محمد مصطفى حابس : جنيف / سويسرا
نشرنا في الأسبوع الماضي، مقالنا تحت عنوان “مسرى محمد ومنطلق معراجه.. قضية الأرض المقدسة بين الأمس و اليوم”، وهو عنوان متشعب، يتطلب صفحات وصفحات، إذ ليس بالإمكان في هذه العجالة وهذا الحيز الضيق من الجريدة أن نعدد النواحي الكثيرة التي اسهم فيها الكتاب العرب والمسلمون في نجدة فلسطين والذود عن حماها ولا نملك إلا أن نذكر بإيجاز بعض المحطات المهمة التي ندين بها لعبقرية أقلام أسلافنا رغم شراسة العدوان وجبن الخلان وأن نذكر ببعض جهود العلماء والكتاب الذين اجتهدوا أيام المستعمر وسنوات المحن والصعاب، رغم ذلك كان لهم أثر ساحق ماحق على العدو وأزلامه على قلة العدة والعتاد للشعب الفلسطيني و أنصاره..
يا فلسطين! إن في قلب كل مسلم جزائري من قصيدتك جرحا داميا:
و قد كنت قد كتبت فيما مضى وحاضرت في بعض المناسبات حول “الدور الرسالي للمثقف العربي والقضية الفلسطينية” من وجهة نظر أقلام مغاربية عموما، وفي كتابات جمعية العلماء خصوصا يتقدمهم الإمام العلامة البشير الإبراهيمي وشعراء كثر وباقي النخب الجزائرية عبر الأجيال.. كما شرحت ذلك في مقال مطول عام 2014 إثر خبر وفاة شاعر فلسطين سميح القاسم، فكتبت مقالا بعنوان “القضية الفلسطينية بين الإمام البشير الإبراهيمي والشاعر سميح القاسم”، وقلت يومها ” إن كان فقدان سميح القاسم (المسيحي) يعتبر فجيعة كبرى لفلسطين والعرب وهو الرجل الذي دافع بأسلوبه الشعري الثائر وأدواته المتاحة عن أرضه وعرضه في تناغم قريب مع ما كتبه العلامة الرسالي البشير الابراهيمي عن فلسطين قبل عقود رغم اختلاف الأزمان والأديان والأوطان، فإن ما كتبه هذا الأخير خاصة في افتتاحيات “البصائر” في أعدادها الأولى، حينها كانت فعلا – ولا فخر- كلمات الإمام الإبراهيمي من نار ونور، نار تحرق العدو ونور تضيء الطريق للأجيال وتحملها المسؤولية أمام الله والتاريخ والأمة، وقد كُتبت جلها في بداية الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين من أعوام 1946/ 1948، منها ما كتبه تحت عنوان “إن فلسطين وديعة محمد عندنا”.
و قد وصف الإمام العلامة الإبراهيمي الاحتلال الصهيوني لفلسطين حينها بـ”الفجيعة” والجزائر حينها لازالت بدورها تئن تحت نير الاستعمار الفرنسي البغيض، وقد كتب رحمة الله عليه في العدد الخامس من جريدة “البصائر”، تحت عنوان “تصوير الفجيعة”، هذه الكلمات البليغة الصادقة الواعدة، مناجيا فلسطين بقوله “يا فلسطين! إن في قلب كل مسلم جزائري من قصيدتك جرحا داميا، و في جفن كل مسلم جزائري من محنتك عبرات هامية، وعلى لسان كل مسلم جزائري في حقك كلمة مترددة هي: فلسطين قطعة من وطني الاسلامي الكبير قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير، وفي عنق كل مسلم جزائري لك ـ يا فلسطين ـ حق واجب الأداء، وذمام متأكد الرعاية، فإن فرُط في جنبك، أو ضاع بعض حقك، فما الذنب ذنبه، وإنما ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقلبه”.. ثم كتب يقول “يا فلسطين! ملكك الاسلام بالسيف ولكنه ما ساسك ولا ساس بنيك بالحيف”، كناية عن عدل الإسلام وتعايشه السلمي مع الآخر مهما كان دين هذا الآخر.. كما كتب أيضا في خاتمة افتتاحية البصائر عدد 22 مناديا ومنذرا ومحفزا العرب والمسلمين بقوله “ايها العرب، أيها المسلمون! إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون”.
