لقد كانت جمعية علماء الجزائر؛ و تحديدا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين حركة مقاومة أكثر منها حزبا سياسيا أو جمعية خيرية، أو علمية أو دينية محضة؛ ببساطة لأنها لم تكن تفكر في السياسة من باب المشاركة في دواليب الإدارة الاستعمارية، أو الحصول على امتيازات مادية؛ و لم تفكر في الشأن العلمي من باب الوظيفة؛ كما لم تفكر في الشأن الديني من باب منافسة مختلف الطرق التي استمالتها إدارة المحتل الغاشم، كل ذلك وأكثر لم يحدث! فكانت الجمعية حركة مقاومة فعلا، قاومت سياسات المحتل الغاصب وتصدت لمختلف عمليات التدجين والتلبيس التي انتهجت بحق الإنسان الجزائري في حدود قواعده الاجتماعية والثقافية؛ أما اليوم فهي أبعد ما تكون عن خط المقاومة الذي ميزها طويلا، والدليل طريقة تعاطيها مع الشأن السياسي والعلمي والديني على السواء، حيث لم تعد محل إجماع من حيث المواقف لدى شريحة واسعة من الجزائريين، اللهم إلا ما بقي من أثر وتقدير في النفوس تجاه قادة بوزن البشير الإبراهيمي، عبد الحميد ابن باديس، العربي التبسي، و إخوانهم الأشاوس الذين أبلوا البلاء الحسن من أجل مرافقة الشعب في كل مناحي الحياة بالرغم من أساليب الاستعمار الخبيثة؛ واستطاعوا أن يتركوا الأثر البالغ في نفوس النشء جيلا بعد جيل، الذي كان دون منازع اللبنة القوية أو النواة الصلبة لثورة نوفمبر المباركة، والمحطات التي سبقتها في مقارعة المستعمر .
ولم تشهد الساحة الجزائرية بعد الاستقلال ولادة من هذا القبيل، سواء خلال فترة الحزب الواحد، خصوصا فترة حكم الرئيس هواري بومدين الذي اجتهد من زاوية الانفراد بالسلطة في رسم مسار دولة على أساس ما كان يدور على مستوى بعض الدول الاشتراكية من دون رؤية متوازنة تأخذ في الحسبان بناء الإنسان وفق القدرات الذاتية والأبعاد الثقافية والحضارية للمجتمع الجزائري؛ والدليل الفراغ الذي تركه، بمجرد وفاته، على مستوى هرم السلطة ! حتى أن الرئيس الشادلي رحمه الله لم يكن قادرا على استيعاب وتصور المهام المنوطة برئيس دولة ؛ والدليل هو وجود أكثر من شاهد بخصوص من كان يسير فعلا شؤون الدولة، كون الرئيس هو مجرد واجهة، ليس إلا ! فالجنرال العربي بلخير، مثلا ، كان هو المسير الفعلي والآمر والناهي الحقيقي، وما خفي أعظم . أو خلال فترة التعددية التي أعقبت أحداث أكتوبر 1988 ، إلى غاية 1992 ؛ خصوصا الأحزاب التي كانت منشغلة بالشأن الانتخابي عساها تحصد مقاعد بالبرلمان، بما فيها الأحزاب الإسلامية التي فشلت فشلا ذريعا في أول اختبار ديمقراطي، و الدليل هو علاقتها بالسلطة الحاكمة، كونها كانت غير واعية ومطلعة على خبايا سلطة الأمر الواقع أو السلطة الفعلية، هذه الأخيرة التي تمكنت من توريط الجميع وإلحاق الأذى بالجميع بمن فيهم الرئيس الشادلي نفسه، أما الشعب فحدث ولا حرج، خصوصا خلال العشرية الدموية التي ثبت للقاصي و الداني مسؤولية من كانوا على رأس جهاز الاستخبارات و قيادة الأركان وقتها من دون منازع؛ أما جبهة الإنقاذ فقد كانت كبش فداء بين يدي السلطة، وقد ساعد على ذلك تركيبة الحزب البشرية، إن في القمة ، و إن في القاعدة . أما الأحزاب الأخرى ذات التوجه الإخواني ( حماس، النهضة) فلم يتمكن كلاهما المحافظة على الخط التأسيسي و الفكري، ناهيك عن تماسك قواعدها خلال أكثر من استحقاق وأمام أكثر من اختبار. وللأمانة فقد بقي الشعب عرضة لعمليات الهدم طيلة عشرين سنة من حكم بوتفليقة، والأحرى من دون مرجعية؛ عبد العزيز بوتفليقة خلال أربع عهدات، لم يهتم سوى بنفسه، وبنفسه فقط، وعلى حساب الجميع؛ فعلى سبيل المثال، لم يذكر الرئيس هواري بومدين الذي أبنه وبكى في جنازته بمقبرة العالية قبل عشرين سنة، من قريب أو من بعيد؛ ولم يذكر الجزائريات والجزائريين بموقف واحد من مواقفه، ولا حتى بخصوص وفاته ! كما لم يذكر شيئا عن ثورة التحرير والتاريخ المرير للشعب الثائر! نعم، فقد بقي الشعب مثل اليتيم الذي فقد والديه، ولم يجد قريبا يكفله ! لا جمعية و لا حزب ولا إعلام، انشغل الجميع بصورة الرئيس، حتى وهو مقعد! لكن الولادة هذه المرة جاءت جماعية! أتدرون طبيعة المولود الجديد الذي فاجأ الجميع بمولده؟ إنه ببساطة وعي الجزائريين والجزائريات؛ كان ذلك في 22 فبراير 2019 ! ؟ سمه ” حراكا ” أو ” ثورة ” المهم كونه ولد من صميم حركة المقاومة ومن الرحم التي أنجبت ابن باديس المقاوم وابن مهيدي الثائر! والدليل هو السلاح الذي أبهر القريب والبعيد على حد سواء ؛ ألا وهو “السلمية “! عند هذا الحد يمكن استشراف مستقبل الساحة الجزائرية خصوصا، و العربية و الإسلامية عموما، من زاوية حركة التاريخ، الغالب فيها هو حركات المقاومة على رأس كل قرن؛ و ما ذلك على أحفاد الأمير عبد القادر والمقراني وفاطمة نسومر بعزيز .