ليُرجّـح الكفة للأمل، حين لم يبق له ولشعبه من خيار غير الأمل!.. ويقول على غرار أبي فراس وحمامته، في مناجاة له مع طائر كان قد زاره في حبسه أثناء الثورة التّحريرية
ودع عنك التّشاؤم وهو وهم * وهمّ ليس يجمل بالبصيـر
فليس لأمة بالحق ثـــــــــــــــــــــــارت * مصير غير تقرير المصيـــــــر!
8 جوان 2022
تعليق واحد
عملت فرنسا المحتلة كثيرا على تفعيل سياسة “فرق تسد ” ، و فعلا فقد حققت الكثير ! و إلا كيف نفسر الغثائية التي طبعت جموع الجزائريين لأجيال ، و انتقال فيروس تلك السياسة ( الوباء) الذي مزق شمل الأسرة و الدشرة و الدوار ، و المدرسة و الجامع و الجامعة . و لم تفلح جهود بعض الطيبين ، أمثال مولود قاسم ، عبد الحميد مهري ، علي بن محمد ، أحمد سحنون ، يخلف شرطي ، و غيرهم كثير ! ببساطة لأن الموجه الحاضر في كل يوم ، و كل فصل ، و كل سنة ، هي فكرة الهدم بدل البناء ، بالرغم من أن الوصية التي ظل يوصي بها شيخنا الفضيل الورتلاني هي : (لا هدم إلا إذا كان ضرورة من ضرورات البناء ) . و العكس حدث خلال السنوات الأخيرة من ثورة التحرير ، و بعد الاستقلال ، قبل التعددية الحزبية ، و بعدها !الجميع في سباق من أجل الهدم ، فجاءت النتائج من جنس المقدمات ، و المحصلة : لم يعد الجزائري يثق في كل ما هو جزائري ( الحركة الوطنية ، الثورات المتعاقبة ، ثورة التحرير ، الاستقلال ، …) ! و رغم كل هذا فقد لاحت في أفق الجزائر ما يشبه الميلاد أو الولادة ، ميلاد شعب أو ولادة شعب ، فيما يعني عودة شعب الجزائر إلى وعيه من جديد ، و أمارة هذه العودة هو ذلك العنوان العريض ، اسم على مسمى :” الحراك السلمي ” يشبه إلى حد بعيد ميلاد نبي أو رسول ، خبر سار أو رسالة تتضمن همس الأجداد و و عي الشباب من أجل كسر شوكة الاستبداد و التحرر إلى غير رجعة من شباك سياسة المكر و الاغتصاب ، طمعا في تكاتف الجهود من أجل البناء الذي لا يعترف للهدم بمكان ، إلا إذا كان الهدم هو هدم الفرقة و المكر و الخداع .