الشيخ الابراهيمي، قمة التضحية والعطاء والفداء:
لاحظ أنه رغم الاستعمار الفرنسي لبلده الجزائر ورغم الفاقة وقلة ذات اليد التي يتخبط فيها الشعب الجزائري، فقد آل العلامة الإبراهيمي على نفسه أن يهب أعز ما يملك بل أغلى ما يملك لنصرة فلسطين، وهي كتبه، كما وضح ذلك في افتتاحية البصائر عدد 30 بقوله ” أما أنا .. فو الذي روحي بيده لو كنت أملك ما يملكه العمودي من سخل، أو ما يملكه البسكري من نخل،…أو ما يملكه الفلاح من أرض أو ما يملكه الكانز من ورق وورق- لخرجت من ذلك كله في سبيل عروبة فلسطين، ولكني أملك مكتبة متواضعة أضعها بخزائنها تحت تصرف اللجنة التي تشكل لإمداد فلسطين”. وهنا يسمو الإمام الإبراهيمي محلقا في علياء زهده وسخاءه وعطاءه المعهود، مصداقا لقوله تعالى: (لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)!
و قد كتب إمامنا الإبراهيمي العديد والعديد من مقالات غاية في الأهمية بأسلوب راق قوي متين عن جرح فلسطين الغائر وسرطانات القضية الفلسطينية الممتدة وقرارات التقسيم الأممية المجحفة، جمعت كلها في العدد الثاني من آثاره “عيون البصائر”، يمكن للقارئ الكريم الرجوع إليها للاستزادة خاصة في الصفحات 490/526، تحت فصل: جمعية العلماء وفلسطين، منها القطوف التي ذكرناها أعلاه، وأخرى تحت عناوين مثل: تصوير الفاجعة – وقف قرار تقسيمها- العرب واليهود في الميزان عند الأقوياء- ماذا نريد لها وماذا يريدون؟- الإنكليز حلقة الشر المفرغة- واجبات فلسطين والعرب-أما عرب الشمال الافريقي- قيمة عواطف المسلمين في فرنسا.
” لا عيد، حتى تنفذوا في صهيون الوعيد، وتنجزوا لفلسطين المواعيد”:
ونحن مقبلون بعد أسابيع على عيد الأضحى المبارك، حري بنا أن نتوقف، عند هذا الكلام المجلجل والمزلزل، حيث كتب باكيا يقول في مثل أيامنا هذه متحسرا على حال فلسطين، تحت عنوان “عيد الأضحى و فلسطين”
النفوس حزينة، واليوم يوم الزينة، فماذا نصنع؟
إخواننا مشرّدون، فهل نحن من الرحمة والعطف مجرّدون؟
تتقاضانا العادة أن نفرح في العيد ونبتهج، وأن نتبادل التهاني، وأن نطرح الهموم، وأن نتهادى البشائر.
وتتقاضانا فلسطين أن نحزن لمحنتها ونغتمّ، ونُعنى بقضيتنا ونهتم.
ويتقاضانا إخواننا المشردون في الفيافي، أبدانهم للسوافي، وأشلاؤهم للعوافي، وألا ننعم حتى ينعموا، وألا نطعم حتى يطعموا.
ليت شعري! … هل أتى عبّاد الفلس والطين، ما حل ببني أبيهم في فلسطين؟
أيها العرب، لا عيد، حتى تنفذوا في صهيون الوعيد، وتنجزوا لفلسطين المواعيد، ولا نحر، حتى تقذفوا بصهيون في البحر. ولا أضحى، حتى يظمأ صهيون في أرض فلسطين ويضحى.
أيها العرب: حرام أن تنعموا وإخوانكم بؤساء، وحرام أن تطعموا وإخوانكم جياع، وحرام أن تطمئنّ بكم المضاجع وإخوانكم يفترشون الغبراء.
أيها المسلمون: افهموا ما في هذا العيد من رموز الفداء والتضحية والماعاناة، لا ما فيه من معاني الزينة والدعة والمطاعم، ذاك حق الله على الروح، وهذا حق الجسد عليكم.
إن بين جنبي ألما يتنزّى، وإن بين جوانحي نارا تتلظّى، وإن بين أناملي قلما سُمته أن يجري فجمح، وأن يسمح فما سمح، وإن في ذهني معاني أنحى عليها الهم فتهافتت، وإن على لساني كلمات حبسها الغم فتخافتت.
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم *** نطقت ولكن الرماح أجرتِ
كما عاش العلامة الإبراهيمي – إضافة لذلك – مرارة الاعتقال والسجون، وحتى الإقامة الجبرية لمواقفه الوطنية إبان استقلال الجزائر المنقوص، ومات هذا القلم ولم يجف روح مداده، ورحل متحسرا على حال الجزائر كما مات متحسرا بغصة ضياع فلسطين و بيت مقدسها ..
