أليس من الظن بالله الظنونا أن يُقر الإنسان بتكريمه بالعقل ثم يُهرول عبثا لتصديق وترويج خرافات تتعارض مع هذا العقل ؟
حاش لله أن يُكرِّم بني آدم بقدرات إدراكية تميزه عن سائر المخلوقات لتمكينه من طلب العلم والحكمة، ثم يحيطه بسُنن كونية تشوش على تلك المنظومة المتطورة وتشكك فيها !
خُلق الإنسان ضعيفا والعقل السوي أدرى بحدود صلاحياته ويُق بالمعجزات الكونية كحقيقة ثابتة والتي هي في أغلبها آيات مدعِّمة للرسائل السماوية وللمرسَلين المكلَّفين بها. بيد أن المعجزات الاستثنائية لا نصدق منها إلا ما ورد في النصوص الشرعية الصحيحة.
ما عدا ذلك وحتى إثبات العكس فإن الإنسان مُلزم بتصديق ما يتوافق مع العقل فقط، والتحفظ على كل ما يخالف المنطق والسنن الكونية، حتى وإن كانت الحكمة أو الموعظة من وراء القصد.
لا تخلو أي ثقافة من الخرافات الشعبية الغريبة والعجيبة كالتشاؤم من الرقم 13 وتجنب المرور تحت السلالم إلى غيرها من التفاهات. والروايات الأدبية والأفلام السينيمائية الخارقة تعم المعمورة ولكنها مقدَّمة بوضوح كمجهود خيالي. لكن الثقافة العربية تتميز عن غيرها بالإفراط في القصص الخيالية المنسوبة للماضي وللعصر الذهبي كأنها جزء من التاريخ المجيد، رغم تلاعبها بالغيبيات وعبثها بالمنطق السليم.
هناك خرافات ثقافية واجتماعية وحتى علمية ولكن أبشعها وأخطرها هي التي تشكل وعاء لإرشادات أخلاقية ودينية، نظرا لسهولة قبولها وهضمها.
كثير من الحكم والمواعظ تُقدم من خلال قصص خيالية تصطدم مع المنطق، كأن الواعظ عاجز عن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون اللجوء للخرافات، أو أنه يظن أن الوعاء الخيالي المخترق للسنن والمنطق أفضل لتبليغ رسالته.
توظِّف هذه القصص شخصيات خيالية تشمل سلاطين ووزراء وحكماء وغرباء وحتى حيوانات، تتمادى في التلاعب بالمنطق والغيبيات لتنتهي بمدح الفضيلة وقدح الرذيلة.
فإذا كانت تدعو ظاهريا للحكمة والموعظة الحسنة فإن هذه الخرافات مضرة بالمناعة العقلية وبمنظومة الإدراك. ولا شك أنها تعيق النمو السليم لعقول الأطفال وتساهم في تعطيل فكر المجتمع وتتسبب في فقدان الثقة في نفسه وفي نخبه، وتجعله فريسة سهلة للدجل وأكاذيب الأنظمة السياسية الفاسدة والأوهام التي تسوقها.
والعقول المتراخية والمُدمنة على الإستمتاع بالأساطير الخرافية تكون حتما عاجزة عن النهضة الحضارية وإنتاج أنظمة سياسية قائمة على العدل والنزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص والتنافس الشريف.
إضافة لكل ذلك فإن من أخطر ما في الخرافات هو تشجيعها على الإنخراط في الشعوذة والشركيات.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ (النساء – 48)
وقد تُشكل ثقافة الخرافات البوابة الرئيسية للشرك في بلاد الإسلام، وكيف لا وهي تروج لأساطير يتمتع بعضها بقدرات غيبية لم يحظ بها حتى خاتم الأنبياء :
قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(الأعراف – 188)
إذا كان خير البشر صلى الله عليه وسلم لا يملك نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولا يعلم الغيب وهو على قيد الحياة، فكيف لمن هم دونه من سلاطين وحاشيتهم وأئمة مهديين وأولياء صالحين وغيرهم أن يكون لهم ذلك قبل أو بعد موتهم.
لو كنت ممن يُسمع صوته أو يؤخذ برأيه لطلبت من كل الخطباء والوعاظ التطرق لموضوع الشركيات على الأقل مرة في كل شهر أو شهرين نظرا لخطورته البالغة على العقيدة وعلى الوعي الجماعي. يحسبه الكثير من الناس هينا ولكن الشرك بكل أشكاله الخرافية عند الله عظيم، بل ولعله من أهم أسباب البلايا والإنحطاط.
فضلا عن كونها تعويقا للإستفاقة والإدراك وتسويقا للشعوذة والإشراك، من المرجح كذلك أن تكون الخرافات هي التي تؤسس لدى البعض لثقافة الخنوع والإستغباء والإنصياع والتطبيل للمفسدين وتمجيدهم كأبطال.
أ.د. عبد الحميد شريف
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله