رغم الجدل القائم حول موضوع العقل والنقل، والذي لا يخلو بالتأكيد من التجاذب، إلا أنه لا توجد طائفة أو جماعة إسلامية تلغي إحدى الركيزتين كليا، حتى وإن زعمت ذلك أو اتُّهِمت به. الإختلاف يتمحْور خاصة حول مفهوم الوسطية ومدى توظيف البصيرة والعقلانية في التقليد والتجديد.
لا العقل يستقيم بدون هداية النقل، ولا النقل يتجلى بدون إنارة العقل. وهذا ما يُجمِع عليه حكماء العقل السوي والنقل الصحيح. لولا النقل المتواتر للسُّنة النبوية لما عرف المسلمون كيف يؤدون عباداتهم. والعقل الإيماني السوي مُكلَّف بالقيام بوظائفه دون التمرد على حدود صلاحياته التي هو أدرى بها. لا دخل للعقل في العبادات والروحانيات والغيبيات، القائمة أساسا على النص والنقل، وكذلك لا خنوع له ولا انصياع وراء الخرافات والأساطير مهما عَمَّرت واستقطبت من عاطفة.
العقل هو أساس التكليف والإستخلاف الذي يُميِّز الإنسان عن سائر المخلوقات، فلا يمكن انتقاصه واعتباره مجرد وعاء يصلح فقط للإستقبال والتخزين مثل الذاكرة، مع تفويض رجعي للمسؤلية. العقل مُحرك مُنتج للفكر والمعرفة ومصباح مُنير يوَجِّهه المرء حيث يشاء في إتجاه صحيح أو زائغ حسب إيمانه أو ضلالته. وعدالة الخالق، القائمة رغم التفاوت والفرقات بين البشر، قضت أن لا يكون العقل هو المفتاح للإيمان أو للكفر.
العقل نعمة بشرية حصرية ولكنه ككل وسيلة يكون نافعا في الهداية وضارا في الضلالة. وبما أن الإسلام لا يتعارض مع العلم والمنطق، فلا خوف على العقل الإيماني من التأمل والتفكير.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله : “أنا لا أخشى على الإنسان الذي يُفكِّر وإن ضل، لأنه سيعود إلى الحق، ولكني أخشى على الإنسان الذي لا يُفكر وإن إهتدى، لأنه سيكون كالقشة في مهب الريح”
الفكر الإيماني المُحَصَّن روحيا لا يقود أبدا إلى الإلحاد كما يظن البعض :”إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”. وهل يصبح الإنسان عالما بالإعتماد على النقل والتقليد فقط ؟
يقول ألبرت أينشتاين : “التعليم هو ليس تعلم الحقائق فقط، إنما هو تدريب العقل على التفكير”. العقل المفكر والمتدبر يقود لإيمان أمتن وأدوم من الإيمان الموروث تقليديا وعاطفيا.
نعمة العقل تجمع البشر، والقراءات والتأويلات تُفرقهم، ومن الطبيعي إذًا أن تكون الإجتهادات مختلفة والشورى واجبة. إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ برأي أصحابه في كثير من الأمور، بما في ذلك إعداد العدة والخطة في الغزوات، فلا يمكن لدور العقل إلا أن يتعزز بعد انقطاع الوحي السماوي.
بدون تغذية روحية متواصلة والتزام منضبط بالعبادات وتواضع صادق لله، قد يُعجَب شخص بفكره ويزيغ بغروره عن الجادة، وقد يُنكِر آخر على عقول الغير إستيعاب ما ليس في متناوله. التمرد على العقل منبوذ إفراطا وتفريطا. سيُسأل الإنسان حتما عن تجاوز حدود العقل، ولكنه سيُسأل كذلك عن التقصير في حقوق وواجبات هذه النعمة.
يقول سقراط الحكيم عن فاقدي العقل المتوازن: “إن كان ضيوفي عقلاء فعلى المائده مايكفيهم، وإن لم يكونوا عقلاء فعلى المائده أكثر مما يستحقون”.
علماء كبار آخرون عبر التاريخ أدركوا أهمية احترام وتقدير دور العقل وحُدوده مع وجوب تكليفه وتقييده في أداء وظائفه:
“إن أروع إنجاز للعقل هو أن ندرك أن هناك حدود للعقل”(بليز باسكال)
“بدأت أُدرِك أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان تحتوي على أنقى ينابيع الحكمة البشرية، وأنه لا يجوز لي أن أرفضها لمجرد تمرد العقل عليها، فهي وحدها الكفيلة بحل قضايا الحياة”(ليون تولستوي)
“إنتهاء عصر الوحي هو إبتداء عصر العقل”(محمد الغزالي)
والإنتقال لعصر العقل لا يعني أبدا إلغاء النقل بل هو توظيف أكثر لنعمة العقل التنويرية لمواكبة سُنة التغيير والتجديد الحتمية دون التمرد على الثوابت.
لا ينكر عاقل وجود تلوث نفسي وداء إنسلاخي أصاب بعض النخب التي أصبح همها الرئيسي هو التمرد والنيل من الإسلام من باب العقلانية الفاقدة للروح. لكن سرعان ما ينكشف في عيون العارفين نشوز هؤلاء ويسهل إبطال حججهم، ولا يخدعون في النهاية إلا أنفسهم. ولكن مع الأسف هناك من يتخذ من هذه الفيئة ذريعة، إما بسبب العجز عن التمييز أوبتعمد الخلط، للتنديد بكل محاولات الإجتهاد، مما جعل بعض العقول المتواضعة تسمح لنفسها بالتطاول على أهل العلم وأحيانا بالنيل من لحوم علماء أجلاء، والله المستعان.
كفى المسلمين تضييقا لآفاق الفكر باسم التصدي للزندقة وكفاهم إنسلاخا باسم العصرنة. العقل لا يعني التمرد والتبديل (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ). والنقل لا يعني الخنوع للتاريخ والتفويض (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ). بل هو تكليف متجدد بالعمل بالتنزيل بمسؤولية كاملة ومكاسب مستقلة (تِلْكَ أُمَّة قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
الوسطية تقتضي العمل التكاملي روحيا بالعقل والنقل، وتجنب الإفراط في التعويل على العقل دون الرجوع للمنقول، وكذلك تجنب الركون والتفريط في العقل مع الإتكال على التراث والتقليد بدون تدبر وتمييز.
إجتهاد الأولين في تأسيس مبادئ الفقه وتطهير السُّنة النبوية لا يُسقِط التكليف على اللاحقين، وسيظل العقل الإيماني مُكلَّف كأداة للوثوق بصحة ورود النقل وأداة للفهم المتجدد لمضمونه ودلالته.
لا يمكن للأفكار النهضوية أن تنتصر على الأفكار الميتة خنوعا وتقاعسا والأفكار المميتة انحرافا وانسلاخا إلا بتعاضد تثبيت النقل الصحيح وإبداع العقل السوي.
ومهما حصل من إختلاف في الموضوع ومهما اطمأنت جماعة بأنها هي الفرقة الناجية، فحسن الظن بغيرها لا يضر بمكانتها، وتبقى الأخوة في الدين قائمة على النصيحة والتناصح والإقناع بالتي هي أحسن.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك
اللهم يا من بنعمته تتم الصالحات احفظ لنا عقولنا وسائر النعم، وادفع عنا البلايا وسائر النقم