بنفس نبض روح الابراهيمي وفورة دمه واكب شعراء الجزائر وأقلامها محنة فلسطين:
وقد رافق الشعر العربي والأمازيغي الجزائري قضية فلسطين منذ ظهورها على المسرح العالمي في العشرينيات من القرن الماضي، وكان الشعراء يستغلون كل مناسبة لتأييدها، وتابعوها في جميع مراحلها وأطوارها المختلفة منذ إعلان ” وعد بلفور” المشؤوم سنة 1917م، مرورًا بانتفاضات الشعب الفلسطيني في الثلاثينيات، ثم رفضه لقرار التقسيم، وقد وقف شعراء الجزائر إلى جانب فلسطين والعرب أثناء حرب 1948م، ونكسة 1967م، ثم تجاوبوا مع انتصارات الثوار الفلسطينيين، وأبطال المقاومة، وأطفال الحجارة بعد ذلك حتى اليوم.
وقد كتبَ شاعرٌ جزائريٌّ ناشِئٌ – من شباب جمعية العلماء- لم يذكر اسمه خوفا من رقابة الاستعمار الفرنسي البغيض المتصهين، قصيدة شعرية عن فلسطين في سنة 1930 م، حيث نشرها آنذاك بمجلة “الشهاب” الجزائرية التي كان يديرها العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يصوّر فيها مشاعره النابضة نحو القدس وساكنيها، ويعبر فيها عن تعاطف الشعب الجزائري كله مع الشعب الفلسطيني الشقيق انطلاقا من إحساسه بخطر الاحتلال الصهيوني على قدس العروبة والإسلام، فقال:
ناشـَدْتُكَ اللهَ ياقُـدْسَ العُروبَةِ لا تُقمْ حِسابًا، لِمَنْ قَـدْ رَامَ تَمْوِيَها
فَمَا طُموحُ يَهُـودِ الشَّرْقِ يَنْفَعُهُم وَلاَ يَنَالُـونَ إلاَّ الْمَقْتَ تَشْوِيهَا
يا أُمّةَ الْقُدْسِ، لا يُحْزِنْكَ مَطْمَحُهُم فَإنَّ لِلْقـُدْسِ رَبًّـا، هُوَ يَحْمِيهَا
أمَّا الْجَـزائِرُ، فَهي مِنْ مُصـابِكُم في حَر ِنارِ الأسَى، تَشْكُو لِبَارِيهَا
آهٍ عَلَى أُمَّـةِ الْقُدْسِ التي بَسَطَتْ لِلْجارِ إحْسَانَها، وأسأَلْ مُجِيِريهَا
آهٍ، عَلَى كـَأْسِ ذُلٍّ، وَهيَ تَرْشُفُها وعَنْ صِغَارِ كـآباتٍ تُقـاسِيهَا
وباستثناء الوزن المختل في بعض الأبيـات، فـإنَّ المقطَّعة تزخر بالمشـاعر الفيّاضَةِ، والإيحـاءات القومية النافذة.
و من جهة أخرى وبنفس نبض الروح وفورة الدم واكب شعراء الجزائر محنة فلسطين، أمثال شاعر الجزائر محمد العيد آل الخليفة، إذ لم يكتف بِمجـرد التعبير عن تضـامنه مع القضية الفلسطينية، وتأييده لقضـايا الأمـة العربية كلها سـواء في فلسطين أوفي شمـال افريقيا، بل غيّر لهجته من التضـامن إلى التهـديد والوعيد، ووصف أخـلاق اليهـود وطبـاعهم الشـريرة التي عرفـوا بِها كالخـداع والجبن والغـرور وسـواها، يقـول محمد العيد في قصيدته ” فلسطين العـزيزة ” التي نظـمها سنة 1367 هـ :
فَلَسْطينُ العـزيزةُ لاَ تُراعِي فَعَينُ اللهِ رَاصدِةٌ تُـراعِي
وحَوْلَكِ مِنْ بَنِي عَدْنانَ جُنْدٌ كَثِيرُ الْعَـدِّ يَزْأرُ كَالسِّباعِ
إذا اسْتَصْرَخْتِهِ لِلْحَـرْبِ لَبَّى وخَفَّ إلَيْكِ مِنْ كُلِّ الْبِقاعِ
