عبد الحميد شريف – بروفيسور في الهندسة المدنية
“فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”. في إطار هذا التوجيه القرآني يندرج هذا التحليل بطابع إستفساري حول موضوع جدلي تقليدي بقي محافظا على كل تداعياته.
المرتد هو شخص يتخلى عن دينه علنية، وإذا كان الأمر مرتبطا ضمنيا بحرية المعتقد فإن مفاهيم أخرى واردة لأن عبارة الردة استُعملت أثناء حروب مقدسة وهي تعني التمرد والخيانة. وحتى في زمن السِّلم قد نجد متمرِّدين يحتفون بتحرُّرهم بطرق استفزازية وحتى عدائية (كمال داود وأمثاله). ولكن بصفة عامة مفهوم الردة الفكرية مرتبط بشخص ملتزم بباقي مسؤولياته الإجتماعية والثقافية.
التيار السائد في الإسلام منذ قرون يُقِر بحرية أولية في المعتقد ولكنه يمنع التراجع ويحكم بقتل المرتد بعد إستتابة تُقدَّر غالبا بثلاثة أيام. الإلتباس الهام بين التراجع الفكري البحت والخيانة السياسية أو العسكرية لم يلق اهتماما كافيا. يجدر التوضيح أن تنفيذ هذه الفتوى نادر جدا وقد يكون غير مسبوق.
هذا الحكم يصطدم مع آيات قرآنية كثيرة تقِرُّ بوضوح بحرية المعتقد.”لآ إكراه في الدين – لكم دينكم ولي دين – من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر – أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؟” آيات طويلة أخرى تصف أشخاص مذبذبين بين الإيمان والكفر قبل أن يستقر الإلحاد في قلوبهم. في كل الحالات تكون العقوبة شديدة ولكنها في الآخرة. لا توجد أي إشارة لعقوبة دنيوية. حد قتل المرتد يرتكز أساسا على حديث واحد للرسول صلى الله علية وسلم في صحيح البخاري : “من بدَّل دينه فاقتلوه”
هذا الحديث لم يرِد في صحيح مسلم وفي التأويل الذي حظي به يتناقض مع باقي السُّنة النبوية وسيرة الرسول الممتدة لثلاثة وعشرين سنة. ألم يقبل هذا الأخير في صُلح الحديبية ورغم معارضة أصحابه السماح للمقبِلين الجدد على الإسلام بتغيير أراءهم بل حتى بتغيير الصف والعودة إلى قريش؟ إذا اعتبرنا أن هذا القرار يهدف لحماية دين جديد غير مُتمكِّن بالقدر الكافي فكيف نُفسِّر أن في أعز سلطانه في المدينة المنورة لم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم بمعاقبة المنافقين المكشوفين بالوحي بل ورفَض حتى فضحهم وكشف أسماءهم؟ سُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم تشمل خاصة سيرته الفعلية بأعماله وتوجيهاته المتكررة والتي لا تدع مجالا واسعا للتأويلات الغريبة.
مِحنة الردة الكبرى ابتُلي بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من خلال تمرد جماعي بقيادة رؤساء بعض القبائل يهدد مصير الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتمكَّن الصديق بصرامة فاجأت حتى عمر بن الخطاب بردع ذلك التمرد. وقد يكون لهذه الصفحة المجيدة وتسميتها بحرب الردة أثر كبير في ترسيخ التشدد ضد التراجع الفكري والردة العقدية.
قليل ما يُدرَج موضوع الردة الحساس في النقاشات العامة ولكن هذا الإحتراز أصبح مُضرا وكثيرون من صاروا يتهجمون على الإسلام من هذا الباب معتبرين الحكم بمثابة هفوة استراتيجية. وهؤلاء ليسوا حتما من أكبر أعداء الإسلام بل قد تُمثِّل هذه الفتوى سلاحا ثمينا لدى خبراء التنوير الإستراتيجي في الغرب، وهو سلاح يستوجب بالنسبة إليهم المحفاظة عليه لمواصلة إقناع الضمائر الحية لكثير من النخب لتأييد الظلم ضد المسلمين وتدعيم الصهيونية والأنظمة القمعية والشمولية في العالم الإسلامي.
والغريب في الأمر أن الحرس القديم (والجد محروس) في العالم الإسلامي يتهم الذين يتحفظون على هذا الحكم بأنهم متأثرين بالثقافة الغربية وأذنابها باسم حقوق الإنسان.لا شك أن هناك نخب لا ترى مخرجا إلا في منهج التوَدُّد معتبرين تنازلاتهم الدينية ضئيلة وفي نفس الوقت ضرورية وكافية لتقليص قبضة العالم المسيحي اليهودي. ورغم أن تنصلاتهم تُقابل بتشجيع محتشم وبطلب قوي للمزيد، فإن هؤلاء لا ييأسون من حصد الرضى الكامل ولا يُتوجون به إلا بعد الإنسلاخ التام. وبين هذه الفيئة وتلك المتشبتة بالنظام المحافظ السائد تتخبط نخب الوسطية وتعجز عن إسماع صوتها ويتهمها كل طرف بالعمالة للطرف الآخر.
حجج المدافعين عن حد الردة
الخروج من الإسلام أمر خطير جدا لا جدال فيه وكل مسلم يفضل الموت على ذلك، ولكن هذا موضوع آخر. الأمر يتعلق هنا بالحرية التي منحها الخالق للبشر، وعدم التمييز بين الموضوعين ما هو إلا عجز فكري ولا جدوى في عرضه كدليل إيمان قوي أو غيرَة مميزة على الدين.
لننظر في حجة المؤيدين لحد الردة. النقاط السبع التالية هي لشخصية بارزة وهو الشيخ صالح الفوزان (1) حفظه الله.
1/ “حدُّ الردة ثابت بإجماع الفقهاء”
حتى إذا وافق أغلب العلماء على هذا الحكم فلا يمكن الزعم أن هناك إجماعا، وأشهر المعارضين الأوائل هما إبراهيم النَّخَعي (47-96 هـ) وسفيان الثوري (97-161 هـ).
“أتستفتوني وفيكم إبراهيم ؟” هكذا قال سعيد بن جبير مستنكِرا طلب أهل الكوفة إفتائهم، تقديرا للنخعي الذي وصفه الإمام أحمد بن حنبل “بالذكي الحافظ وصاحب سُنّة” والذي كان يروي الحديث مع شرح المعاني بشهادة عبد الله بن عون (2). عاش مُختف من الحَجّاج ويوم وفاته قال عنه عامر الشعبي :”ما ترك أحدًا أعلم منه أو أفقه منه لا في البصرة ولا في الكوفة ولا في الحجاز ولا في الشام”. إبراهيم النخعي كان يرى أن المرتد لا يُقتل بل يُستتاب إلى أن يتوب أو حتى يموت.
ونفس الحكم اعتمده سفيان الثوري (97-161 هـ) الذي كان متحفظا على حديث حد الردة. سفيان الثوري مؤسس لمذهب معروف باسمه لا زال معتمدا في خراسان(3). جده شهد موقعة الجمل في صفوف جيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال الذهبي عن الثوري : “هو شيخ الإسلام، الإمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه”. وقال عنه بشر الحافي: “سفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما”. وقال النسائي عنه : “هو أجلُّ من أن يُقال فيه ثقة”. وقال عبد الله بن المبارك : “كتبت عن ألف ومائة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان”. بعد وفاة أبي حنيفة في سجن الخليفة المنصور لرفضه تولي القضاء، سأل المنصور عمن يلي أمر القضاء، فأشاروا بسفيان الثوري ووصفوه بأعلم أهل الأرض، فأرسل في طلبه وهو يتهرّب حتى اضطر إلى الخروج من الكوفة إلى مكة، فأرسل المنصور في الأقاليم بمنادٍ يقول : “من جاء بسفيان الثوري فله عشرة آلاف”، ففرَّ الثوري وظلّ يتنقّل بين البلاد متخفيًا حتى وفاته.
