بقلم الدكتور الطيب برغوث
شهدت الساحة المعرفية الأكاديمية والثقافية الجزائرية، يوم الجمعة 04 رمضان 1442 هـ الموافق 16 أبريل 2021 ميلاد “مركز المستقبل لدراسات التنمية”، الذي يترأسه البروفيسور محمد فرحي الاقتصادي المعروف، ويتولى فيه الخبير الدولي العايش بالروح المدير التنفيذي للمركز، ويضم كوكبة مهمة من الأساتذة الباحثين والخبراء الجزائريين من الجنسين في الداخل والخارج.
وتتمحور مهمة المركز حسب مؤسسيه، حول قضية دراسات التنمية الشاملة، باعتبارها أم المشكلات في المجتمعات الإنسانية كلها، ويبدو من الكوكبة العلمية المتميزة التي يضمها المركز، ومن الأهداف التي وضعت له، والمنهجية التي يعتزم انتهاجها في عمله، أنه حريص جدا على أن يكون إضافة نوعية مهمة للمؤسسات العلمية البحثية الرسمية والمستقلة في الجزائر، وقوة اقتراح وبدائل جادة، وهو ما نتمناه جميعا، ونؤازهم فيه بكل ما نستطيع.
الشروط القاعدية للتنمية والنهضة:
فنهضات المجتمعات لا تتأسس ولا تتحقق إلا على بنيان معرفي متين، وعلى ثقافة علمية أو معرفية متينة، وعلى روح النهضة وإرادتها وقيمها الأصيلة التي تسري في مفاصل وخلايا كل المؤسسات في المجتمع والدولة، وقبل ذلك تسري في نفوس الأفراد وحياتهم، باعتبار الإنسان هو جذر النهضة وشرطها الأساس، الذي إذا صلح وضعه، وامتلك روح النهضة ومعرفتها وثقافتها، فإنه سيحقق النهضة الحضارية للمجتمع، ويؤمن بها وجوده الحضاري، ويؤدي بها دوره في محيطه وفي العالم، أما إذا ظل هذا الإنسان محروما من روح النهضة ومعرفتها وثقافتها وقيمها الاصيلة، فإنه لا يستطيع أن يصنع نهضة حضارية مهما حاول، لأنه لا يمتلك شروطها الحقيقية، ولعل في تجربتنا نحن كجزائر معاصرة، وفي تجربة عموم البلدان العربية، التي حباها الله تعالى بإمكانات مادية وبشرية ومعنوية مثالية، ولكنها أخفقت جميعا في تحقيق ولو المرحلة الأولى من مراحل نهضتها الحضارية، وهي مرحلة وضع البنية التحتية الفكرية والنفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتماسكة للإقلاع الحضاري، مما يدل على أن النهضة الحضارية هي روح ومعرفة وثقافة وقيم بالأساس، وليست إمكانات ووسائل وتكديس لمظاهر النهضة المستوردة، الخالية من روح النهضة وثقافتها وقيمها!
معطلات التنمية والنهضة:
ولهذا فإنني بقدر ما كنت سعيدا بميلاد هذه المؤسسة البحثية الجادة، وفخورا بهذا الجم الغفير من النخبة الوطنية الخبيرة التي التفت حولها، أو في طريقها إلى الالتفاف حولها بإذن الله تعالى، فإنني خائف من أن يكون مصيرها مثل مصير غيرها من المؤسسات الوطنية الكثيرة الأخرى، التي تنطلق بحيوية وعنفوان ورغبة جامحة في فعل شيئ يحرك وضع المجتمع والدولة نحو الأفضل، ولكنها ما تلبث أن تتحول إلى جزء من كتلة التخلف المتعاظم، أو ما كان مالك بن نبي يسميه بالجبل الجليدي الفكري والنفسي والسلوكي والثقافي والتاريخي الضخم، الذي يحول دون عبور الجهود نحو أهدافها، ويجمد كل جهد وطني جاد بعد لحظات أو فترة يسيرة من محاولة عبورها لهذا الجبل الجليدي الضخم، ويحوله إلى جزء من كتلته المتعاظمة، التي تشكل جزءا مهما من أسباب مركب أو معامل عدم القابلية للنهضة! على غرار مركب أو معامل القابلية للاستعمار! وبالرغم من أنه مركب حادث وليس بنيويان إلا أن طول الأمد به، جعله شديد الأثر، وثقيل الوطأة على النفوس والعقول والأوضاع مع الأسف الشديد.
