من دون سياق لا معنى للكلام، مهما بلغ من بلاغة، ومهما بلغ عدد الأوراق التي يكتبها (المثقفون)، والخطب التي يكررها الأئمة الموظفون، والندوات الصحفية التي يعقدها السياسيون، والأرقام التي يعرضها (الخبراء) الاقتصاديون!
السياق هو العمل، والمنهج هو المنهج الذي بنى على أساسه مالك بن نبي رحمه الله معادلته الشهيرة: إنسان + تراب + زمن = حضارة
وبين المجتمع المتحضر، والجماعة المترفة، مسافات ومسافات!
الجواب ينبثق من مقدمة، مفادها: ما قيمة الأعمال أو الأنشطة التي نزاولها في كل يوم، وفي كل ساعة؟ والمقدمة هذه تحتاج إلى فرضية، مفادها: هل نحن منتجون؟
كان الفلاح الجزائري، والتونسي، والمغربي، على سبيل المثال، يعمل فينتج ما يحتاجه من غذاء، يفلح الأرض مستخدما أدوات بسيطة فيحقق الاكتفاء، ينتج الحبوب ذات الجودة العالية، والحليب، والبيض، واللحوم بمختلف أنواعها، حتى وإن كان الاكتفاء لا يغطي كل أيام السنة، لكنه يعيش بعيدا عن أي مظهر من مظاهر الترف، قوي البنية، مفتول العضلات، له من المناعة الكثير، يشقى ويجد من أجل كسب المعاش. وكانت الصناعة، جل ما فيها يستجيب لحاجات الفلاحة، فأول ما يفكر فيه الإنسان بعد عمليات الجني والحصاد هو البذور التي تحتاجه الأرض، والكلأ الذي تحتاجه الأنعام، والمعاش بعد ذلك في دورة غاية في الانسجام بين كل مقوماتها، استطاع الشعب بقدراته الذاتية المتواضعة أن يساهم في تموين ثورة بمكانة ثورة التحرير المجيدة، في زمن لم تكن تأتينا أي مساعدات إنسانية من الخارج، ولم يكن يومها الجزائري، مثلا، يسأل عن فقدان الزيت أو الحليب أو الدقيق من السوق، ولم يكن ينتظر من السلطة لتتدخل من أجل ضبط سعر الخبز أو الحليب أو ما شابه ذلك، كل ذلك ساهم في التحام الشعب بثورته التي عجزت فرنسا المحتلة عن إخضاعه.
هذا هو السياق التاريخي الذي ينبغي أن نبني عليه من أجل الإجابة عن قيمة العمل وكل نشاط تحت أي عنوان، سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، ومن ثمة الجواب على السؤال المحوري: هل نحن مترفون؟
ببساطة، لم يعد الفلاح ينتج، بل يمكن القول إننا أصبحنا نفتقد إلى الإنسان الفلاح، والإنسان الصانع الذي يستجيب لكل عمل منتج، فما بالك بالتجارة التي لا علاقة لها بالعمل المنتج، كل ما هنالك هو تداول للسلع المستوردة، وفي مقدمتها القمح والحليب من فرنسا! كل ذلك يستنزف مداخيلنا من العملة الصعبة دون فائدة! والقوم، بالرغم من امتلاك السيارات الفاخرة، والفيلات المتراصة، والشهادات المتراكمة، هم في حالة متقدمة من الترف، الشاهد على ذلك عجز تام عن الاطمئنان على المعاش، والمعاش هو عمل منتج! والحقيقة أن هذا النوع من الترف لم نشهد له مثيلا!
أرسل تعليقاً