يصعب جدا تفهم تجاهل البعض، مثل الشيخ الفوزان، لهتين القامتين إبراهيم النخعي وسفيان الثوري، فقط للإبقاء على الإجماع المزعوم. إنه لأمر لا يقِلُّ نجاعة ولا غرابة أن يُصنع الإجماع بإقصاء المخالفين من الحِساب.
ويحاول البعض الآخر إبطال أو تحييد قول العالِمَين، والتبرير العجيب المتداول هو أن النخعي والثوري كانا يقصدان المرتدين الذين يقضون حياتهم في التأرجح بين الردة والتوبة في الآجال المحددة (4،5). سنعود لهذا لاحقا.
2/ “قتل المرتد فيه حفظ للعقيدة من العبث، لأن الشريعة تحفظ الضرورات الخمس – العقيدة والنفس والعرض والنسل والمال والأمن”.
يُلاحظ أن القائمة (1) تحصي سِتة عناصر للضروريات الخمسة مع غياب لافت لعنصر العقل، بينما مواقع أخرى للشيخ الفوزان تسردها كالتالي :الدين والنفس والعقل والعرض (النسل) والمال. حكم الردة قد يحفظ الدين فعلا، ولكن بقتل نفس وليس بحفظها، ناهيك عن الذين سيلجأون إلى النفاق لإنقاذ حياتهم. وتعارض الحد مع القرآن وحرية الضمير لا يُرجى منه أي إمداد لمناعة العقل.
3/ “أما كون حدِّ الردة لم يُذكر في القرآن فقد قال تعالى : “وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا” وقد أمر الرسول بقتل من بدَّل دينه فوجب قتله”.
كثيرا ما تُستعمل هذه الآية لصد أبواب الإستعانة بالعقل.القرآن الكريم لم يلتزم الحياد أو الصمت بل يمنع كل إكراه في الدين ويُقر بحرية الضمير والفكر تبجيلا للعقل الذي يُميز الإنسان ويؤهله للإستخلاف. وحديث الردة يتنافى كذلك مع السُنة العملية للرسول صلى الله عليه وسلم.
4/ “أما قوله تعالى : “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” معناه أنه لا يُكرَه أحدٌ على الدخول في الإسلام. وحدُّ الردة عقوبة على الخروج من الإسلام وليست لأجل الدخول فيه. لأن الذي دخل في الإسلام قد اعترف بأنه حق ثم تركه عن علم، فهو متلاعب بالدين فاستحق القتل على ذلك حماية للعقيدة من العبث”
حتى وإن كان مفهوم الحرية بدون تغيير الرأي صعب الإستيعاب وحتى إذا سلَّمنا بهذا التأويل للآية لمنع تعارضها مع الحديث بزعم أن العدول غير مشمول في الآية، فلماذا يُسكت عن الآيات الأكثر وضوحا حول الردة ؟ سنخوض أكثر في هذه النقطة.
5/ “حرية الرأي تكون فيما للرأي فيه مجال ولا مجال للرأي في أمور العقيدة وأمور الدين، لأن هذه الأشياء مبناها على الإيمان والتسليم والإنقياد”
نعم إن معارضة الفتوى تُعزز حرية الضمير وحرية الرأي ولكنها في نفس الوقت أكثر إلتزاما بالقرآن والسُنة باستثناء حديث واحد فقط.
6/ “حدُّ الردة حدٌّ من حدود الله لا يجوز تعطيله لأي اعتبار، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “ويم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها”، وحدُّ الردة أعظم من حدِّ السرقة. والنبي صلى الله عليه وسلم منع الشفاعة في الحدود وشدَّد في ذلك”.
7/ “أما أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مرتداً فجوابه أن الرسول ترك ذلك لمانع وهو قوله صلى الله عليه وسلم : “لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه”.
يمنع صلى الله عليه وسلم الشفاعة في الحدود وسيقطع بلا مانع يد ابنته فاطمة لأبسط سرقة، ولكنه لا يقتل أصحابه حتى وإن أرتدوا وجاز فيهم حكم الردة، وذلك لمانع وهو أن يُقال أن محمدا يقتل أصحابه.
لو كان الشيخ الفوزان أمامي لما تجرأت بهذا الإعتراض على كلامه إلا إذا كنا على إنفراد، وذلك لإحترامي لشخصه وعلمه. ولكن يبدو أنهم كثيرون في الأمة من يرفض بتاتا فتح باب التقييم والمراجعة في كلام العلماء بعد الوقوع في حبهم. والإتباع الأعمى ينتهي بالإنصياع التام وبتعطيل آلية التمييز.
التمييز والإنصياع
مع احترامي للشيخ الفوزان إلا أنه على غير العادة تعليلُه لا يصل إلى القلب وإلى العقل بالطريقة المعهودة. التحفظات ليست مرتبطة بالعلم أو الصدق ولكنها تكمن في جوهر السيلوجيزم الذي يطغى عليه الحكم المُسبق. يَحدُث أن تُساعد نتيجة متوقعة على بناء البرهان المؤدي إليها، وهذا حصَل في عدة إكتشافات علمية بارزة لعِب فيها الحدس البشري دورا كبيرا، ولكن بشرط أن لا يُعتري ذلك البرهان بأي شبهة أو إنتهاك للمنطق. لمّا يتعرض العقل السليم للضبابية أو للخرقات فلا يملك إلا العودة للإبجديات.
كثيرون هم أعداء الإسلام الذين يسعون لتشويهه بمختلف الطرق، لكن حتى في الدول التي تسمح بل تشجع التطاول على الإسلام، لم نر من يتلاعب بالتناوب بين التوبة والردة لأن ذلك لن يُعرِّض للسخرية إلا من يقوم بذلك.
وإذا فرضنا أن مثل هؤلاء الساخرين يتربصون بالإسلام فهل فعلا يمكن ردعهم بالحد ؟ أفلا يضطرون فقط لإحترام أجال الإستتابة للتعاطي للعبتهم بوتيرة أسرع ؟ تبرير قتل المرتد بسبب خطر العبث بالدين غير مؤسس، وإن كانت حرية التراجع تشكل موضوعا جديرا بالتعميق، سنخوض فيه لاحقا.
ومن جهة أخرى لا يمكن بدون وجود شيء من نية الإنتقاص، القبول بهذا السيناريو (التلاعب بين التوبة والردة في الآجال) كوسيلة لدى البعض لتقزيم أو تحييد موقف النخعي والثوري. حسب هؤلاء فإن المرتد الذي يجب استتابته طول حياته هو فقط ذلك الشخص الذي يتجنب الحد بالتأرجح بين الردة والتوبة. أي أن معارضة العالِمَين النخعي والثوري لهذه الفتوى تختصر على المتلاعبين الذين يريد الشيخ الفوزان ردعهم دون جدوى. بكل صراحة هذا تأويل فيه كثير من الإنتقاص ولا يليق بمكانة العالِمَين الجليلين. ببساطة إن هذا نقص في التمييز أنتج نقصا في الإحترام !