أسئلة التنمية والنهضة:
وهذا التخوف الواقعي المزمن المبرر، يضعنا أمام سؤال جوهر ومفصلي، وهو:
كيف نحمي هذه الجهود المخلصة المتواصلة، من مخاطر هذا المركب الجليدي اللعين الذي يتعاظم خطره أمامنا كل يوم؟
وقبل ذلك كيف تكوَّن هذا المركب الجليدي؟
وكيف ولماذا يتعاظم دوره مع مرور الزمن؟
وكيف يحدث فينا وفي جهودنا التنموية النهضوية كل هذه الآثار المحبطة؟
وكيف نفككه ونذوبه؟
ونفتح الطريق أمام العبقرية والحكمة والخبرة والكفاءة والفعالية والإرادة والحماسة والإخلاص الجزائري، لكي يمضي قدما نحو تحقيق حلمه في التنمية الشاملة والنهضة الحضارية المتوازنة، ذات الشحنات العالية من الخيرية والبركة والرحمة الكونية العامة؟
مخاطر الغفلة عن هذه الأسئلة الكبرى:
إنه يبدو لي أننا إذا لم نهتم بالجواب الموضوعي الشامل على هذه الأسئلة الكبيرة، ونكيف رؤانا ومشاريعنا ومبادراتنا الرسمية والشعبية على ضوئها، فإننا سنظل ندور حول أنفسنا، ويتحول لدينا ذلك الدوران إلى وهم يشعرنا بأننا نتحرك إلى الأمام، ولن ندرك بأننا كنا في وهم إلا بعد فترة طويلة، وحينها تصدمنا نتائج ذلك بعد فوات الأوان، وتحدث آثارها السيئة في نفوسنا، وتدفع بعضنا إلى الانكماش في كثير من الأحيان، تحت منطق الحكمة والروية المتأخرة! وبآخرين منا إلى منطق التبرير، وبالبعض إلى شراسة الدفاع عن الأمر الواقع وما ارتبط به من مصالح خاصة، ومن مظالم اجتماعية، من مصلحتهم أن لا يعرفها أحد، وأن لا يُدفع ثمنها!
ثم يأتي بعدنا من يتحرك بنفس الطريقة، ثم ما يلبث أن يكتشف بأنه كان يتراوح في المكان ويدور حول نفسه، ويقع له مثل ما وقع لمن سبقه أو أكثر، فيدخل بدوره في متاهات الانكماش أو التبرير أو شراسة حماية الأوهام! وهكذا دوليك يتسع نطاق الجبل الجليدي الحائل بيننا وبين نهضتنا الحضارية المطلوبة، ويتعاظم مفعوله أكثر فأكثر! وتتسع الهوة بيننا وبين نهضتنا الحضارية المرجوة، خاصة وأن منطق المدافعة والمداولة الحضارية الماضي بلا هوادة في البشر، يدفع بشكل مستمر بالقوى الضعيفة إلى الخلف، ويكرس غثائيتها وتبعيتها المنهكة، ويدفع بالقوى الناهضة الجادة إلى الأمام، لكي تزيد بدورها من ضعف وغثائية وتبعية القوى الضعيفة، محافظة على استمرارية نهضتها الحضارية، وأمن المنافسة عليها، وتأمين الأسواق لمنتجاتها.
مركزية القضية المعرفية والتربوية والثقافية في استراتيجية التنمية والنهضة:
وأرى والله أعلم أن القضية المعرفية التربوية الثقافية هي أم المشكلات وأم الحلول في الوقت نفسه، وأن أية غفلة عنها، أو تجزئة أو تمييع لها، وعبث بها في سوق البوليتيك الملوث المتقلب، يفقد التنمية والنهضة شرطهما الأساس، ويحول التنمية الجزئية الناجحة، إلى أداة فتاكة في يد القوى الطفيلية الحثالية الفتاكة، الممسكة بها وبمكاسبها، ليتكرس تخلف المجتمع وضعف الدولة، وغيبة الوعي وزيفه، وتفاهة الإنسان ومهانته.
والإشكال هنا هو في مفهوم المعرفة والتربية والثقافة ومحتواها ابتداء، ثم في استراتيجية كيفية بناء معرفة مطابقة لحقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، تنبني عليها تربية متوازنة ومتكاملة مطابقة أو منسجمة مع حقائق الوجودات الثلاث، تؤسِّسُ وتبني ثقافة مطابقة أو منسجمة بدورها مع حقائق الوجودات الثلاث، يحملها كل فرد في المجتمع، ويسري مفعولها في كل تفاصيل حياته، وتفاصيل إدارة مؤسسات الدولة والمجتمع.