يَجودُ بِكُلِّ مُرْتَخَصٍ وغـَالي لِيَدْفَعَ عَنْكَ غَاراتِ الضّباعِ
بُليتِ بِهِمْ صَهـايَنَةً جياعًـا فَسُحْقًا للصَّهايِنَةِ الْجِيـاعِ
سَتَكْشِفُ عَنْهُمُ الهَيْجاءُ سِتْرًا وتَرمِيهِمُ بِكُلِّ فَتَّى شُجـاعِ
ثم يدخل في وصف أخلاق اليهود، وطباعهم التي عرفوا بِها عبر العصور، فيقول :
وكَيْفَ يُصادِفُ العِبْريُّ نُجْحًـا وَمَا أَخْـلاَقُـهُ غَيْرَ الْخِـدَاعِ
قد اشْتَهَر اليَهُـودُ بِكُلِّ قُطْرٍ بِأَنَّ طِبَـاعَهُم شَـرُّ الطّبَـاعِ
قَدِ اغْتَرَّ الْيَهُـودُ بِمَا أَصَابُـوا بِأَرْضِ الْقُدْسِ مِنْ بَعْضِ الْقِلاَعِ
مَتَى كَانَ الْيَهُـودُ جنُودَ حَربٍ وَكُفُؤًا لِلأعـارِبِ في الصّراعِ
ويختم القصيدة بِهذا الصوت المتحمس الذي يأتي من الشاعر الثائر مُتوجها إلى فلسطين العزيزة :
فَلَسْطينُ الْعَـزِيزَةُ لا تَخَـافِي فَإنَّ العُرْبَ هَبُّـوا لِلدِّفَـاعِ
بِجَيْشٍ مُظِلمٍ كَاللَّيْلِ غَـطَّى حِيالَكِ كُلَّ سَهْلٍ أوْ يَفـَاعِ
ومـا أسْيَافُـهُ إلاَّ نُجـومٌ رُجـومٌ لِلْيَهـوُدِ بِلا نِزَاعِ
يُرابِطُ في ثُغُـورِكِ مُسْتَعِـدًّا عَلَى الأهْباتِ لِلأمْرِ المُطـاعِ
سَيَهْجُمُ مِنْ مَراكِـزِهِ عَلَيْهمْ هُجومَ الآكِلينَ عَلى القصاعي
ونَحْنُ بَنِي العُـروبَةِ قد خُلِقْنا نُلَبّي لِلْمَعـارِكِ كُلَّ دَاعِـي
لَنَا في الحَرْبِ غـاراتٌ كِبارٌ وأيَّـامٌ مُخـلَّدَةُ الْمَسَـاعِي
وكَيْفَ نَذِلُّ أوْ نَرْضَى انْخِفَاضًا ونَجْمُ جُـدُودِنَا نَجْمُ ارْتِفَاعِ
انتصار فلسطين انتصار للجزائر وللعروبة جميعا:
غير أنَّ بعض الشعراء الجـزائريين كانوا يقرنون قضية فلسطين بالثـورة التحريرية بالجـزائر، لأنَّ انتصار الجـزائر هو انتصار لفلسطين وللعروبة جميعا، وهزيمَة المستعمر في هذا القطر تحمل له الهزيْمة في كل مكان، والنصر المتوقع في الجزائر سيتبعه نصرٌ آخر في فلسطين، لأنَّ ابن الجزائر بعد النصر في بلاده سيولي وجهه شطر فلسطين ليلبي نـداء (حيفا ويافا) وهو المعنى الذي عبّر عنه، شاعر الثورة مفدي زكريا، والشاعر الشيخ أحمد سحنون، وصـالح خرفي، و محمد جريدي وأحمد الطيب معـاش، وعبد الكريم العقـون، ومحمد الأخضر السـائحي، ومحمد أبو القاسم خمار، وعمر البرناوي، وغيرهم من المعاصرين..
وتعانقت الجزائر وفلسطين عناقًا يستمد حرارته من حرارة الحرمان الذي مُني به الشعبان، الجزائري والفلسطيني، فكانت الثورة الجزائرية انطلاقا لكل هذه المشاعر الجريحة في فلسطين وفي الجزائر، وتلاقى المبعدان عن وطنهما لقاء الغريب بالغريب، تلاقى الجزائري والفلسطيني في أكثر من نقطة في الوطن العربي، فكان لقاء الثَّأْرِ بالدم المهدور، لقاء الانتفاضة بالكرامة الجريحة، لقاء العودة للوطن الثائر، والوطن المتأهب للثورة تلاقيا على قمم الأطلس وسفوحه لقاء الثورة الزاحفة، ووضعت اليد في اليد، وتنادت الآمال وتجاوبت الجروح.
