نبدأ بطرح السؤال: المخابرات إرهابية أم مرتكبو الجرائم، مجرد أفراد ضالة؟
شهدنا كلنا، ارتفاع أصوات وديباجة التقارير ونشر المقالات، ودعوة “الضيوف” المتخصصين، على شاشات “الوسائل العمومية” والخاصة، للتعبير عن رفضها (في حملة منسقة ومدفوعة الأجر) واستنكارها بل إدانتها وتجريمها، للشعارات التي تصف جهاز المخابرات بأنه “منظمة إرهابية”، وحجتهم أن التجاوزات (إن وجدت حسبهم !!!) تقتصر على أفراد من هذا الجهاز، ولا يجب أن نحّمل الجهاز بكامله، باعتباره مؤسسة من مؤسسات الدولة، وما ينطوي، في نظرهم، على مثل هذه الأوصاف من مساس وتشويه لسمعة الدولة وأركانها ورموزها.
وبصرف النظر عن نوايا وهوية هؤلاء المستنكرين، “الحريصين” فوق العادة، على سمعة الدولة ومؤسساتها، (مع علمنا أن الكثر منهم مرتبط بل تابع تبعية وظيفية مطلقة للمخابرات، ومنهم لحاجة في نفسه وقليل منهم عن سذاجة، ولا أقول من باب الاستفسار المشروع)، وقبل الرد على “حجج” المستنكرين، لا بد من الإشارة على شيء مهم وأساس، باعتباره يمثل السبب الحقيقي وراء هذا “الاستنكار” الوطني.
لم يَعُد خافيا مدى ذعر وهلع بل وصدمة “جهاز عبلة وأخواتها” نتيجة انتشار هذا الشعار في ربوع الوطن، بل وانتقاله إلى عواصم العالم، وأروبا خاصة، من خلال جاليتنا المحبة لوطنها، التي لا زالت ترفع صوت الأحرار المضطهدين والمحرومين من التعبير داخل الوطن. هذا الشعار المتميز شكل أخطر وأقسى صرخة شعبية لم يسبق له مثيل في تاريخ رموز الفساد، في تحدي صريح، كشف جرائم المنظمة الإرهابية التي تجثم على كافة مؤسسات الدولة، إنه بحق شعار أوجع العصابة وأصابها في مقتل، بما يفسر حجم صراخها وشراسة عويلها عبر أجهزتها الناقلة.
ثقل ونفاذ أثر شعار “مخابرات إرهابية تسقط المافيا العسكرية”، سببه أن فحوى هذا الشعار كسر المحظور السائد حتى الآن، وجعل دهاليز بن عكنون وغيره من اقبية العذاب والقتل “المؤسسيي” تدرك أن بيتها لم يعد “محفوظا” بل أضحى من زجاج فعلا، ليس من حيث الشفافية، كما ادعى يوما رأس العصابة، المقبور بوتفليقة في دفاعه عن الجلادين، بل أصبحت ديار عبلة من زجاج، بعد افتضاح ما يدور خلف جدرانها وزنازينها القاتمة، انكشفت سوءتهم بفضل شجاعة ووعي الضحايا الذين لم يعودوا يخشون كشف ما تعرضوا له من تعذيب واغتصاب على أيدي تلامذة الجن وبولحية وطرطاق وتوفيق وغيرهم، أصبحت من زجاج لأن الجميع أصبح يعرف عنوان الخراب والمخربين، عنوانهم الدموي اصبح يتداول علنا بين لناس، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي لم تستطع الرقابة قصف أقلامهم، مثلما فعلته حتى الآن من خلال احتكار وسائل إعلام الدولة، ترهيبا وترغيبا وشراء ذمم من تبقى عبر ملايير إعلانات L’ANEP، لتتمكن من قهر وقتل الشعب في صمت البعض وتواطؤ البعض الآخر.
اليوم غير البارحة، ولا التسعينات حيث كان الآلاف يعتقلون ويختطفون ويعذبون ويغتصبون ويقتلون، في صمت القبور، اليوم، شاع عنوان قاتلة CTRIو CPMIوغيرهما، وذاع صيتهم عالميا بعد أن تقدم المئات من الضحايا بالشكوى أمام الهيئات الحقوقية الدولية التي التزمت الدولة الجزائرية بمواثقها، أصبح عنوان قاتل ومعذب ومغتصب الجزائريين معروف لدى الجميع، ونزار اليوم معلق في محكمة سويسرا للرد على شهادات العشرات من ضحاياه، والباقية، حبل على الجرار.
