المجد هو مقام نُبل وشرف يُحرزه كلّ صاحب مروءة وعزّة وشهامة. إذ لا يتمّ تحصيله إلّا بالبذل للمال كرمًا أو للعلم نفعًا أو للنفس نُصرة للحق ودرءًا للظلم. أمّا التمجُّد فهو على وزن التفعُّل، بمعنى التكلّف في اصطناع الشيء. والتكلّف في اصطناع الشيء بذاته لا يعني بالضرورة أنّه مذموم. ففي العلم مثلًا لطالما كان التعلُّم محمودًا بل ومطلوبًا، وكذلك الحِلم إذ يقول الحديث الشريف: إنّما العِلم بالتعلُّم و إنّما الحِلم بالتحلُّم. أمّا في باب المجد فالأمر غير ذلك تمامًا، إذ ليس المجد بالتمجُّد، لأنّ التمجّد مُحاولة لنيل مقام النُّبل والشرف مع افتقار النفس للمروءة والعزّة والشهامة.
لذلك في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبيّ، وهو الغني عن التعريف وكتابه، أورد المُفكّر فصلًا تحدّث فيه عن الاستبداد والمجد. بيّن من خلاله مُغالبة و إفساد الأوّل للثاني، و إبداله بعد ذلك بالتمجُّد؛ الذي عرّفه الكواكبي على أنّه جذوة من نار جهنّم كبرياء المُستبد، ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية. ووصفه بالسيف الذي يتقلّده كلّ من سوّلت له نفسه من قبل الجبّار، ليُبرهن به على أنّه الجلّاد في دولة الاستبداد. ولم ينس ذكر المُخادعين الذين يحترفون الكذب لتغليط أفكار الناس وتضليلها. وخلُص إلى أنّ المُستبد هو العاجز الذي لا حول ولا قوة له إلّا بالمُتمجّدين. ليكون التمجّد بذلك تفسيرًا شرقيًا لظاهرة نعرفها جيّدًا ولسنا نخطِئها، نعيشها بكثرة في أنظمة الاستبداد التي هي إكسير حياتها، عرّفها الغرب على أنّها تفاهة الشر.
في هذه الأيّام ونحن نعيش إحياء الذكرى الثالثة لميلاد ثورة السلم والشرف، وجب علينا ذكر أهل المجد وأصحاب الفضل ممّن بذلوا مالهم وعِلمهم وأنفُسهم لنُصرة الحق. منهم من هم في غياهب السجون مُعتقلون، بأقسى وأقصى درجات القمع والتعذيب يُعاملون، ومن أجل الحرية والكرامة عن الطعام هم مُضربون؛ ومنهم من هم في الشوارع والأزقّة مُطاردون، في كل لحظة بالاعتقال مهدّدون، أو داخل بيوتهم تحت الإقامة الجبرية محاصرون، وعن كسب أرزاقهم ممنوعون؛ ومنهم من هم في الفلاة منفيّون، من حضن الوطن والأهل والأحباب محرومون. لكل هؤلاء وغيرهم في الخفاء نُقدّم جزيل الشكر والثناء وخالص الامتنان والعرفان وعميق التقدير والإجلال، وندعو لهم بدوام رباطة الجأش والثبات حتّى إحراز الظفَر والانتصار!
ولتبقى أواصر العرفان خالصة لمن أخلصوا النية وصدقوا النضال، وجب علينا استثناء من هم في السر عكس العلن، ممّن ينسبون أنفسهم للأمجاد، ولكنّهم في حقيقة الأمر من المتمجّدين، سابقي الذكر. لأنّهم في الباطن بيادق رقعة الشر يتناوبون بتناوب الدور، و في الظاهر يركبون مركب الثوار يمزجون الصدق بالبهتان ويدّعون البطولة والإقدام. وإن سأل سائل كيف للواحد منّا أن يميز الخبيث من الطّيب؟! نقول: ببساطة.. المتمجّد في النضال هو الذي يقوم بإسقاط القناع عن القناع وليس غيره، إذ تجد في كلامه غالبًا نبرة عُجب واستعلاء، ويرى نفسه أكبر من الأمجاد ولا نراه معهم في الميدان. ويُكثر من ذكر الأنا ومدح الذات، وبتكراره هذا لا نعلم أيّهما يُحاول إقناعه أوّلًا، نفسه أم غيره!؟
من جهة أخرى، في هذه الذكرى المباركة لنا فرصة لتجديد العهد مع النضال وتذكير النفس بالأسباب الحقيقية لاختيار مسار الثورة السلمية والأهداف المرجوّة منها. فبالإضافة إلى مجابهة الظلم والاستبداد بطرق تبدو غريبة على من احترفوا الإجرام، يبقى تحرير الإنسان ذاته وبناؤه والرفعة به أهمّ مقصد بعد أن عملت آلة الشر كلّ ما بوسعها من أجل تحطيمه ودحره ومحوه. فالإنسان لا يكون إنسانًا إلّا إذا كان صاحب أخلاق وقِيَم. وسلاح المناضل في ثورة السلم والشرف هذه هو كذلك، وقبل كلّ شيء، الأخلاق والقِيَم.