ولأنَّ الشاعر صالح خرفي قد عاش أحداث الثورة التحريرية في الجزائر، وعاش لحظات الرُّعب والإرهاب، وتابع عن كثب مأساة الشعب الفلسطيني الشقيق منذ الانتداب والاستعمار الصهيوني لفلسطين، فأملت عليه هذه الأحداث عديد الصور التي حفلت بِها مقطّعاته، ومنها هذه المقطعة التي هي من قصيدة بعنوان (الجُرح المتجاوب) :
يَا أَخِي في خيامِ غَـزَّةَ في قِمّة (شليا)، جُروحُنا تتنَادَى
نَحْنُ قُرْبانٌ مُدلِجٌ يُنْشِدُ الْفَجْـرَ فَكُـنَّـا لَهُ مَـنـارًا وَزَادَا
رَعْشَةُ الضّوءِ في سِراجِكَ يَا صَاحِ أضاءتْ لَهُ الرُّبَى وَالوِهَـادَا
ومِنْ الآهَـةِ الْحَزِينةِ وافَـتْـهُ مِنَ الْعِـزّ نَغْمَةٌ تَتَهَـادَى
إِنَّنَا نَزْرَعُ الـوُرُودَ عَلَى الدَّرْبِ وَنَجْني مِنَ الوُرُودِ الْقَتـادَا
فلا عجب أنْ تقرن الجزائر بفلسطين، وتربط معركة فلسطين بمعركة الجزائر، في فترة خانقة لم تزل فيها معركة الجزائر هي الأخرى في كفة القدر، ولكنه الإيمان بالمصير المشترك، لان الشعوب العربية استحالت والى الأبد، شعبا موحدا، مزجت العروبة بين أقطاره في لغة واحدة وحضارة واحدة، وقد أشار صالح خرفي إلى هذا المصير المشترك بين القطرين الشقيقين الجزائر وفلسطين لتعدد أوجه التلاقي والتكامل والتمازج، وبخاصة في الكفاح المسلح ضد الاستعمار الغاشم :
قَـدْ خُلِقْنـا أَنَـا بِقمَّةِ (شليا) مُسْتَنيرًا بِفَوهَةِ ذاتِ وَقْـدِ
وبخَطِّ الهُجُـومِ أَنْتَ، خُلِقْنَـا يا أَخَا الثَّأر مِنْ هُنَا لِلتَّحَدِّي
فَاْتُركِ السِّلْمَ لِلْوجُـودِ، وَللِنَّار خُطانَـا، فسلّمْنَـا رَفْعَ بَنْدِ
يا فَلَسْطِينُ، إنْ لَمَحْتِ قَتَامَـا فَاعْرفِي أنَّنِي وَفَيْتُ بِوَعْـدِي
أمَّا الشاعر الشيخ أحمد سحنون، فقد تأثر هو الآخر بفكرة تقسيم فلسطين من قبل الإنكليز بين الصهاينة والعرب سنة 1947 م، تنفيذًا لمؤامرة صهيونية بريطانية، فكتب قصيدة شعرية بعنوان “فلسطين” يحذِّرُ فيها الفلسطينيين من قَبوُلِ هذا التقسيم، ويدعوهم إلى الثورة، يقول :
فَداكَ الْعِدَى لا تَقْبلي
قسْمةَ الْعِدَى ولِلْمـوتِ سِيرِي لاَ تَبِيتي عَلَى ذُلِّ
ولاَ تَحْفَلي بِالنَّاسِ إنْ جَارَ حُكْمُهُم عَلَيْكِ فِـإنَّ اللهَ يحكُـمُ بِالْعَـْدلِ
وخَلْفَكِ جَيْشٌ مِنْ بَنِي الْعُربِ رَابِضٌ ليُبْعِدَ عَنْ أرْضِ الْهُدَى عَابِدى العجل
لَقَدْ جدّ جدُّ العربِ فَاقْتَحِمُوا الْوَغَى وَلا تَدْفَعُوا جِدَّ الحَـوادثِ بِالْهَـزْلِ
وقد ختمها بنداء إلى أغنياء المسلمين والى شعراء العرب ليقفوا إلى جانب القضية الفلسطينية… حيث يقول:
وَيَـا أَغْنياءَ الْمُسِلمينَ تَسابَقُـوا إلى الْبَذْلِ والإيثَار ذي سَاعَةِ الْبَذْلِ
ويَا شُعَراءَ الضَّادِ حُثُوا شُعوبَكُمْ بِشِعْرٍ يُـداوِيهَا مِنْ الْجُبْنِ وَالبُخْلِ
فَمَا الشِّعرُ إلاَّ ثَـوْرةٌ غَيْرَ أنَّهَا تَصُولُ بِلا كَفٍّ وَتَسْعَى بِلاَ رِجْلِ