الزلات جزء طبيعي من الضعف البشري ولكن بدون تبجيل قدرات التمييز، لا يمكن للأمة أن تتجنب ترقية متعلمين بسطاء يتقمصون منزلة العلماء، مِثل ذلك المُتكلف الأحمق الذي كذّب بكل وقاحة أمام العالم دوران الكرة الأرضية (6).
إذا تعذَّر تغيير موقف المدافعين عن حد الردة، فإن تخليهم عن حجة الإجماع تُعزز مصداقيتهم. لا يُستبعد أن يكون الإجماع الظاهري دعَّمته نشوة الفتوحات والإنتصارات، والتسلط الشمولي عوَّض ضُعف الحجة بالتخويف والتهديد. ولِوَضع حد نهائي للجدل فُرضت الرؤية المتشددة لدوافع شعبوية. وقد يكون الخوف والتهميش وراء عدم بروز المعارضين. وكذلك يتم تغييب المعارضين المعاصرين الذين في أغلبهم لا يرُدون الحديث وإنما يربطون الردة المقصودة بالخيانة السياسية والعسكرية التي يتفق الجميع على حكمها وهو القتل.
نعود للمنطقة الرمادية الهامة والمتمثلة في الحرية الأولية في المعتقد مع خيار التراجع أم لا. بالنسبة للمسلم، إن الدين عند الله الإسلام، وهو الثمرة الروحية التي تُوضِّح غاية الوجود والحقيقة المطلقة التي تتصالح بفضلها المعارف والحقائق النسبية. هل يُعقل إذًا السماح لمن أدرك هذه الحقيقة أن يتخلى عنها ؟ إنها الجزئية الوحيدة التي قد تتسلل من خلالها إعاقة حرية المعتقد. مع التسليم أن إضاعة فرد مؤمن لا رجعة فيها والخيار المتاح هو القبول بمرتد صريح وصادق أو تفضيل منافق كذاب.
إيمان المسلم يضعف ويقوى دون أن يبلغ الحد الأقصى وهو اليقين، وقد يكون المرتد لم يبلغ مستوى اللارجوع. هل يجب إذًا الفصل نهائيا أو إجراء مداولات للنظر حسب الحالات ؟ وهل فعلا توجد نقطة اللارجوع وخيرُ البشر صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه ليثبته على دينه؟ بلطفه عفانا الخالق من هذا الإبتلاء : “وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (2/217). على عكس جناية السرقة والقتل اللتين تنتهكان الحقوق المادية للغير واللتين يتعرض فاعلهما لعقوبة دنوية مفصلة في القرآن، فإن عقوبة المرتد أشد ولكنها مؤجلة للآخرة انسجاما مع حرية الضمير.
لنتصور للحظة العالم المسيحي الذي لا يقِلُّ خِبرة في تحريف كلام الله، والذي يُوجد في موقع قوة لا يقل بأسا عن موقع قريش في صُلح الحديبية، لنتصور أنه يقرر منع الردة في اتجاه خاص يسهل تنبؤه. فكم من شخص مسيحي كان ليُمنع بذلك من إعتناق الإسلام ؟
لا يمكن باسم الحقيقة، وإن كانت مُطلقة، تقييد حرية التفكير والتغيير، وإن كانت مجازفة، طالما يصل الإنسان لتلك الحقيقة بفضل ذلك الفكر الحر وذلك التراجع الحر !
الإتباع والمسؤولية
الظاهر أن هذه الفتوى تستلهم شرعيتها من التبني التاريخي المطول أكثر مما تستقيه من النصوص. تبدو فكرة مراجعة تُراث بهذا الثقل مُرعِبة إلى حد تفضيل إبعادها التام ثم إلحاق المبررات قدر المُستطاع. وهذا من شأنه إثقال الترِكة أكثر.
ألا يمكن أن نكون محبوسين في دوامة إجتماعية وثقافية مُزمنة مع تفويض رجعي للمسؤولية ؟ يُرجى تحمل هذا السؤال ضمن تحليل إستفساري صادق. الإتباع مذكور في حديث نبوي يروق لي كثيرا رغم رَدِّه من طرف الكثير : “أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم إهتديتم”. هم بشر، لم يكونوا دائما متفقين، بل دخلوا أحيانا في مواجهات، لكن أصحاب المصطفى رضوان الله عليهم وصلاته وسلامه عليه، كانوا ولا زالوا خير من يُقتدى بهم، ولكن بمسؤولية وليس بالعَمَى إلى درجة إسقاط قاعدة مُحكمة بسبب استثناء واحد.
لا يمكن تفويض المسؤوليات ولا إسقاط تداخلها، والخطأ يكون أثقل كلما بلغ صداه بعيدا. إذا كان حد الردة غير مؤسس، فإن تَبنِّيه في العصر الذهبي للإسلام لم تكن له تداعيات كبيرة. بينما إعتماده المعاصر بالإتباع المحض أكثرُ تكليفا مع امتدادات خطيرة كالجرائم باسم الردة والويلات التي يتعرض لها المسلمون. خطر الإنحراف الديني لا يختصر على الإحداث فقط. الإنصياع اللامسؤول قد يلحق بالإسلام والمسلمين أضرارا أكبر. وأوساط القابلية للإنصياع هي التي تزدهر فيها الأنظمة الشمولية المضطهدة للفكر التنويري والمشجعة للعقول الضيقة والخانعة التي قد تحكم بقتل المرتد وقد تزكي في نفس الوقت الخيانة بل وقد تقودها.
حرية الضمير والمنطق الإزدواجي
الإبتلاء والإغراء والخوف والظلم والفرح والقرح، كل ذلك من عزم الأمور، والإلتزام بالأوامر والنواهي هي وقاية وسلاح المؤمن. هذا المنطق الإيماني المُلمُّ بالحقائق الوجودية يجب تدعيمه تظامنيا بالمنطق العلمي بتوازن دون السماح لأي منهما بإقصاء الآخر. وهذا التوازن يسمح بتهذيب حرية وصلاحيات الإختيار الحر، وبتقييم موضوعي للواجبات والمسؤوليات المرتبطة بذلك.
المرتد حُرٌّ في إرتكاب أعظم جناية بإنكار خالقه مع تحمُّل المسؤولية، كما يتمسَّك المؤمن بكل حرية ومسؤولية بعقيدته حتى وإن تعرَّض لتعذيب يرغمه على النطق بالكفر : “مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (16/106).
رجوعا للطابع الإستفساري الذي قد لا يكون واضحا، فإن الهدف هو تجنب الأجوبة التقليدية التي هي بكل صراحة غير شافية، فلذا أنا أعرض هذا الإجتهاد أمام المدافعين عن حد الردة. مع استعدادي التام للتراجع دون أي حرج إذا قُدِّمت الحجة الدامغة، فأنا أرُدُّ بشدة تهمة التأثر بالغرب أو الترويج لتنازلات عقائدية.
المعارَضة لحد الردة التي أطرحها أراها أكثر إلتزاما بالقرآن والسُنّة وأكثر انسجاما مع المنطق. ولا ضير إذا اطمأن لها العقل أكثر وإذا تدعمت بفضلها حرية الفكر والضمير وحقوق الإنسان. ولا ضير إذا تخلصنا بفضلها من صورة تشويهية للإسلام ومن ذريعة للتخلي عنه أو التخوف منه أو التهجم عليه. ولا ضير إذا وجد أعداء الإسلام صعوبة أكثر لتحييد الضمير الجماعي تجاه الإعتداء على المسلمين، ووجدوا إلهاما أقل لتدعيم الأنظمة الفاسدة في ديار الإسلام.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك.
