أوردت مصادر (متحدث المحكمة الابتدائية في تونس) خبر فتح تحقيق يشمل “حركة النهضة” وحزب “قلب تونس” وجمعية “عيش تونسي” بتهمة “تلقي تمويل خارجي”، من جهة أخرى، ووّجه الرئيس التونسي قيس السعد تهمة “نهب الأموال” تقدر بـ 13 مليار دينار إلى 460 شخصية، وحذرهم بأن الخيار الوحيد أمامهم هو استرجاعها إلى الشعب أو السجن. إلى هنا الأمر جد طبيعي (ومحمود) وعادي لا غبار عليه، أن تتابع قضائيا أحزاب أو شخصيات سياسية ورجال أعمال، عند إقدامهم بأعمال تخالف قوانين البلاد، وإدانتهم في حالة ثبوت التهم، أمام محاكم مستقلة، وفق إجراءات قانونية بعيدة عن الأوامر الفوقية أو تصفية الحسابات مع الخصوم، لكن ما يُلاحَظ في هذه المتابعات والتهديدات الأخيرة في تونس، أنها تأتي في سياق خص جدا، متزامن مع استحوذ الرئيس على كافة السلطات، وتعيين نفسه النائب العام وقاضي البلاد الأول، فضلا عن استحواذه على السلطة التنفيذية بالكامل وتجميد البرلمان، هنا المشكلة ومكمن الخطر والتساؤل.
عندما تكون الجهات المتهمة متورطة في قضايا تخرق القانون، القضاء كفيل (والمخوّل الوحيد) بمعالجته بثبوت التهم والوقائع، ولا يتطلب ولا يحتاج تدخل الرئيس في الموضوع، لتأخذ العدالة مجراها والمتهم جزاءه، لكن ما نشاهده، أن هذه المتابعات تتم بإيعاز وأوامر، كوسيلة للجم الخصوم وإسكات كل من يعارض مساعي الرئيس الأخيرة وترهيبهم بهذه الإجراءات. فمِثل هذا الطريق ينتهك القانون ولن يحل المشكلة، بل سيعقدها، وقد ورأينا مشهدا مماثلا في الجزائر، عندما ألقي طرفٌ في السلطة، في أبريل 2019 في أعز حراك الشعب الجزائري، وزج بطرف آخر من خصومه في السجن، مستخدما محاكمات مسيسة، لم تُتابع المتهمين على جرائمهم المهولة، بل تابعتهم انتقاما منهم وتصفية لحسابات شخصية معهم، وبمجرد هلاك قايد صالح، انقلبت العجلة، وانعكس التيار، وسلط الفريق المعتقل سابقا، نفس سيف العادلة المسيسة للانتقام من الذين أدخلوهم السجن. كل هذه الأحداث، تثبت لنا أن العدالة يجب أن تظل سلطة مستقلة، لا تسخيرها من أي طرف كان، وبأي حجة كانت، لتصفية الحسابات، لتكريس حكمه المتعسف.
إن تزامن هذه الملاحقات القضائية وقرارات الرئيس قيس السعيد، أمرٌ غير برئ، ولا يخرج عن احتمالين اثنين، الهدف منه إما إسكات وردع كل معترض على ما أقدم عليه بانقلابه على الدستور نفسه، أو تهديدهم وابتزازهم، من خلال تسليط سيف داموقليس “القضائي”، لإدخالهم في الصف والقبول بالأمر الواقع، وفي حالة تمردهم، تسليط سيف جهاز “العدالة”، الذي أصبح أداة بين يديه، مثلما فعل مع النائب ياسين عياري.
هذا الوضع المريب جعل الكثير من الشخصيات التونسية، السياسية والقانونية والإعلامية، رغم انتقادهم للطبقة السياسية على إخفاقها في تلبية مطالب الثورة والشعب، إلا أنهم اعتبروا أن ما أقدم عليه الرئيس التونس هو انقلاب على الشرعية بما يخالف المادة 80 الدستور نفسه الذي تحجج بها، وأن ما عُرِق بـ “الانقلاب الدستوري” هو انقلاب مكتمل الأركان، واعتبروا من الجرم “تصحيح” ثغرات ونقائص في الديموقراطية بانقلاب على الدستور، بما يطرح التساؤل، هل الذي فرض نفسه بانقلاب، مؤهلٌ لتسديد ثغرات الديموقراطية؟ كل تجارب الأمم تخبرنا بأن من جاء بانقلاب لن يقبل بالديموقراطية، ولن يعمل لتكريسها، وتاريخ المنطقة العربية يعلمنا أيضا أن متى أمسكت جماعة ما السلطة بالقوة، تحت أي مسمى، لن تعيده إلى الشعب ابدا ولن تفارقه إلا بانقلاب آخر أو بنداء الأجل.