ولأحمد سحنون قصيدة أخرى بعنوان ” شباب محمد ” يتحدَّثُ فيها عن الشباب العربي، ويركّز على الإيمان، ويربط بينه وبين استرداد فلسطين، وأنَّ الإيمان بالقيم الإسلامية هو السبيل إلى المحافظة على فلسطين، وفي القصيدة إشادة بأخلاق العرب وشجاعتهم، وَلَمْ يَنْسَ أخلاق الصهاينة الذين سخر منهم ونعتهم بالذباب، فيقول :
لَقَدْ شَبَّتْ بِأَرْضِ الشَّرْقِ نارُ لَهَا في الْقِبْلَة الأولى الْتِهَابُ
وأَنْتُمْ خَيْرُ مَنْ خَاضُوا لَظَاهَا فكَيْفَ يَروعكُم هذَا الذُّبابُ
سَيَغْدُ والمُوقِدُونَ لَهَا وُقُودَا ومَنْ رامَ الخَرَابَ له الْخرَابُ
ويسير في هذا الاتجاه شاعر آخر من شعراء الجزائر، وهو محمد جريدي الذي كتب قصيدة شعرية يعالج فيها قضية فلسطين أيام النكبة، ويكاد ينفرد عن بقية الشعراء الجزائريين – الذين كانوا يعيشون يومئذ تحت سيطرة ورقابة ومطاردة الاستعمار الفرنسي البغيض – باللهجة الحماسية التي عالج بِها القضية ” إنَّه وهو يعتلي المنبر مستنفرا ومستصرخا، لا يستنفر الشعب العربي في الجـزائر، بل الشّعب العربي في كل قطر، ولا يكتفي بالتهديد الأعزل وهو يواجه الصهيونية، ولكنَّه يطلق الأوامـر الصارخة وهو يستَثير الشعب العربي، ولا يرضى بالتغمة التقريرية المائعة، ولكنَّه يعمد إلى الومضـات التعريضية الجـارحة، مستمدا لها من شرف العروبة وقدسية الإسـلام كل عناصر التأثير”، فيقول :
أَيَا شَعْبُ جـاهِرْ بالقِتالِ عَلَى العِدَا فَلَمْ يَبْقَ في دَفْعِ الْمَظَـالِم كِتْمـانُ
فَلَـوْلاَ التهابُ العُنْصُرية في الْحَشَا لَمَا استَفُحَلتْ صَهْيون وانْدَاسَ عُربَانُ
فَوا عَجَبًا مِنْ قِصَّةِ الأُسْدِ، قَدْ غَدَتْ يُهَاجِمُهَـا في الْمَرْبَضِ اليَوْمَ خِرْفـانُ
تَنَمَّرَ كُفَّـارُ (الكَلِيم) كَـأنْ لَمْ يَنُص لَنَـا عَنْ ذُلِّـهِم قُرآنٌ قُرْآنُ
وقد شبَّه الشاعر محمد جريدي هؤلاء الجزائريين الذين لم يتمكنوا من تخطي الحواجز والوصول إلى فلسطين للمشاركة في المعاركة المقدسة بالبنوة التي ترى الأمومة ملطخة في دمائها ولا تملك إلى نصرتِهَا سبيلا، فيلتمس الشاعر المغفرة من الأم الجريحة فلسطين لأبنائها في الجزائر، فيقول :
فَلَسْطينُ، إنِّي الابْنُ والابْنُ طائِعُ فَهَا أَنَذَا أعْصي، فَهَلْ فيكِ غُفْرانُ
فَإِنَّ صُدُودِي عَنْ حِمـَاكِ جِنَايَةٌ وَإِنَّ قُعُـودِي عَنْ فِدَاكِ لَعِصْيانُ
فَلَسْطينُ، لا تَأْسى لَغَيْبِي فَـإِنَّني وَإن غِبْتُ، بِالحِرْمَانِ مِنْكَ لاسيانُ
وَإنْ فَقَدَتْ رِجْلي رَكَائِبَ لِلْفِدَا فَلَيْسَ لإحْسَاسِي وشِعْري فُقْدانُ
فَـإِنَّ إِذَا رُمْنَا لِأَرْضِـكِ سفْرةً يُعـارِضُنَا بِالْمَنْعِ والرَّدْع ِ طُغْيانُ
وإِنْ رامَ صهيـونُ لِغَزْوكِ هِجْرةً تُفْتَحُ لَهُمْ في الْجَـوِّ والْبَـرِّ بِيبَانُ
فَها هُوَ إيِمَانِي فِـداكِ ونَخْـوتي فَمَاذَا عَسَى يُجْدِيهم فِيكِ حِرْمانُ
وَهَمُّكِ هَمِّي يَا فَلسْطِينُ فاصْبري فَإنَّ اهْتِياجَ الْمَوْج تُفْنِيهِ شَطْـآنُ