المراجع
(1) https://www.alagidah.com/vb/showthread.php?t=8907
(2) https://ar.wikipedia.org/wiki/إبراهيم_بن_يزيد_النخعي
(3) https://ar.wikipedia.org/wiki/سفيان_الثوري
(4) http://www.saaid.net/Doat/aldgithr/17.htm
(5) http://twitmail.com/email/295731848/9/معنى-قول-النخعي-عن-المرتد–يستتاب-أبدا
(6) https://www.youtube.com/watch?v=6rF3wXGqkxQ
7 تعليقات
يمكن القول بخصوص سؤال الردة و المرتد ما يلي :
القتل و القتال ليس غاية في حد ذاته ، و ليس موضوعا قائما مستقلا بذاته ، بما يعني أن القتال و القتل المشروع ، لا يكون كذلك إلا إذا كان من مقتضيات و متطلبات الحياة . و علاقة القتال و القتل بالحياة كعلاقة الهدم بعملية البناء ، أي لا مبرر لعمليات الهدم إن لم تكن ضرورة من ضرورات الحياة . و على هذا الأساس نصل إلى قاعدة : لا يكون القتال و القتل مشروعا و مبررا إلا إذا كان ضرورة من ضرورات الحياة . و كما أن الحياة هي الأصل ، فإن الموت ليس سوى مقدمة من مقدمات الحياة ، ليس إلا . و قد شرع القتال لدرء المخاطر المحدقة بهذه الحياة .
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، و أن محمدا رسول الله ، و يقيموا الصلاة ،و يوتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحق الإسلام ، و حسابهم على الله تعالى ” رواه البخاري و مسلم .
هل جوهر هذا الحديث هو القتال ؟ بمعنى : هل القتال مطلق بنص هذا الحديث ؟ و الجواب أن القتال ليس مطلقا ، مما يعني أن جوهر الحديث هو حساب الناس ، و حسابهم لا يكون بالقتال ، و الحساب يتصل بحياة الناس ، و الحياة ليست هي حياتنا الدنيا ، بل هي الحياة الباقية ، و القتال عنصر من عناصر الحياة الدنيا و معتبر بها ، و لذلك فالعبرة بالحساب و ليس بالقتال . و من رحمة الله بخلقه أن شرع القتال و جعله من مقتضيات الحياة الدنيا ، أما الحساب فعلى أساس الإيمان ، و ليس ذلك من اختصاص الإنسان ، لأن مهمة الإنسان المسلم هي تبليغ رسالة الحق تبارك و تعالى عن طريق تفعيل مبدأ الشهادة : ” و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا ” الآية ١٤٣ من سورة البقرة . و قوله تعالى : ” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله ” الآية ١١٠ من سورة آل عمران .
و قد جاء خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه وسلم مبلغا و معلما ، فدل على وحدانية الله سبحانه و تعالى و بلغ رسالة الإسلام، ثم علم الناس مسائل تصلهم بالله سبحانه و تعالى و تبلغهم مبتغاهم في الحياة الدنيا و الآخرة ، مثل الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الإحسان ، و بين لهم أن التقصير في هذه المسائل سيعرضهم للحساب ، و أن من مصلحة الإنسان الانضباط بتوجيهات الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة و السلام . أما مسألة الإيمان و الحساب فهي على الله سبحانه و تعالى ، و ليست من اختصاص ولا حكم الإنسان .
و على هذا الأساس فإن مسألة القتال الواردة في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فهي خاصة ، و الخصوصية هنا تتصل بسؤال التبليغ ، بمعنى أن الناس المستهدفين بالقتال هم الفئة التي منعت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه عليهم الرضوان من تبليغ رسالة الإسلام ، أي أولئك الذين اعترضوا عليه و حاصروه و آذوه و آذوا أصحابه الذين آمنوا برسالة التوحيد . و لذلك جاء تشريع القتال لمنع المنع ، أي دفاعا عن مسار التبليغ و حماية لمكتسبات هذا المسار . و لكي يفهم المعترضون، و هم المشركون ، و كل من يدخل تحت طائلتهم، أنه ليس من حقهم الاعتراض على الناس و منعهم من اختيار معتقدهم و كل ما يتصل بضمائرهم ، و هو من دون شك اختيار خاص بالإنسان ، و لا يشكل أي خطر أو ضرر على حياة الآخرين . و في حالة الإيمان بالله و توحيده سبحانه منفعة و أمن و أمان على الإنسان . و من هذا المنطلق بالذات كانت مسألة القتل و القتال خاصة جدا ، فقد شرع القتال لمنع منع المعترضين و كف أذاهم . فإن انتهوا و كفوا أيديهم انتهت مبررات القتال الذي شرع أساسا للدفاع عن النفس و عن الاختيار الحر من دون إكراه . و الرسول صلى الله عليه و سلم جاء مبلغا و معلما ، لم يكره أحدا على الإيمان . و لذلك كانت مسألة الإيمان من عدمها ، من البداية اختيارية ، لا جبر و لا إكراه فيها . الإنسان في ذلك مخير و حسابه على الله ، و إلا فما قيمة الإيمان ، و ما قيمة أن تكون الحياة الدنيا دار فناء و دار زوال ، و ما معنى أن يكون الموت مقدمة من مقدمات الحياة ، و ما مبرر أن تترك الأم رضيعها و صغارها و ترحل عنهم غير مختارة ؟ أليست هذه دلالة على عجز الإنسان بخصوص تحديد و ضبط دائرة الجبر و الاختيار في حياة الناس ، مختارون في جانب و مجبرون في جانب آخر ، أليس هذا دليل على عظمة الله و وحدانيته و حكمته و تفرده في سؤال الحساب المتصل بسؤال الإيمان ؟ الرسول صلى الله عليه و سلم لم يحسم سؤال القتال من باب السياسة الشرعية المتصلة بتقدير شخص الحاكم أو القائد ، و لكن الله هو الذي شرعه لرسوله و لعباده المؤمنين دفاعا عن أنفسهم و اختيارهم الحر الذي يتصل بسؤال الإيمان و مقتضياته ، و مقتضيات الحياة كذلك . واعلم كذلك أن من رحمة الله بعباده أن جعلهم غير مختارين في سؤال الموت ( زوال الدنيا و فنائها) ، و جعلهم مختارين في سؤال الإيمان بالله و برسالته ، و هذا هو الإعجاز بعينه ، و كل العالم يسبح له ، لا تقديم ولا تأخير ، سبحان الله عما يصفون . إن سؤال الإيمان بالله و برساله و كتبه يجعلنا منسجمين و متناغمين ، إلا من أبى ، في فهم آياته الدالة على تفسيرها ، بعضها بعضا ، إذ لا يعقل أن يتبادر إلى ذهن الإنسان المؤمن الموحد أن هناك تعارضا بين آيات القرآن الكريم ، و بينها بين أحاديث رسوله صلى الله عليه و سلم . مثل قوله عز وجل : ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين ” . الآية ٨ من سورة الممتحنة . و قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، و أن محمدا رسول الله ، و يقيموا الصلاة ، و يوتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحق الإسلام ، و حسابهم على الله تعالى ” رواه البخاري و مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما .
شرع الله القتال بسبب وجود خطر يتهدد المسلمين في أنفسهم و ديارهم و يمس ضمائرهم و طمأنينتهم و أمنهم و أمانهم . ألم يقم المشركون في مكة بمنع الرسول صلى الله عليه و سلم من تبليغ رسالة ربه سبحانه ، و ملاحقة أصحابه المؤمنين ، داخل مكة و خارجها ، ألم يخرجوهم من ديارهم و يجردوهم من أموالهم و أرزاقهم، ولاحقوهم داخل أرض الحبشة ؟ و لكم أن تعودوا إلى أدبيات الثورة الجزائرية ، هل كانت ثورة الجزائريين غير دفاع عن الضمير و النفس و العرض و الديار و الحق في اختيار المعتقد ؟ و الفلسطينيون كذلك في وجه الاحتلال الصهيوني الغاشم ؟ لذلك قامت الحجة و شرعية قتال المعتدين المحتلين الغاصبين .
أما مسألة الصلاة و الزكاة فهي مرتبطة بمسألة الإيمان و مقتضياته، فالذي يمنع المسلمين من اختيار معتقدهم ، يضيق عليهم في مساجدهم ، و يمنعهم من أداء مناسكهم، و يستهدفهم في أرزاقهم مصدر خيرهم و زكاتهم . و لذلك وجب قتال المعتدين ، حتى يتمكن المؤمنون الموحدون من ممارسة عباداتهم كلها دون قيد . و هذا من عظمة الإسلام ، فلم يكن الرسول صلى الله عليه و سلم أن يجبر الناس على الإيمان و الصلاة و الزكاة و إكراههم على ذلك . لذلك فإن معنى ” الناس ” الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي الفئة المعارضة المانعة المعتدية المقاتلة للمسلمين و المخرجة لهم من ديارهم . فإذا انتهت الفئة المعتدية عن غيها و تركت المؤمنين لحالهم يبلغون رسالة ربهم و يحيون حياتهم آمنين يؤدون مناسكهم بكل حرية ، انتفت مبررات القتال ، لذلك قال صلى الله عليه و سلم : ” …فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحق الإسلام … ” . أي أن القتل بعد هذا لا يكون إلا بحق الإسلام ، و هو القصاص المشروع في الإسلام ، مثل قتل النفس بغير حق . قال تعالى : ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ” . الآية ١٧ من سورة الإسراء . فالقتل في هذه الحالة هو بحق الإسلام ، شرعه الله لأنه من مقتضيات الحياة ، القصاص فيه حياة للناس ، و قتل النفس من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله . و حرمة النفس الإنسانية في الإسلام لا غبار عليها . يقول الله عز وجل : ” من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم أن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ” . الآية ٣٢ من سورة المائدة . و قوله سبحانه : ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق “. الآية ٣٣ من سورة الإسراء . و الحق هو ما شرعه الله ، و لا مجال للإجتهاد في سؤال القتل .
وانطلاقا من أنه لا اعتراض بين ما شرعه الله ، و ما جاء في أحاديث رسوله صلى الله عليه و على أله و سلم ، يمكن مقاربة سؤال الردة كذلك .
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ، الثيب الزاني ، و النفس بالنفس ، و التارك لدينه المفارق للجماعة ” . رواه البخاري و مسلم .
مسألة التارك لدينه المفارق للجماعة تناولها الفقهاء تحت عنوان الردة ، و التارك لدينه هو الذي بدل دينه ، و الدين هو الإسلام . أي من كان مسلما ثم ترك الإسلام . لكن السؤال : لماذا اقترنت في الحديث النبوي الشريف عبارة ( التارك لدينه ) بعبارة ( المفارق للجماعة ) ؟ الربط بين العبارتين لم يأت اعتباطا . مجرد تغيير الدين ، لم تكن لتعرض صاحبها للقتل ، بمعنى أن ترك الدين ، لم يكن ضمن الحدود التي شرعها الإسلام كحد السرقة أو حد الزنا أو حد قتل النفس بالنفس . و عليه فقد جاءت عبارة ” المفارق للجماعة ” متصلة و تالية لعبارة ” التارك لدينه ” . كما أن ( المفارق للجماعة ) وحدها لا تعني ( التارك لدينه ) ، و أيضا ( المفارق للجماعة ) وحدها لا تعني الذي غير وطنه ، كأن يأخذ أو يحصل على جنسية أخرى ، و يغادر وطنه . و على هذا الأساس فإن المفارق للجماعة ، يكون من دون ريب قد سلك سلوكا أو اقترف فعلا يضر بالجماعة ، أي يضر بالوطن ، كالتجسس لصالح العدو أو كشف عورة المسلمين ، فهذه و مثيلاتها تجعل من المرء مفارقا للجماعة ، أي سببا في التبرء منه ، و حكمه من دون ريب هو القتل . و عليه إذا اقترن جرم أو كبيرة مفارقة الجماعة بترك الدين فالحكم هو القتل بحق الإسلام . و على هذا الأساس فالمرتد هو المفارق للجماعة و إن لم يجاهر بترك الدين، فإن ترك دينه و ثبتت مفارقته للجماعة فهو المرتد عينه .
و هذا ، من دون ريب ، يساعدنا على فهم و إدراك أبعاد الحديث النبوي الشريف الذي رواه ابن عباس رضي الله عنهما ، قال ،قال رسول الله صلى الله عليه و على آله و سلم : ” من بدل دينه فاقتلوه ” . رواه البخاري . الحديث ليس فيه ما يتعارض مع الحديث السابق . عبارة ” فاقتلوه ” حاسمة ، و هي خاصة ، بمعنى تتصل بسياق السياسة الشرعية للحاكم أو القائد لمعالجة حالة خاصة ، قائمة و واقعة لا تحتمل الانتظار و التأخير . و معنى الحديث يتحدد ضمن سياقه ، و البحث عن السياق يقتضي توقع حالة أو مناسبة ، أي مناسبة الحديث ، أو الحالة التي اختصها صلى الله عليه و سلم بقوله . و إذا جاز القول بأن الحالة أو المناسبة تتصل بموقف اليهود الذين أرادوا التأثير على وحدة المسلمين و لحمتهم حول رسول الله صلى الله عليه و سلم ، أو بحالة مثلها ، فإن حديث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يدخل ضمن ما أطلق عليه العلماء موضوع السياسة الشرعية ، أو أحكام الإمامة ، و ليس ضمن أحكام الحدود التي شرعها الله و أمر رسوله تبليغها كما هي ، كحد السرقة مثلا .
و إذا سلمنا بأن ما جاء في الحديث يدخل ضمن حدود السياسة الشرعية و أحكام الإمامة، جاز القول أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم هدف إلى معالجة حالة خاصة اقتضت رد خطر قائم يتهدد وحدة المسلمين و سلامتهم .
و الآية القرآنية وفق ما ذهب إليه بعض المفسرين ،فيما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن الطائفة المذكورة ضمن أهل الكتاب هي طائفة من اليهود ، قالوا لبعضهم : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، و إذا كان آخره فصلوا صلاتكم ، لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب ، و هم أعلم منا ، لعلهم ينقلبون عن دينهم ، و لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم .
و قيل بأن أحبار اليهود هم الذين دبروا هذه المكيدة ، و كان عرضهم زعزعة الجماعة المؤمنة ، و زرع بذور الفرقة داخلها .
فإذا جاز القول أن الحديث قيل لهذا السبب لقطع تدبير اليهود و حماية المجتمع الإسلامي أو جماعة المؤمنين ، تكون المسألة واضحة مز زاوية السياسة الشرعية . و من العلماء الذين أيدوا هذا الفهم و هذا التفسير ، العلامة الشيخ الأستاذ محمد سعيد رمضان البوطي ، و الشيخ الدكتور طه جابر العلواني رحمهما الله .