شروط بناء إنسان التنمية والنهضة:
عندما نتمكن من الإمساك بالمفهوم الشمولي التكاملي المقاصدي أو الغائي الصحيح للمعرفة والتربية والثقافة، ونقيم عليه استراتيجية البناء المعرفي والتربوي والثقافي للإنسان، في البيت وفي المدرسة والجامعة والجمعية والحزب والقناة والمنتدى وسائر مؤسسات ووسائط التأثير والتغيير… سينشأ لدينا إنسان ينجح عملية التنمية، و ينجز النهضة المنشودة، لأن استراتيجية البناء المعرفي والثقافي والتربوي التي تقوم على فلسفة التطابق أو الانسجام مع حقائق الجودات الثلاث، تنمي في الإنسان كل أبعاد شخصيته الإنسانية بشكل متوازن ومتكامل، ولا تهمل أي جانب منها، فتأتي هذه الشخصية سوية متوازنة، مفعمة بالخيرية والبركة والرحمة العامة، بإمكانها إقامة أسرة متوازنة، ومؤسسات متوازنة، ودولة متوازنة، ومجتمع متوازن.. تتكامل جهودها معا في تحقيق تنمية صحيحة، وإنجاز نهضة حضارية متوازنة.
أما المعرفة أو التربية أو الثقافة أو التنمية أو السياسة أو النهضة.. التي لا تقوم على فلسفة أو استراتيجية التطابق أو الانسجام مع حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، وتتحرك في الاتجاه المناقض لحقائق هذه الوجدات الثلاث، بشكل جزئي أو كلي، وخفي أو علني، فإنها لا تستطيع أن تبني إنسان التنمية المتوازنة، والنهضة الحضارية المتوازنة، لأنها لا تمتلك إمكانات وشروط التنمية الشاملة المتوازنة للشخصية الإنسانية، فتأتي هذه الشخصية كثيرة الأعطاب، مهتزة البناء الفكري والنفسي والروحي والأخلاقي، متنافرة الأداءات السلوكية والاجتماعية، وهو ما يقلل كثيرا من شحنات الخيرية والبركة والرحمة العامة في عطائها الذاتي والاجتماعي معا، ويجعلها عامل تعويقي أساس لعملية التنمية والنهضة معا.
فإستراتيجيات التنمية والنهضة، غالبا ما تؤتى وتضرب من هذه الثغرة الخطيرة، وتكون سببا رئيسا في فشلها أو قلة جدواها، ولذلك يجب على كل مشروع تنموي ونهضوي جاد، مهما كانت جزئيته وخصوصيته، أن يضعها ضمن أولويات استراتيجيته، وأن يسهم في مواجهتها بكل ما يستطيع، من خلال ضبط مفهوم المعرفة والتربية والثقافة والفعالية والنجاح.. على ضوء حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، وبناء سياساته وبرامجه ومساهماته الوطنية على ضوء ذلك، فإن لم يدرك ذلك، وانغمس في التخصصية الجزئية، فإن مصيره الفشل، حتى وإن نجح المجال الجزئي الذي رابط فيه، واهتم به، لأن العبرة في التنمية والنهضة هي بالنجاحات المتكاملة والمتساندة، وليس بالنجاحات الجزئية المنعزلة، التي سرعان ما تطالها مؤثرات الفشل العام!
السننية الشاملة هي طريق التنمية والنهضة:
والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه علينا كمعنيين بالتنمية والنهضة في مجتمعنا وأمتنا خاصة، وفي العالم عامة، هو كيف نصل إلى المفهوم الشامل والمتكامل والمتوازن للمعرفة والتربية والتنمية والنهضة والفعالية والنجاح.. بحيث تتحرك كلها باتجاه التطابق أو الانسجام مع حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، ولا تتناقض معها، وتضخ في جهدنا الذاتي والاجتماعي، المزيد من شحنات الخيرية والبركة والرحمة العامة، التي هي مقصد التنمية والنهضة في نهاية المطاف؟
والجواب في نظري هو أن الطريق إلى ذلك، يمر عبر الوعي بمنظور السننية الشاملة، والاستجابة الشاملة والمتكاملة لمقتضياته، لأنه المنظور السنني الكوني الشامل، الذي يفرض على الإنسان الانفتاح على كل الساحات الكونية التي وزع الله فيها أو عليها سنن فهم حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني أولا، والاستفادة القصوى منها في إقامة علاقات صحيحة بكل هذه الوجودات الثلاث، كل منها بحسب طبيعته ثانيا، وضبط مفاهيم وإستراتيجيات المعرفة والتربية والثقافة والتنمية والنهضة والفعالية والنجاح على ضوئها.. ثالثا، ووضع سياساتها وبرامجها وخطط ومناهج إنجازها رابعا.
فمنظور السننية الشاملة، يؤكد للإنسان على أن سنن الاستخلاف في الأرض وإقامة التنمية والعمران الحضاري المتوازن فيها، موزعة في أربع ساحات أو منظومات سننية كونية كبرى، هي منظومات سنن الله في الآفاق والأنفس والهداية والتأييد، التي يكمل بعضها دور بعض، ولا يمكن لأي منها أن يحل مكان أخرى أو يعوضها في حياة الإنسان، الذي يحتاج كل فعل يصدر عنه إلى استثمار معطيات من كل منظومة من هذه المنظومات جميعا، لكي يخرج إلى حيز الوجود أصيلا وفعالا وتكامليا وكثيف الجرعة التأثيرية، ومنسجما مع حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، وهو ما تتجاهله جل استراتيجيات التنمية والنهضة في عالمنا المعاصر، بما في ذلك كثير من البلدان الإسلامية مع الأسف الشديد! وهو الخلل الجذري الذي تعاني منه جل أنواع التنمية والنهضة، ويشكل سببا رئيسا للاختلالات التي تعاني منها، وخاصة في الجوانب الفكرية والنفسية والروحية والأخلاقية والاجتماعية، التي هي عماد التنمية وجوهرها الذي به تفيد بقية الأبعاد السياسية والحضارية الأخرى، وينتفع منها الناس انتفاعا كبيرا، وبدونها تتحول إلى نقمة عليهم وعلى الطبيعة.
فالسننية الشاملة هي طريق التنمية والنهضة الحضارية المتوازنة الآمنة، الكثيرة الخيرية والبركة والرحمة العامة، أما ما عداها من طرق السننية الجزئية المنكفئة على نفسها، أو المكتفية بذاتها، أو المتنافرة، فهي طرق مضرة بالتنمية والنهضة، مهما توهم أصحابها بأنها طرق للتنمية والنهضة، لأن الواقع القائم، وتجارب التاريخ المستفيضة معا، تبين فعلا بأن السننية الشاملة هي الطريق الصحيحة الآمنة للتنمية والنهضة الحضارية، ولذلك فإن كل من جهل ذلك، من الأفراد أو المؤسسات أو المجتمعات، أو تجاهله، أو غفل عنه، كان مصير جهده الفشل، أو قلة الجدوى في نهاية المطاف، مهما بدا له من النجاحات المؤقتة، والعبرة بطبيعة النتائج والخواتيم كما يقال!
المؤسسات الجديرة بالثقة والدعم:
والخلاصة هي أن المؤسسات الرسمية أو الشعبية التي لا تساهم في بناء روح التنمية والنهضة ومعرفتهما وثقافتهما وقيمهما وإرادتهما وفقههما الإنجازي الفعال لدى أجيال المجتمع، مؤسسات طفيلية مضرة بالمجتمع والدولة، لأنها تستنزف إمكانيات وجهودا وأوقات كبيرة بلا جدوى، وتضيع فرصا كثيرة على المجتمع، وتساهم من حيث وعت ذلك أم لم تعه، في مراكمة الضعف والتخلف. أما التي تساهم في بناء روح التنمية والنهضة ومعرفتهما وثقافتهما وقيمهما وإرادتهما وفقههما الإنجازي الفعال لدى الأجيال، فهي الجديرة بالتقدير والثقة والدعم.
هذه رسالة إلى إخواني في مركز المستقبل لدراسات التنمية، وكوكبة الباحثين والخبراء والعلماء الملتفين حوله، والمستبشرين به خيرا، وإلى كل المؤسسات الوطنية الرسمية والشعبية التي يهمها أمر التنمية الحقيقية، والنهضة المتوازنة، أتمنى أن يتأملوا فيها جيدا، وأن يجد محتواها صدى في مشاريعهم وجهودهم الوطنية إن شاء الله تعالى.
والله ولي التوفيق
تروندهايم (النرويج ) في: 06 رمضان 1442 هـ . الموافق: 18 أبريل 2021 .