ولَسْتُ لِبَحْرِ الظُّلِم إلاَّ شَواطِئًـا وَلَيْسَ لِمَوْجِ الظُّلِمْ بَعْدَكِ طُغْيانُ
أمـا شاعر الثورة الجزائرية، وشـاعر وحـدة المغرب العربي الكبير والأمة العربية مفدي زكرياء، فقد اعتبر العدوان على فلسطين اعتداء على العروبة كُلّها، وضياع فلسطين مسؤولية العرب جميعًا – لا الفلسطينيين وحدهم – فقد باعوها وانحدروا بِهَا للهاوية وهم في غمرة سكر، ففي الذكرى الثالثة عشر لتقسيم فلسطين كتب قصيدة شعرية طويلة بعنوان: ” فلسطين على الصليب ” في شكل حوار بين الشاعر وفلسطين والعرب، وسنلاحظ بوضوح ” الصراحة الجارحة، والنقد اللاذع الهادف إلى تصحيح الأخطاء، ويطغى عليه أسلوب التحليل واستقراء الأوضاع، وتحديد الأسباب، وإقتراح الحلول بعيدًا عن ترديد الشعرات الرنانة الجوفاء”، فهو يدق ناقوس خطر الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ويحث على الجهاد، وعلى رص الصفوف لمواجهة العدو، فغرد يقول :
أُناديكِ، في الصَّرصَرِ العاتِيَهْ وبَيْنَ قَـواصِفِها الذّارِيَـهْ
وأَدْعـوكِ، بَيْنَ أزيزِ الوَغَى وبَيْنَ جَمـاجِمِها الجـاثِيَهْ
وأَذْكُر جُرْحَـكِ، في حَرْبِنَا وفي ثَوْرةِ المغربِ القـانِيَهْ
فَلَسْطِينُ.. يا مهبـطَ الأنْبيأ ويا قِبْلَةَ العُـرْبِ الثـانِيَهْ
ويا حُجَّـةَ اللهِ في أرْضـِه ويا هِبَة الأزَلِ، السـامِيَهْ
فَلَسطينُ.. والعُرْبُ في سُكْرَةِ قد إنْحَدَرُوا بِكِ لِلهاويَهْ !
رَمـاكِ الزّمـانُ بِكُلّ لَئيمٍ زَنيمٍ، مِنَ الْفِئَةِ البـاغِيَهْ
وَصَبَّ بِكِ الغَرْبُ أقْـذَارَهُ وَرِجْسَ نِفَايَاتِهِ الْبـاقِيَهْ
وحَطَّ ابنُ (صهيونَ) أنْـذَالَهُ بِأَرْضِكِ، آمـِرةً نـاهِيَهْ.
ويستطرد الشاعر في تسليط الأضواء على ما آلت إليه فلسطين ” فقد انقلبت الأوضاع، وذل العزيز، وعزَّ الذليل، وأصبحت فلسطين تبكي، وما يبكيها إلاَّ الذين كانوا قد اتخذوا حائطا يتباكون فيه ويستدرون عطف الناس”
بكيتِ، فَلَسْطِينُ، في حَائطٍ بِهِ – قَبْلُ – قَدْ كانتِ الْبَاكِيَهْ
فَيالَكَ مِنْ مَعْبَدٍ نَجَّسـُوا حنَـاياهُ بِالسُّـوْءَةِ البـادِيَهْ
وَيَالَكَ مِنْ قِبْلَةٍ كَدَّسـُوا بِمِحْـربِهَا الجيفَ البـالِيَهْ
وَيَالَكَ مِنْ حَـرمٍ آمِـنٍ جيَّاعُ ابنِ آوَى بِهَا عَـاوِيَهْ.
ولَمَّا تحدَّث الشاعر عن مأساة فلسطين، حمَّل العربَ مسؤولية ضياعها – على لسان فلسطين – يقول :
لَقَدْ كـانَ لي سَبَبٌ لِلْبَقَـا فَقَطَّـعَ قَـوْمي أسْبـابِيَهْ
ورُحْتُ أُبَاعُ، وأُشرَى كَمَا تُباعُ لجزارها الْماشِيَهْ
وأُشْنَقُ في حَبْلِ مُسْتَعمِري وَأُصْلَبُ في كَفِّ جَـلاَّدِيِهْ
وفَرَّقَنِي (الخُلْفُ) أيْدِي سَبَأ وشَتَّتَ في الأرْضِ أوصالِيَهْ
فأَصْبَحْتُ أرْسُفُ في مِحْنَتِي وقَومِي – عن مِحْنتي- لاهِيَهْ
وَفِي سُكْرةِ ضَيَّعُوا عِـزَّتِي وَلَمْ يُغْـنِ عَنّي سُلْطـانِيَهْ
فَـلاَ أَنَا حَقَّقْـتُها بِيَدِي وَلا سَلَّحَ العُـرْبُ أَبْنَائِيَهْ.