أما الآية القرأنية التي ذكر الله سبحانه طائفة أهل الكتاب ، هي قوله سبحانه : ” و قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ” . الآية ٧٢ من سورة آل عمران .
و التعارض الظاهر هنا ، ليس بين ما ورد في القرأن و أحاديث الرسول صلى الله عليه و على آله و سلم ، و لكن في فهم المسلمين للنصوص .
مما سبق ذكره ، تبين أن عبارة ” المفارق للجماعة ” ، لا تضاهيها عبارة من حيث التعبير و الدقة . و إذا قابلناها بعبارة ” الخيانة العظمى ” وجدنا الأولى أبعد روحا ، و أدل أخلاقا ، و أقرب تفسيرا ، إلى ما يمكن أن نتفق عليه بخصوص الأفعال التي تصل عقوبتها إلى القتل أو الإعدام . و لكم أن تتأملوا في مدلول الجماعة ، الذي كان يعني في الصدر الأول ، جماعة المسلمين أو المجتمع الإسلامي في عهد خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه و على آله و سلم ، مرورا إلى عهد الخلفاء الراشدين من بعده ، إلى غاية معركة صفين، حيث بات من الصعب الحفاظ على كيان الجماعة التي قصدها صلى الله عليه وسلم في قوله : ” المفارق للجماعة “.
و من دون ريب فإن المعنى ينصب اليوم على الجماعة الوطنية ، أو كيان المجتمع السياسي المعبر عنه بالدولة ، ولا يختلف اثنان بخصوص ذلك .
و العبرة بموقف الفرد ، أو الشخص الطبيعي . و ما يقال بخصوص الواحد ، يمكن أن ينطبق على مجموعة من الأشخاص ، يثبت في حقهم معنى و مدلول ” المفارقة ” التي لا تعني ، بأي حال ، مجرد تغيير الموطن أو الهجرة بعيدا عن الكيان السياسي للجماعة ، لسبب أو لآخر ، من دون التسبب في خطر أو ضرر يمكن أن يلحق بالجماعة الوطنية .
المفارقة ، من دون ريب ، هي موقف من الجماعة باتجاه شخص طبيعي ، أو مجموعة من الأشخاص الطبيعيين ، أو حتى شخص معنوي تابع للدولة ، صدر من جهتهم سلوك أو فعل ، بات يشكل خطرا على كيان الجماعة أو الدولة ، و لم يعد ممكنا التغاضي أو المسامحة ، و هو الموقف المعبر عنه بالمفارقة . و هي الحالة التي لم يعد ممكنا القبول بالوضع القانوني السابق للمتسببين في ذلك،مما يحتم قيام وضع جديد ، يجب أن ينص عليه القانون صراحة، و هو عقوبة الإعدام التي لا طعن ولا نقض بصددها .
و إذا راجعنا مفهوم الخيانة العظمى ، وجدنا العبارة فضفاضة ، مختلف بصددها ، إذ لا يوجد اتفاق على تعريفها .
و في الغالب يكون الحامل للسلاح ضد وطنه ، أو متعاون مع جهة أجنبية معادية ، أو بصدد التجسس على وطنه ، أو كشف أسرار ، أو أي سلوك أو فعل يساعد العدو أو المعتدي ، هو خائن للوطن ، مفارق للجماعة ، يجب مجابهته بالعقوبة المنصوص عليها قانونا ، ألا وهي عقوبة الإعدام .
و الخلاصة هي أن لا تعارض بين نصوص القرآن ، و ما ورد في الأحاديث النبوية ، بخصوص عقوبة التارك لدينه المفارق للجماعة . و لا بد أن نراعي ذلك في كل مقاربة حقوقية أو دستورية بخصوص موضوع الحرية . سواء الحريات الشخصية أو المدنية و السياسية و الاقتصادية ، مظاهرها و تفرعاتها ، من حرية رأي و تعبير ، و تنقل و فن و إبداع ، و ما اتصل بموضوع الحقوق و الواجبات .
بوركت الأستاذ بشير على الإظافة
بلورة مدلول التارك لدينه :
حينما نتأمل مضمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، و أن محمدا رسول الله ، و يقيموا الصلاة ، و يوتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحق الإسلام ، و حسابهم على الله تعالى” .
سبق القول أن المقصود بالناس هم المعترضون على رسول الله و أصحابه ، أولئك الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم و أخذوا أموالهم ولاحقوهم و آذوهم، و منعوهم من أداء واجباتهم الدينية ، و ضيقوا عليهم كثيرا . و كلها أفعال المشركين .
هل هناك من يخالف هذا المنحى ؟
و على هذا الأساس شرع الله للمسلمين قتال المشركين لرد أذاهم، و هو الذي أقدم عليه المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غاية فتح مكة ، و صار المسلمون قوة يخشاها المشرك، و المنافق على السواء . بعدها لم يبق من مبرر للقتال ، و هو الذي استقر عليه الوضع ، فلم يجبر رسول الله أحدا على اعتناق الإسلام ، أو الصلاة ، أو الزكاة .
هل هناك من يخالف هذا المنحى ؟
فإذا اتفقنا بصدد مشروعية القتال ، و الحاجة إليه ، من عدمها ، وجب أن نسأل كذلك : هل ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من بعده، قاتلوا تارك الصلاة ، أو الممتنع عن أداء فريضة الزكاة ؟ كان أعدموا شخصا لذات السبب ؟
يمكن أن يتساءل البعض بخصوص حروب الردة ، زمن الخليفة أبي بكر رضي الله عنه . من يقول بخلاف أن الذي حدث زمن أبي بكر الصديق من امتناع قبائل محددة عن دفع الزكاة هو حالة خاصة قائمة بذاتها ، شكلت في وقتها خطرا على كيان الأمة الإسلامية ، و كان يمكن أن يصل الأمر إلى استفحال الخطر ، فيتحول المرتدون إلى كيان مستقل شبيه بكيان المشركين الاجتماعي و السياسي قبل ذلك في مكة ، فيتجدد ذات الخطر ، و ذات المنع بخصوص كيان المسلمين اجتماعيا و سياسيا ، فيحرم المؤمنون من جديد من الحياة في أمن ، و من أداء مناسكهم التعبدية في أمان ، ناهيك عن نشر نور الإسلام . لهذا السبب أصر سيدنا أبو بكر على حربهم من باب استباق درء الخطر . لكن هل ثبت بعد ذلك مقاتلة تارك الصلاة أو المتقاعس التارك لأداء فريضة الزكاة داخل حدود المجتمع المسلم ؟
هل هناك من يخالف هذا المنحى ؟
أما بخصوص التارك لدينه ، الذي يمكن أن يتستر ، و يترك الصلاة ، و باقي العبادات، ولا يجهر بذلك ، هل يجوز تسميته بالتارك لدينه . كما يمكن أن يسميه آخرون بالمنافق ، أو العاصي .
لكن ماذا ، إذا جاهر المرء بذلك ، أي أعلن تخليه أو خروجه من الإسلام ، هل هو تارك لدينه ؟ نعم بكل تأكيد . لكن ما الفرق بينه و بين الذي لم يجهر ؟ و هل يجوز قتل المجاهر؟ إذا كان الجواب “نعم”، ما قيمة قوله صلى الله عليه و سلم : إلا بحق الإسلام ثم و حسابه على الله .
و السؤال الوجيه : هل يستقيم أمر قتل التارك لدينه من دون مفارقة الجماعة ؟ و هل يكون الجهر بالدين من طرف شخص معين سوى استعداده أو إقدامه على فعل يجعله مفارقا للجماعة ؟
من دون ريب فقد صارت المسألة واضحة ، و صار الموضوع واحدا من دون أي تعارض .
