قد يجد الإنسان في هذا التشخيص حرجا ومساسا بمقامه ككبير الضيوف العابرين، لكن لا الشمس ينبغي لها أن تكتم الشهادة ولا القمر حاجِبُ الحقيقة. بكل صراحة ودون مجاملة إن الكون كله يشهد أن كوكب الأرض يتنفس الصعداء.
صُوَر عديدة من الفضاء الخارجي ألتُقِطت بواسطة أقمار صناعية تؤكد بوضوح التراجع الكبير في نسبة التلوث في الصين وفي إيطاليا وغيرهما بمستويات غير مسبوقة بلغت 40% في بعض المناطق. والتقديرات الأولية تؤكد أن أعداد الأرواح البشرية التي أنقذها تراجع التلوث تفوق ما حصده فيروس الكورونا، ناهيك عن توقف الإقتتال في ليبيا واليمن وسوريا وأفغانستان وتراجع الإجرام ضد المسلمين في الصين والهند وفلسطين وغيرها.
أما بالنسبة للكائنات الأخرى من حيوانات وحشرات ونبات وغيرها فلا يعلم مدى انتعاشها إلا خالقها. مياه البحر في البندقية استعادت صفاءها ولونها الأزرق وأصبح السكان يرون لأول مرة أنواعا من السمك قيل لهم أنها غادرت المكان أوانقرضت بدون رجعة. وحتى الدلافين عادوا فرحين راقصين إلى سواحل سردينيا ومدينة كاجلياري. وما هذه إلا عينات قليلة من ابتهاج الحياة البيولوجية بعد تعطيل قسري وجيز لنشاط الإنسان. نشاط وقع رهينة التنافس الشرس بدون رحمة حتى صار مُضرا للحرث والنسل أكثر مما ينفع. ولكن بقدرة قدير كلما عجز الترغيب على إيقاف الفساد برزت ملامح التخويف من حيث لا تُحتسب “وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا”. ومن مقاصد مرحلة الترهيب والتحذير توسيع دائرة الإعتبار والندم والتراجع “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”.
من المُرجح والمأمول أن لا يطول هذا العُسر وهذا الحجر القسري، ولكن يُرجى أن تُعمَّر الدروس في الأذهان. ونأمل أن يكون هناك فاصل ما قبل الكورونا وما بعده. وحتى التكتلات الجيوسياسة والعلاقات الدولية قد تتأثر وتتغير بعد هذا التاريخ. اكتشفت إيطاليا، مهد الحضارة الغربية ومعقل عاصمة النصرانية، كم هي وحيدة لما استيقضت وهي في حاجة ماسة لمساعدة حلفائها المزعومين، بل إن المساعدات المصيرية التي أرسلتها الصين لها تم الإستيلاء عليها في جمهورية التشيك.
فزغ الناس من هذا الزائر الخفي حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وأصبح المرء يفِر من حليفه وأخيه، وليس غريبا أن يُستثنى من هذا الهول قطاع غزة المحاصر والمنكوب، وليس غريبا كذلك أن ينوب سكان غزة المرابطون عن غيرهم في صلاة الجمعة بكل سكينة، داعين الله أن يرفع هذا البلاء والوباء عن العالم الذي حاصرهم لمدة 14 سنة.
من جهة أخرى، في مثل هذه الأزمات يتنافس الراسخون في علم المؤامرات بنظريات عديدة يتداخل ويتواطأ فيها العلم والخبث والخيال والغباء، وتنجر العقول الضيقة وراء هذه الفرضيات الغريبة بدون دليل.
ما من مؤامرة خبيثة إلا وتخضع لمنطق خفي، وفي غياب عناصر الترجيح فالأصل الإكتفاء بالشهادة بالمعلوم الضئيل وبالإقرار “الله أعلم – وما يعلم جنودَ ربك إلا هو”. وفي حال تغليب طرح المؤامرة فعلى الأقل يُرجى أن لا ينجر المرء وراء العجز الفكري الذي لا يجد منطقا خفيا إلا في اللامنطق، مثل الزعم التلقائي أن الصين وإيطاليا هما وراء إنتاج فيروس الكورونا. سواء كانت الأحداث طبيعية أو مكائد خبيثة بفعل فاعل أو ناتجة بدون قصد عن الفساد، تبقى المصائب الدنيوية كلها بلاء وابتلاء وعذاب أدنى، رحمة لمن يتعظ رجاءً في الوعد ومخافة من الوعيد “وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”.