يلاحَظ أن بعض المتلبسين بالواقعية، غالبا ما يمارسون هذه الواقعية، غير بعيد كثيرا عن المنطقة الخضراء التي توفر لهم الأمن والسلامة، وتمنحهم امتيازات تقدر بقدر قربهم منها وابتعادهم عن كل من يصفونه بالـ”العدمية” و”الرومانسية و”الغوغاء”. حجة هؤلاء الواقعيين، أنهم يقدرون ثقل الأمانة الملقاة على عاتقهم، عكس “المغامرين” الذين لا يبالون بمصير الشعب والوطن. ومن مميزات واقعيتهم، بدافع الحرص على استقرار البلد وأمنه، يبررون بسخاء حاتمي، تصرفات السلطة الحاكمة، والتهوين من حجم تعسفها وقهرها لمن يخالفها الرأي. وإذا استفسروا عن الحريات، يطمأنون بأنها مكفولة، وأنها تعم ربوع الوطن؛ وإذا سئلوا عن الاعتقالات، يجيبونك بأنها محدودة وليست بذلك الحجم المبالغ فيه من قبل المضللين الحاقدين؛ وإذا قيل لهم، لماذا يقيّد حق ممارسة السياسة للمواطنين، يفندون الأمر، ويؤكدون أن هذا الحق مكفول للجميع، باستثناء “الممنوعين قانونا من هذا الحق” (أي كل من ترفض وزارة الداخلية والبوليس السياسي اعتماده لأسباب سياسية بحتة معروفة وسارية المفعول منذ انقلاب يناير92)، ثم يقدمون الدليل على هذا الحق المكفول (الذي لا يتوّفر حسبهم حتى في بعض أعرق الديمقراطيات الأوربية) في وجود العديد من الأحزاب المعارِضة التي تنشط بحرية، فضلا عن السماح لعشرات الصحف بالنشر والعديد من القنوات التليفزيونية بالبث.
الغريب في الأمر أننا نجد هذه الواقعية تتسع صدرها لتفهم وتبييض كل ما تقترفه سلطة مستبدة تستخدم وسائل الدولة لقهر الشعب وكتم أنفاسه، لكن في الوقت نفسه، تغيب سعة صدرها ويضيق ليتلاشى عندما يتعلق الأمر بمن ينتهجون طريقا يخالف طريقهم، فيُتهَمون بالتطرف والعدمية، وينكرون حتى على معتقليهم صفة السجناء السياسيين، فضلا عن تبرير اعتقالهم تارة تلميحا، وتارة تصريحا، ويرونهم مجرد سجناء الحق العام، يستحقون العقاب…بما كسبت أيديهم، إن لم يتشفوا فيهم صراحة.
أقطاب هذه الواقعية يسندون موقفهم، انطلاقا من رفضهم “الرؤية الشمولية” في التغيير، أو ما يسمونه بـ « Jusque-boutisme »، ويفضلون المشاركة المتدرجة من “الداخل” بدل سياسة الكرسي الشاغر “العقيمة”، ويتهمون من يصر على المطالبة بتغيير جذري، بعدم تقديم “حلول واقعية عملية قابلة للتطبيق”. ربما كان خيار التغيير من داخل منظومة الحكم مقبولا ومنطقيا، في المحاولة الأولى، حيث يقوم أصحابها بتقييم المسار ودراسة نتائجه ليتخذوا بناء عليها موقفا، إما بمواصلة المشوار إذا ثبت لديهم أنه حقق الغاية من المشاركة، أو التحلل من هذا الموقف إذا فشلوا في ذلك، لأن السياسة من أجل خدمة البلاد لا تنحصر بالضرورة فقط من داخل هياكل ومجالس وأجهزة السلطة، بل تتم حتى خارجها، وأحيانا لا تكون ممكنة إلا خارج أسوارها، عندما تُسد كل فرص التغيير الفعلي، وتتعنت السلطة في غلق كل المنافذ. لكن الواقع المُعاش يبين لنا أن هذه المعارضة الواقعية ليست في محاولتها الأولى، بل جربت هذا المسلك قبل عشرات السنين، منذ 92، وكان الأجدر بها أن تقر بصراحة وأمانة أن مشاركتها لم تغير منظومة الفساد قيد أنملة، والعكس هو الذي حصل، وما خروج ملايين المواطنين منذ22 فبراير 2019 إلا تأكيدٌ لهذا الوضع، الدال على حالة الاحتقان التي وصلت إليها الجزائر، بما يثبت عبثية محاولة التغيير من داخل منظومة تفسد كل من اقترب منها.
لا زال يبرر الواقعيون موقفهم، رغم التجارب المريرة والفاشلة الممتدة عبر عشرات السنين، بكونهم يفضلون الحلول “العملية” بعيدا عن التنظير والنقد الرومانسي العبثي، الذي تتبناه معارضة يعتبرونها عدمية، لم تقدم أي حلول أو بدائل. فلا بأس أن نذكرهم في هذه الحالة، أن أطراف عديدة ممن يتهمون بالعدمية، وعدم تقديم البديل، قد طرحوا حلولا، طيلة عقود من الزمن، منذ انقلاب يناير 92، للانتقال من حكم انقلابي عسكري مستبد إلى شرعية شعبية، في ظل دولة تتسع لكافة فئات الشعب، وتوقف حمام الدم والمأساة، لكن، كيف كان الرد دائما؟ الرفض المتعنت مع مزيد من تعميق الشرخ وسفك الدماء وتفاقم عدد الضحايا إلى أن وصلت إلى ربع مليون قتيل. أين هم اليوم أولئك الذين تصدوا لتلك الحلول بعد اتهام شخصيات وطنية شريفة، مثل المرحومين مهري وأيت احمد، والسيد علي يحيى عبد النور وغيرهم، بالخيانة فقط لأنهم قدموا بحلول جامعة تعيد البلد إلى شاطئ الأمان؟ ألم تصف السلطة الحالية البعض من الذين فوّتوا على البلد فرصة تجنبنا كوارث ومآسي، بأنهم عصابة، وألقت بهم في السجن؟ مَنْ هم إذن الخونة والمخربين؟ الذين قضوا نحبهم وأدوا واجبهم، سعيا منهم في إنقاذ البلاد، أم من اتهمهم بالخيانة، تمسكا بحكم مغتصب وسلطة زائفة وزائلة؟
وأين يضعون عشرات المبادرات المطروحة منذ 22 فبراير، من شخصيات مشهود لها بالنزاهة والوطنية وصفاء اليد، وجمعيات وحركات، وكلها رُفِضت، لا لشيء سوى لأنها خارج سكريبت السلطة، الذي لا يقبل بأي بديل لا تتحكم فيه من ألفه إلى يائه، وكل ما تسعى إليه هو استنساخ نفسها بوجوه أخرى، من خلال الحلول التي يصفها الواقعيون بأنها عملية.
في الختام لنا أن نسأل الواقعيين، من أي زاوية يرون حلول غيرهم “تعجيزية وعدمية”؟ هل يعتبرون مثلا أن المطالبة بتحرير الفضاء السياسي من قبضة الداخلية والبوليس السياسي، تعجيزا؟ وهل يعتبرون طبيعيا رهن حق تكوين الأحزاب والجمعيات، بأجهزة أمنية، تعتمد من تريد وترفض من تريد، وانتقاء من تشاء بناء على عامل الولاء لا على أساس القانون؟ ألا يفترض أنه حق دستوري لكل مواطن الممارسة السياسة عن طريق الإخطار فحسب، ثم يتحمّل مسؤولية أعماله أمام القضاء؟ أم يعتبرون ذلك تعجيزي وغير عقلاني، فقط لأنه يزاحمهم في الساحة ويكشف حقيقة كل طرف وحجمه الفعلي في الميدان، وليس على أساس الحصص الموّزعة بحسب درجة الولاء للسلطة الحاضنة؟
وهل المطالبة بمراقبة كبار المسؤولين، ومحاسبتهم بشفافية عن طريق ممثلين فعليين منبثقين عن انتخابات حرة، لحماية مؤسسات الدولة ومقدراتها من كل فساد واستغلال ونهب، مطلب تعجيزي؟ وهل المطالبة بالتزام المؤسسة العسكرية بمهامها الدستورية والابتعاد عن الخوض في الشأن السياسي والاقتصادي، مطلب تعجيزيٌ؟ بما يفسرون إذن خشية هؤلاء من الكشف في طرق إنفاق ملايير الدولارات المأخوذة من خزينة الشعب وقوت المواطنين؟ أليس في كشف جزء فقط (رأس الجبل الجليدي) من كارثة فساد كبار مسؤولي مؤسسة الجيش (اعتقِل العديد منهم، فرّ آخرون، العثور على حاويات بمئات الملايير في بيوت البعض الآخر)، إلا دليل على ضرورة المراقبة السياسة لهذه المؤسسة وكبار قياداتها؟ أين وجه التعجيز هنا؟ وهل المطالبة بخضوع قرارات قيادة العسكر، في كل ما له علاقة بالإنفاق والصفقات والقرارات التي تمس مصير الشعب، لرقابة مدنية سياسية منتخبة، مطلب تعجيزي؟ لكن السبب الفعلي الذي لا يريد أصحابه أن يتكشف وراء واقعيتهم، ونعتهم هذه المطالب بالعدمية والتعجيزية، هو يقينهم أنه في حالة تحقيق هذه المطالب، ستعيد العملية السياسية في مسارها الطبيعي السليم الذي لا مكان فيه لا لسلطة أبوية استبدادية ولا لتوابع حزبية انتهازية ترضى بأن تكون شاهدة زور تقايض مشاركتها، وتدين بمناصبها لسلطة غير شرعية. في هذه الحالة، تأخذ كلٌ من العقلانية والاعتدال من جهة، والعدمية والشمولية من جهة أخرى، معاني أخرى، نتفهم دوافع أصحابها.