إذا سلمنا بهذا المنحى ، يمكننا التقدم في معالجة موضوع الدولة المدنية أو دولة المواطنة التي يمكن يعيش في ظلها الإنسان بغض النظر عن معتقده و عرقه و لونه و لسانه ! حينها يمكن الاتفاق حول الحد الفاصل بين نافية الأنا و نافية الآخر ، الذي يعطينا ملامح الإنسان الحر ، الذي لا يتسبب ، أو من شأنه أن يكون سببا في حرمان الإنسانية من الأمن و الأمان ، و اختيار المعتقد الذي يريد ، سيما و أن عالم اليوم بات متعطشا لتوحيد الله الذي يسبح بملكوته الكون كله من دون تأخير أو تقديم !
إذا جاز التسليم بمثل هذا المنحى ، يمكن أن نطرح على بساط البحث من أجل النقاش و الإثراء مدلول عبارة ” ديمقراطية ” التي قال بصددها أحد قادة الدولة الأثينية خلال القرن الرابع قبل الميلاد : ” على الدولة الديمقراطية أن تعمل لخدمة السواد الأعظم من الناس ، و أن تطبق مساواة الجميع أمام القانون ، و أن تصب الحريات العامة في هوية المواطن ” .
أعود لطرح الفكرة من جديد ، بناء على ما سبق من مقاربة سؤال القتال ، و مدلول ” التارك لدينه المفارق للجماعة ” . و نحن بصدد ثورة شعبية سلمية متفردة تعيش أطوارها جزائرنا الحبيبة ، حيث يتطلع الشعب إلى استرجاع سيادته المرتهنة منذ زمن بعيد ، أملا في بناء دولة مدنية يسعد في ظلها الجزائريون جميعا ، و زيادة .
و الديمقراطية ، بطبيعة الحال ، ليست دينا منزلا ، ولا هي وليدة النظام الليبرالي الرأسمالي ، و لا النظام الشيوعي الشمولي ، ولا هي الشورى ، ولا الشورى هي الديمقراطية . و يمكن القول أن فكرة ( حكم الإنسان ) أو ( الديمقراطية ) لم تتبلور بالقدر الكافي منذ عهد بريكلاس .
و لعل مقاربة الأستاذ مالك بن نبي لموضوع ” المسلم المتحضر ” الذي أسأل كثيرا من الحبر ، ذات صلة بهذا النقاش .
طرح المفهوم من جديد ، كما يلي :
” الديمقراطية هي سلوك حضاري ينظم نشاط الحاكم و المحكوم في المجتمع على سبيل الإلزام ”
1_ سلوك حضاري ، لأنها من غير المنتظر تحقيقها سلوكا و ممارسات في واقع أي مجتمع إنساني بالمعنى الحقيقي و الصارم ، إلا إذا رسمنا خطها البياني على أساس قيمة تكريم الإنسان وفق ما يعتقده و يؤمن به ، نتيجة تسليم الجميع، يهودا ، مسيحيين، مسلمين ، و مجوس، بعدم كفاية العقل ، و عجزه ، أو قصوره أمام أهواء الإنسان ، مما يقتضي اعتماد أي مشروع ديمقراطي عالم المجتمع الثقافي و عمقه الحضاري ، حيث تصب الحريات العامة في هوية المواطن و لا تتعارض مع فطرته .
2_ سلوك حضاري من حيث الحاجة إلى ضرورة بناء الإنسان المواطن أخلاقيا و عقليا و سياسيا ، فعلى سبيل المثال ، بالنسبة للمسلمين من أجل تجسيد و تمثل الشهود الحضاري : ” و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، و يكون الرسول عليكم شهيدا ” .
3_ سلوك حضاري ، لأنها تنتقل تدريجيا في إطار عملية البناء ، من دائرة السلوك البدائي ، إلى دائرة التحضر ، و من دائرة الاسترقاق إلى دائرة الإنسان الحر فكرا و ممارسة .
4_ سلوك حضاري ملزم ، لأنها تخدم في إطار الدولة ، و المجتمع الدولي ، الإنسان بغض النظر عن دينه و عرقه و لونه و لسانه ، فتقف به حدا إيجابيا فاصلا بين نافيتين ، كلاهما تنفي الشعور الديمقراطي أو تعطله ، ألا و هما : نافية الأنا، و نافية الآخر .
5_ سلوك ملزم ، بسبب عدم كفاية التوجيهات الأخلاقية في مواجهة الأهواء و النزوات النفسية الفردية و الفئوية ، و شتى الانحرافات الاجتماعية .
6_ سلوك حضاري ملزم ، لأن الهدف هو تحقيق مجتمع إنساني صالح ، خصوصا إذا سلمنا بما يلي :
* استحالة الفصل بين الطمأنينة الروحية و اليقظة الذهنية .
* استحالة الفصل بين الحقوق و الواجبات .
* عبثية الفصل بين العدل و الحرية و المساواة .
* الحاجة إلى الردع وةالقصاص كضرورة من ضرورات الحياة .
* التعيين في دائرة إدارة الشأن العام للمجتمع و الدولة ، واجب و تكليف أكثر منه حق و تشريف .
* تثمين القدرة و الكفاءة و الأمانة و الاختصاص كخلاصة لاستثمار القدرات الذاتية و تنمية المهارات و تنويع الخبرات و تفعيلها في عمليات البناء .
* تحرير المجتمعات و الأمم و تحصينها ضد داء الصراعات المفتعلة أو المصطنعة .
جاء في مقاربة البروفسور عبد الحميد : ” الظاهر أن هذه الفتوى تستلهم شرعيتها من التبني التاريخي المطول أكثر مما تستقيه من النصوص ” .
و لعل المتتبع للمسار التاريخي يجد أن التعامل مع النص ، اقتصر فقط على عبارة ” اقتلوه ” ، و المقصود هو من بدل دينه ، لكنهم أخرجوا الكلمة من سياقها التاريخي و حملوها ما لا تحتمل، فحدث فعلا ما سماه الأستاذ بالتبني التاريخي ، فلماذا استبدلنا الصريح بالتبني؟ السؤال كان صريحا ، و دليل ذلك فهم الصحابة ، و دليل الفهم هو التسليم ، و دليل ذلك عدم السؤال بخصوص المضمون.
لقد حمل القوم نص الحديث ما لا يحتمل ، و أخرجوه عن مساره ، مما جعله في نظر الكثيرين متناقضا مع النصر القرآني ، و هذا غير صحيح . و من دون ريب فقد تحول التبني التاريخي إلى ما سماه الأستاذ إجماعا ظاهرا ، و هو كذلك ، لأن الاتباع ظاهر ، أما الباطن فيعلمه الله سبحانه .
و أكثر من ذلك ، هل ثبت أن مؤمنا ارتد عن دينه ؟ يمكن أن يضعف، فتصدر منه معصية أو خطأ ثم يتوب ، و هو حال كثير من المسلمين . و إلا فما قيمة قوله سبحانه : ” قالت الأعراب آمنا ، قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا، و لما يدخل الإيمان في قلوبكم، و إن تطيعوا الله و رسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ” الآية ١٤ من سورة الحجرات .