للأسف شهدنا البعض “يبتهج” بما حدث في تونس في اليومين السابقين، بما يذكرنا بفرحة نظراء لهم عندنا، غداة انقلاب يناير 92 وفي 2013 نشوة آخرين بانقلاب مصر السيسي، و”فرحة غير مكتملة” لبعض آخر، عند إجهاض انقلاب تركيا قبل 4 سنوات، انطلاقا من تخندق أيديولوجي متطرف، جعلهم ينتصرون لنزعة حزبية ضيقة، أكثر من حرصهم على سلامة بلدانهم وشعوبهم والقيم التي يدعون الإيمان بها والعمل وفقها، في محاولات بائسة منهم لتغليف دعمهم للانقلابات، بحجج “عقلانية” من قبيل “الديموقراطية ليست فقط عملية انتخابية تتميز بالنزاهة والشفافية”، وحتى إذا اتفقنا معهم على هذا الشق من التصريح، واعتبرناه صحيحا، نضيف لهم، أن ما هو أصح من هذا التصريح، أن الديموقراطية ليست هي مجرد انتخابات فقط، لكنها لا يمكن أن تقوم بدون انتخابات نزيهة وشفافية، أي بالمختصر المفيد، لا يجب تبرير الانقلابات على خيار الشعوب، بحجة “ثغرات” الديمقراطية، فهذه ذريعة يمتهنها كل من يخشى صوت الشعوب المعبر عنها بشفافية وحرية، وهي “حجة”، كثيرا ما استُعملت من أطراف، أقل ما يمكن قوله عنها، أنها من أعدى أعداء الصناديق وأشرس خصوم لتعبير الشعوب عن خيارهم بحرية.
ولا نذيع سرا إذا قلنا إن هذه الفئة معروفٌ عنها، لدى العام والخاص، عبر عقود من الزمن وعشرات من التجارب الميدانية، أنها تركب كل سفن الدكتاتورية، بشتى أصنافها، ولا تقبل بالديمقراطية ونتائج الصناديق إلا بشرط أن تكون في صالحها، وإلا فالانقلاب عليها هو الحجة، والتبرير جاهز لتغليف دعمها، مثلما سبق توضحه، بالحجة “المعقمة” المألوفة.
إن ما وقع في توس انقلابٌ بأتم معنى الكلمة، نُفِذ بعد تخطيط مدروس، يعود لما قبل 4 أشهر (شهر ماي)، مثلما أشار إليه الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، في مقالة له بتاريخ 23 ماي 2021، تحت عنوان “وثيقة رئاسية تونسية سرية للغاية تحدد الخطوط العريضة لخطة “الديكتاتورية الدستورية”، وأدرج مع مقالته، الوثيقة السرية، التي تفصل المخطط، وكان قد تعرض الكاتب عندئذ لحملة تشنيع وإدانة، واتُهِم بانه يروّج لشائعات، من “معارضين إسلامين” غير أن الوقائع أثبتت بعد ذلك أن المخطط حقيقي وأن المصدر الذي امده بالوثيقة “علماني وليس إسلامي” كما أدعى منتقدوه، وكان الرئيس قيس السعد نفسه اضطر بعد أربعة أيام من تأكيد صحة الوثيقة، بالاعتراف أنها حقيقية، وقد صاغها اقرب مستشاريه.
جاء في الوثيقة السرية أن رئيس الحكومة هشام المشيشي ورئيس البرلمان راشد الغنوشي سيستدرجان لحضور لقاء في مقر الرئاسة وسيحتجزان، في الوقت الذي يعلن فيه الرئيس عن تجميد البرلمان والاستحواذ على كافة السلطات وتعيين الجنرال خالد اليحياوي كوزير داخلية مكلف بتسيير المرحلة، وهو ما حدث بالفعل بعد 4 أشهر، بتعيين الجنرال المذكور لقيادة عملية محاصرة السياسيين والصحافيين، ليستولي قايس السعيد، ليس على كافة السلطات التنفيذية فحسب بل وتعيين نفسه النائب العام، مع تجميد البرلمان. إلى جانب ذلك لا يمكن ولا يعقل، تبرير هذا الانقلاب بظروف استثنائية ومخاطر تهدد البلاد مثلما يتحجج الرئيس، لأن لا يشيء يوحي بأن البلاد مهدة حقا بمثل هذه المخاطر، ولا علاقة “للانقلاب الدستوري” بجائحة كورونا، لأن المخطط تم في وقت كان الفيروس تحت السيطرة. والغريب في الأمر، أن ما أقدم عليه الرئيس “الأستاذ في القانون الدستوري”، من خرق للقانون والدستور، وتفجير التجربة الثورية الديموقراطية الفتية، لم يفعله حتى رجل نظام بن علي السابق، باجي قايد السبسي الذي قاوم رشوة أبو ضبي وإغراءهم، واستمر في العمل وفق توازنات هشة لكن مصيرية لسلامة تونس وتجربتها العسيرة.
في الختام، الكلمة تعود في نهاية المطاف لصاحب الشأن، الشعب التونسي، ومع ذلك نحن نبذي فقط خشيتنا على أشقائنا وجيراننا مما يتهددهم من عواصف هوجاء لا تحمد عقباها، في حالة عدم استدراكهم الوضع، وفي حالة قبولهم بان توأد تجربتهم الديمقراطية بهذا الشكل، فيكون معنى ذلك أنهم يقبلون التبرير الذي طالما استعملته كافة النظم الدكتاتورية العربية، بزعمها أن شعوب المنطقة غير ناضجة بما يكفي للديموقراطية، وان “علاجها” الوحيد هو نظم تعسفية دكتاتورية، سواء كانت عسكرية أو بوليسية، برعاية وحماية…وإيعاز “الديمقراطيات الغربية”.