تجدر الإشارة إلى أنّه من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف في الرؤى ووجهات النظر حول بعض النقاط بين أهل النضال، بل العقلاء يرون في هذا الاختلاف إثراءً لنضالهم وإغناءً له. لكن.. ما ليس بالطبيعي هو التعامل مع هذه الاختلافات خارج إطار الأخلاق والقِيَم! التي هي ثابتة مهما اختلفت المرجعيات والأيديولوجيات، والفرقة بعد ذلك بدل توحيد القوى وتصويبها من أجل الظفر بالهدف المنشود ألا وهو النّصر. بالإضافة لذلك، صحيح أنّ عدوّنا المشترك، عدوّ الحياة، له من النذالة والمهانة والإجرام وغياب الشرف الشيء الكثير. لكن استعمال خوارم المروءةِ والأخلاقِ والشرفِ كالألفاظ البذيئة والأوصاف المخلّة بالحياء مثلًا لمواجهته أو مواجهة أعوانه ليس له أن يجلب النصر، وإنّما يسقط بالمناضلين ويُضعفهم وله أن يحيد بهم عن الهدف الأسمى. فمثل هذه التصرّفات تُنفّر الأخيار من اللّحاق بركب الثوار من جهة، ولها أن تُعزّز العداء لدى أعوان العدو من جهة أخرى، الذين يعلم الجميع أنّه لا قوة له إلّا بهم لضرب الحق وأصحابه، وهو ذاك ما يريده العدو الحقيقي للزيادة في عمر طغيانه وجبروته. فبدل تحييد هؤلاء الأعوان بالأخصِّ وحتى كسب صفوفهم، يتمّ تأجيج شدّة الكره والحقد والغضب داخلهم مما يزيد من شراستهم في مواجهة أنصار الحق.
كما يجب علينا أن لا ننسى أنّ نيل مقام المجد في النضال ونصرة الحقّ لا يكون إلّا بالتواضع والتفكير في الصالح العام للثورة قبل الخاص. بحيث أنّه كلّما زاد حجم الأنا لدى المناضل في الثورة، كان أقرب للتمجّد منه إلى المجد، وهما اللذان لا اتفاق ولا تقاطع ولا وساطة بينهما. الأمر الذي لا يتوقّف أثره السلبي عند المناضل وحده، إنّما يتعدّاه إلى انعكاس سلبي أكبر حجمًا وأكثر ضررًا وأعمق أثرًا على الثورة وكذلك ما بعد الثورة. ولنا في ثورة التحرير المجيدة رغم كل البطولات فيها والتضحيات أمثلة لا نزال ندفع ثمنها إلى اليوم، التي استلزمت قيام ثورة أخرى لتصحيح الأخطاء التي بدت حينذاك بحجم جناح الفراشة. والشقي من لم يستفد من تجارب أسلافه.
في الأخير، فلنتذكّر جميعًا أنّ إحراز النصر وحده غير كاف، إنما الجمالُ في النصر أهمّ بكثير ولا يجب إغفاله. ثورتنا الآن تكتب صفحاتها في سجلّ التاريخ الذي لا ينسى أبدًا، والذي طالما برهن لنا أنّه يحتفظ بالصغيرة قبل الكبيرة؛ لذلك فلنجعل المداد خالصًا كالذهب بإخلاص أبطالها، ولنحاول جاهدين أن نترك لأبنائنا وأحفادنا قصّة ثورة سلمٍ و شرفٍ تُروى بفخر واعتزاز.
فادية ربيع