والقصيدة طويلة تقع في تسعين بيتًا، وآخرها تفاؤل بالنصر بشرط أنْ يعتصم العرب جميعا بحبل الله ولا يتفرقوا، فهو يعد بنصر من ينصره، ولن يُخْلفَ وعده، ولا ريب أنَّ ساعة النصر آتية لا محالة، حيث يقول في آخر القصيدة :
فَإِنْ تَنْصُروا اللهَ يَنْصُرْكُمُ ويُنْجِزْ أَمَـانِيكُمُ الْغالِيَهْ
وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ مِيعَـادَهُ وَلاَ رَيْبَ… ساعَتُنَا آتِيَهْ
ولمفدي زكرياء أيضا قصيدة طويلة في تسعة وأربعين بيتا موسومة بـ ” الله من سيناء كلم يعربا – إلى فلسطين الذبيحة ” يخاطب فيها ضمائر العرب بعد أن خاطب عواطفهم، وبين لهم انكشاف الزيف، ويعري لهم عن طبيعة هذا الخصم العنيد الذي لا يفقه إلا لغة الرصاص:
صَرَخَ الضَّميرُ، وَرَجّتِ الأقـدار وانْقَضَّ مِنْ عَـدْلِ السّماء قَرارُ
وقَضَى الرَّصَاصُ تَبـاركَتْ كَلِماتُهُ وَمَضَى القصَاضُ، وَهَانَتِ الأعْمارُ
والله مِنْ (سيـنـاءَ) كَلَّمَ يَعْرُبَـا فَتَمَاوَجَتْ لِنِـدَائِـهِ الأحْـرَارُ
والنّارُ، في الوادي المُقَدّسِ مَا انْطفَتْ يَا قَوْمَ مُـوسَى بَعْدَ مـُوسَى النَّارُ
والْعَـارُ تَغْسلُه الدِّمـاءُ زكِـيّة أَمَا كَسَـا شرَفَ العُـروبةِ عَـارُ
يـا قِصَّةَ الآبَـاءِ، لَيْسَ بِخَـالِدٍ في الكْونِ شَعْبٌ يَكْتَسِبُهُ صِغـارُ
الْمَـوتُ أَشْرَفُ مِنْ حَياةٍ تُسْتَبَى فِيهَا الرِّقـابُ، وتُسْتَباحُ دِيـارُ
ويختم القصيدة بتقديم النصيحة لأبناء الأمة العربية كافة، يدعوهم إلى الجهاد والى حمل السّلاح والمشاركة الفعلية في الحرب ضد عصابات الاستعمار الصهيوني البغيض:
يَا أَيُّهَا العُـرْبُ الْكِـرامُ كَـرَامَةً فَالأَمْـرُ جِـدُّ وَالْحُظوظُ كِبَارُ
اللهُ أَنْجَزَ وَعْـدَه هَـلْ تُنْجِـزُوا؟ وَهَلِ العَـدُوُّ أَمـامَكُم يَنْهارُ؟
سُوقُوا عِصَاباتِ الضِّباع فَلَمْ يَكُنْ يَخْشَى الضِّبَاعَ الضَّيْغَمُ الْهُصارُ!
إِنْ يَسْـُط ذِئبُهُم وَنَحْنُ جَمـاعةٌ إِنَّا إذَنْ في الأرْذَلينَ خَـسَـارُ
***
ورَعيلُ بَدْرٍ صَـاحَ فِيْنَا بَـادِرُوا إِنَّ الجهـادَ بَراعةٌ وَبـدارُ
الْمَغْربُ الْعَـرَبيُّ أخْلَصَ لِلّنِـداءِ فَتَعَزَّزَتْ بِجُيوشِـه الأنْصـارُ
شَعْبٌ تَمَرَّسَ بِالِكفـاحِ، فَلَمْ تَنلْ مِنْهُ السِّنُـونِ وَلاَ ثَنَاُه عثـارُ
صَهَرَتْه مَعْرَكَةُ الْفِـدا، وَعَقيدةٌ عَرَبيةٌ، والأَطْـلَسُ الْجَبَّـارُ
أوْراسٌ عَلّمَتِ الجِهادَ أُسُـودها وَسَمَا بِبَنْزَرتَ الْفَتَى المِغْـوارُ
لا أريد أن أطيل اكثر من هذا في عرض هذه النماذج الشعرية (غير المستقصاة)، من الشعر الذي تجاوب فيه الجزائريون مع إخوانِهم الفلسطينيين، وقد اجتهد غيرنا من أصحاب الاختصاص في التنقيب عنه في جملة من المظان، آثرنا تجميع بعضه في هذه السطور، واكتفينا ببعض المقطعات والقصائد دفعا للسآمة والملل. وهناك مجالات أخرى لم أَشَأْ أن أتحدث عنها، فهناك نثر، ومقالات، وأبحاث عن فلسطين، والنضّال الفلسطيني نخصصها لها بحول الله في حلقة خاصة، والله ناصر المستضعفين في فلسطين وغيرها ولو بعد حين..وما ذلك على الله بعزيز