و لعل التبني التاريخي لسؤال الردة فتح الباب أمام صور أخرى من التبني انطلاقا من دائرة ذات الفتوى ، و أنتجت تداعيات خطيرة باسم الإسلام ، و تأثرت دائرة الفتوى و الإجماع الظاهر ، فلم تعد تفهم ما يدور حولها ، و لم تعد قادرة على الدفاع عن حياضها، ناهيك عن الدفاع عن الصريح من التاريخ بخصوص معالم الإسلام ! و هنا يكمن بيت الداء ، إذ من الممكن أن يتساءل المسلم بخصوص أفعال بعض المنتسبين للإسلام ، الذين يفتحون باب القتل على مصراعيه ، باسم الردة ، و الخيانة ، و ما إلى ذلك ، فيقتلون الذكر و الأنثى جهارا نهارا ، و في غالب الأحيان تكون الصورة من صنع أعداء الإسلام ، الذين رتبوا كل فصول المشهد عن طريق الصناعة الاستخباراتية ، القاتل مسلم ، و المقتول مسلم ، فقط المدبر و المرتب ، و الآمر ، و الناهي ، هو عدو من صنف ” الواحد كألف ” يصعب اكتشاف مساره و حدود نشاطه ! نعم كل ذلك حدث تحت طائلة التبني التاريخي ، الذي يكاد يصبح الصورة الغالبة اليوم ، التي تختفي داخلها أنظمة الاستبداد الفاسدة .
نعم هذا هو المشهد ، و أكثر من ذلك ، لا تستطيع دائرة التبني التاريخي و الإجماع الظاهر فعل شيء ، من باب حكم الذين ينفذون عمليات القتل ، ما حكمهم؟ هل هم مسلمون ، أم هم تاركون لدينهم ، و إذا كانوا كذلك ، هل هم مرتدون يجب قتلهم ! ؟ و من يستطيع فعل ذلك ، هل هي أنظمة الاستبداد المتسلطة ، أم هي الأنظمة الاستعمارية الفاعلة ، أم هو مجلس أمن الأقوياء ؟ لا من مجيب ! لقد عبر عن ذلك أخي عبد الحميد بالقول : ” ألا يمكن أن نكون محبوسين داخل دوامة اجتماعية و ثقافية مزمنة مع تفويض رجعي للمسئولية ؟ يرجى تحمل هذا السؤال ضمن تحليل استفساري صادق ” ! ؟
أبعاد الطابع الاستفساري الصادق :
هو بخلاف دور المقلد الذي يتبنى المواقف و لا يحسن حتى قراءتها، فيزيدها، للأسف الشديد ، قتامة و غموضا . و يلقي بشبهة التأثر بالغرب ، و العمالة له ، في وجه من تسول له نفسه ، مقاربة واقع بواقع ، و فكرة بفكرة ، من باب عدم جواز إثارة ما تم الإجماع بخصوصه ، حتى و إن كان إجماعا ظاهرا ، أو إجماعا من طبيعة التبني التاريخي ، مثل القول بعدم جواز الاقتراب من ملفات في حدود ملف ” معركة صفين ” على سبيل المثال ، عدم السماح بمقاربتها ، حتى على مستوى البحث الأكاديمي المتخصص ، من باب التصدي لقراءة التاريخ الصريحة ، بعيدا عن دوائر التبني التي تقف عاجزة أمام قراءة تاريخنا من قبل مخابر و مدارس و مراكز صناعة الرأي العام على مقاس العالم الغربي الذي سرعان ما تنبطح أمامه أنظمة الاستبداد التي تحكم شعوبنا المسحوقة ، و تتبعها ، للأسف الشديد ، دوائر الفتوى التي توكل لها ، فقط ، مهمة التبرير، لكل سلوك يصدر عن دائرة الحاكم الذي ( يجب ) اتباعه و طاعته ، و لو داس على قيمنا الدينية و الأخلاقية ، و الصريح من التاريخ الذي أجمع بخصوصه علماء الأمة إجماعا لا غبار عليه .
و لا ريب ، فقد ينقلب السحر على صاحبه ، و تعود تهمة التأثر بالغرب و العمالة له ، إلى الدائرة ، أو الدوائر ذاتها التي روجت لها من أجل الوقوف في وجه من تسول له نفسه التفكير بمخالفة خط الطاعة العمياء . و من هذه الزاوية يمكننا التأكد من صعوبة المهمة التي لا تقل أهمية و خطورة عن مهمة الشهود الحضاري ، حيث عبر عن ذلك في حدود موضوع النقاش ، الأستاذ عبد الحميد ، بالطابع الاستفساري الصادق .
المهمة ، ليست بالأمر الهين البسيط ، و الدليل صعوبة تعاطي كثير من مراكز الدراسة و البحث ، على مستوى عالمنا العربي و الإسلامي معها ! من دون ريب ، كيف يمكننا تفسير الهرج و المرج بخصوص إثارة مسائل العرق و اللسان ، داخل حدود بلدان مثل سوريا ، العراق، ليبيا ، و الجزائر ، في الوقت الذي تنعم كثير من الأعراق و الألسن، و المذاهب ، و التوجهات الفكرية ، بكثير من الهدوء و عدم التعاطي، داخل حدود المملكة المتحدة ، أو بريطانيا ، على سبيل المثال ، و ليس على سبيل الحصر ! ؟ من هذه الزاوية بالذات تتضح ملامح الطابع الاستفساري الصادق ، بعيدا عن التبني التاريخي الكاذب !
الخوف من الشرعية الشعبية :
لقد أشار أستاذنا عبد الحميد قائلا : ” لا يستبعد أن يكون الإجماع الظاهري دعمته نشوة الفتوحات و الانتصارات . و التسلط الشمولي عوض ضعف الحجة بالتخويف و التهديد . و لوضع حد نهائي للجدل فرضت الرؤية المتشددة لدوافع شعبوية . و قد يكون الخوف و التهميش وراء عدم بروز المعارضين، و كذلك يتم تغييب المعارضين المعاصرين الذين في أغلبهم لا يردون الحديث ، و إنما يربطون الردة المقصودة بالخيانة السياسية و العسكرية التي يتفق الجميع على حكمها و هو القتل ” .
و لعل الواضح بخصوص الدافع وراء التبني التاريخي الذي مهد تدريجيا باتجاه التموقع على قارعة التاريخ ، بداية بمعركة ” صفين ” و ما تبعها من أعمال و أفعال على خط السلطان ، خصوصا بعد عصر الموحدين ، أو الدولة الموحدية ، كان المستهدف هو الشرعية الشعبية ، حتى إذا بدا المصطلح ، نوعا ما ، غريبا ! الشرعية الشعبية التي يخافها الحاكم المستبد ، و تخيف كثيرا الكهنة ، و حراس المعبد ، هي الشرعية الشعبية التي تفرز ممثلين للشعب من طينة العلماء ، يعيدون الحياة لمبدأ الشورى على خط البناء التاريخي الصريح . هذه هي الشرعية التي غابت عن عالمنا الإسلامي طويلا . لذلك كانت حجة المصطفين على خط السلطان ضعيفة ! حيث استعيظ عنها بالتهديد و التخويف و القتل و السجن و التهميش ، كل ذلك في سبيل التضييق على المعارضين ، قديما و حديثا ، و إلى يوم الناس هذا ! لم يستسغ الحاكم و المصطفون على خطه ، سلمية ثورة الشعب الجزائري ، و لم تستسغها الدوائر الاستعمارية ، ولا الحركة الصهيونية ، و للأسف الشديد دوائر التبني التاريخي ! إنه ببساطة الخوف من الشرعية الشعبية على خط السلمية من أجل الحرية و الكرامة الإنسانية ، في سبيل إعادة الأمل لروح مبادرة الإقلاع الحضاري ، خصوصا على محور طنجة _ جاكرتا !