على مر سنين وعقود، ظلت العصابة المخابراتية تستخدم تهمة “الإرهاب” ماركة مسجلة تلصقها وتوزعها على كل من يقلقها ويقض مضجعها ويعطل مخططاتها الإجرامية، خاصة بعد ركبها حرب بوش العالمية لمحاربة الإرهاب، بعد أحداث 11 سبتمبر، واعتقدت أنها وحدها المخوّلة لاستعمال تهمة الإرهاب ضد خصومها وكل شريف حر يفضح جرائمها، واعتقدت أنها وحدها تحتكر “براءة” ماركة الإرهاب المسجلة حصريا لحسابها، دون غيرها، توّظفها كما شاءت، متى شاءت وضد من شاءت، فتحل بها أحزاب لا تنصاع لأوامرها، وتمنع جمعيات ومنظمات من الممارسة بمجرد إلصاق هذه التهمة الفضفاضة عليها، وتسجن وتعذيب وتلطخ سمعة كل من يرفض الخضوع لجبروتها، فتغرف من بئر “الإرهاب” الذي لا ينضب، إلى أن استفاقت من سبات مريح، لتعيش بعد الحراك على كابوس لم تكن تتوقعه ولا تتصور إمكانيته، عندما سحب منها المواطنون، سلاحين، الأول، سلاح العنف، الذي تديم به حكمها وهيمنتها، فأجهضه الشعب بسلاح السلمية الراقية، الذي افقد العصابة توازنها، وثانيا سلاح تهمة “الإرهاب”، بعد ان اصبح الشعب هو من يصف المخابرات بالمنظمة الإرهابية، وبالدليل والشهادات الموثقة (لا بقصاصات الجرائد الصفراء). وكانت حقيقة قاسية لم تتحملها، بما يفسر الهلع الأول من نوعه، الذي دب في فرائسها فجندت له كل ما تملك للتغطية عليها، من آلية إعلامية باعت ضميرها، وأقلام مرتزقة وأحزاب تقتات من موائد منظومة توفيق، لم تعش يوما من تمثيلها الحقيقي، فراحت العصابة كحاطب بليل تقمع كل من يرفع هذا الشعار وتلاحقه، بدعوى أنه شعار مستورد، ومؤامرة، ودسائس صهيونية !!
والآن أعود للرد على من ينتقد شعار مخابرات إرهابية، ويحصر المشكلة في أفراد مجرمين، وليس في “المؤسسة”، أقول لهم، لنفترض ذلك، وليكنْ، لكن قولوا لنا، متى كانت “الأعمال الانفرادية” من تعسف ضد المواطنين، تُعد بالآلاف وعشرات الآلاف، وتقع في كل ولاية من ولايات البلاد، بل وفي كل قرية، وكل مواطن يعرف ذلك على مر سنين، وليس بعد الحراك فحسب، وهل سمعتم يوما أن سلط هذا الجهاز، الضوء عليها وحقق فيها، وعاقب المتورطين فيها، لتبرئة ذمته؟ وهل يُعقل لجهاز يكتم أنفاس الشعب كله، ويدخل حتى غرف نوم أهله، لا يمكنه أن يرى ما الذي يحدث في أقبيته؟ ثم إذا علما أنها أفعال تُعَد بالآلاف، هل يمكن اقترافها، دون أن تطلع عليها القيادات في تلك المراكز؟ ثم ألا يعني السكوت على هذه “الأعمال الانفرادية”، مشاركة فيها فعلية، وحمايتها، غالبا بأمر من كبار القيادات في هذا الجهاز، هذا إذا تغاضينا على أن ترقية “الفاعلين” تقوم بالأساس بحسب عدد وشراسة الجرائم المرتكبة، أسألوا طرطاق والجن ومن على شاكلتهم.
لقد شهدت البلاد أكثر من عشرين ألف حالة اختطاف (رقم لم تبلغه حتى التشيلي في عهد الدكتاتور بينوشي)، من قبل أجهزة الأمن والجيش والمخابرات، هل تسمى حالات انفرادية؟ خاصة، وأن اسر المختطفين، قدموا شهاداتهم، بأسماء الذين اختطفوا ذويهم، دون أن يعرفوا مصيرهم إلى يومنا هذا، بل تم التغطية عليها، وتعرضت الأسر للترهيب والقهر والمضايقات لعدم الحديث عنها، ومنعهم من الاتصال بالمنظمات الدولة المعنية بحقوق والحريات والمختفين قسرا، بعد أن كممت أفواههم بالداخل عن طريق قضاء يخضع لدهاليز بن عكنون، وحتى بعد الحراك، أسألوا اسر الحراكيين المعتقلين والمعذبين والمغتصبين، أليس هذا اعتراف ضمني أنهم لا يريدون الكشف عنها، لسبب بسيط، وهو خشيتهم من افتضاح تورط الجهاز ككل، في ممارسة أعمال إرهابية في حق العزل؟
أترككم تجيبون على السؤال.
في الواقع، اعتقدوا على الدوام أنهم محصنين وبمنأى من كل مساءلة وحساب، بدعم خارجي وتواطؤ داخلي وخشية الضحايا، لذا لم يعيروا أي اهتمام من قبل لرأي أحد، وما هلعهم اليوم وتجنيدهم كل أدواتهم، من كل المشارب، وبكل الألوان، إلا دليل على أنهم شعروا لأول مرة بسخونة الرياح التي تقترب منهم، بعد أن شاهدوا بفزع، كيف أن الشعب لخص هوية المتسبب في مأساة البلاد، في هذا الجهاز الذي أهلك الحرث والنسل. أجل المخابرات، منظمة إرهابية، ولن تمحوه ملايير الدولارات المستنزفة من خزينة الشعب، لشراء الذمم، سبيلا لتنظيفهم من جرائمهم. بيتكم أصبح من زجاج، أيها القتلة.