” السياسة :لغويا يسوس أي يعالج الأمور…، أما اصطلاحاً …مجموعة الإجراءات….الخاصة باتخاذ القرارات من أجل تنظيم الحياة ..، وتضم آليات توزيع الموارِد، والقِوَى، والنفُوذ …، وتختلف الأنظمة السياسية بين دولة وأخرى …، ومدى تطبيق مبادئ الديمقراطية فيها “. (1)
فالسياسة إذا هي خدمة المجتمع حسب الآليات والقوانين التي يحددها ويوكل تنفيذها لمن يأتمنه على أدائها ويضع بين يديه وسائل الإكراه من شرطة وجيش التي تمكنه من حماية القوانين المنظمة لشؤونه الداخلية والخارجية كما تمنحه القدرة على اخذ القرار ، فهي بهذا المعنى تكليف يُختار له وجوبا الأفضل ممن ترشحهم كفاءتهم وأمانتهم؛ وهذا ما تصبوا إلى تحقيقه في العصر الحديث ولو نظريا الأنظمة الديمقراطية بالاختيار الحر لأناس يفترض فيهم التّحلِ بالأخلاق السياسية اللازمة لأداء مهمتهم بأمانة بغض النظر عن قناعاتهم الشخصية والمرجعية الدستورية المعتمدة.
ولكن الواقع غير ذلك، حيث أضحت السياسة مهنة يطلبها الانتهازيون ويزهد فيها الصالحون لان أصحابها غالبا ما يعرفون بالحيلة إلى حد المكر وبالدهاء الذي يعني الخبث والمكيدة، فكثيرا ما نرى رجال السياسة ينقلبون على القوانين أو يسيئون تأويلها بما يمكنهم من فرض إرادتهم على الجميع وذلك أسوأ أنواع الاستبداد . فمن مبادئ السياسة التي تنعت الآن بالواقعية قاعدة ” الغاية تبرر الوسيلة ” للكاتب الإيطالي ماكيافيلي (2) الذي يعتبر المنظر لحكم الاستبداد، حيث يجعل مهابة الحاكم التي يفرضها بالبطش والتخويف، هي ضمان بقائه في منصبه، وليست الثقة ومحبة الناس له الذي يكتسبها بإقامة العدل بينهم والتفاني في أداء الواجب.
إن السياسة بهذا المفهوم المنحرف العاري من الأخلاق هو السمة السائدة في العالم الحالي وبالأخص في البلدان المتخلفة رغم تطور آليات الرقابة والقوانين المحددة للمسؤوليات إلا أنه إذا غابت وسيلة الردع أو ضعفت الرقابة فليس هناك ما يمنع تجاوز تلك القوانين، مصداقا للمقولة القديمة : “ليس الممنوع انك تسرق بل الممنوع أن تكتشف ” . والرقابة ووسائل الردع كثيرا ما تكون من مهام مؤسسات يتحكم فيها السياسيون، فهم من يُعيّنون رجال الأمن والقضاء، مما يجعل الرقابة عليهم عسيرة، ويسهِّل لهم التجاوز إذا كانت نفوسهم ضعيفة وأخلاقهم مهلهلة. ولذلك نجد من السياسيين من يستغلون مناصبهم لمآربهم الشخصية، حتى في الدول المتقدمة مع الفارق أن في تلك الدول يوجد إعلام حر يكشف، وقضاء مستقل يستطيع محاسبة أي مسؤول مهما علا منصبه؛ أما بالنسبة للدول المتخلفة أين يسود الاستبداد فغالبا ما تطغى الِمؤسسات السياسية والإدارية على غيرها وتتحول الوظيفة إلى دفتر تجاري خاص يستعمله صاحبه كيف يشاء، إذا لم يكن ذا خلق، دون حسيب ولا رقيب، وبذلك يستشري الفساد في المجتمع وينخر طاقاته ويعيق نهضته. وقد سبق أن قال الفيلسوف الفرنسي ” مونتسكيو “{ – إنها لتجربة خالدة أن كل إنسان يمتلك سلطة يميل إلى سوء استعمالها – }
إذن فإن القيم الأخلاقية لا تعوضها القوانين الحاكمة بل هي التي تدعمها وتحميها لأنها نابعة من عقائد المجتمع وعاداته، ولما لها من تأثير على حياة الناس وتصرفاتهم. كما أن المجتمعات على تنوع معتقداتها لا تختلف كثيرا في التعريف بالقيم الأخلاقية، ولكنها قد تختلف في سلّم ترتيبها وما دمنا نتكلم عن المسؤولية والتكليف فتعنينا بالدرجة الأولى القيم المشتركة التي لها تأثير مباشر في سلوك الفرد كالعدالة ،والأمانة، والوفاء بالعهد، والصدق ومدى مراعاة تلك القيم في ممارسة الوظائف المختلفة..
بالنسبة لنا كمسلمين يمثل الدين المصدر الأول لتلك القيم ،حيث نؤمن بمبدأ ” لا دين لمن لا خُلق له ” الذي تسنده السنة الصحيحة كحديث « لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ » وحديث »الدِّينُ المُعَاملة« ، فتكون بذلك الأخلاق من تمام صحة إيمان الفرد وكذلك الشاهد على صدق العبادة كما تقرره الآية الكريمة » : إنَّ الصَّلاَةَ تنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والمُنْكَر « فيصبح ظاهر المسلم مرآة لباطنه، فإذا تصرف رجل السياسة من هذا المنطلق بصرف النظر عن مدى التزامه الشخصي بالشعائر الدينية فسوف يعطي حتما نموذجا أخر غير النموذج المعهود في المجتمعات الحالية .
لقد سجل التاريخ الإسلامي فترات مضيئة كانت فيها السياسة متوافقة مع قمة الأخلاق، فكان الحاكم يتحلى بالورع والتقوى في الدين وبالعدل والتفاني في تسييس شؤون المجتمع وبالذكاء والفطنة في التعاطي مع محيطه الخارجي؛ وكان أحسن من مثل ذلك النموذج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي اشتهر بالشدة في الحق والعدل وبالذكاء مع الزهد والتعفف، فقد كان يتفقد بنفسه أحوال الرعية ويخدمها عند الضرورة ونصب عينيه خشية الله والقيام بالواجب ، ومن شواهد ذلك قولته الشهيرة: ” ويلك يا عمر لو عثرت بغلة في العراق لسألك الله عنها لما لم تُمهِّد لها الطريق” ؛ كما ضرب أروع مثال للعدل الذي يفرضه الإسلام في الرعية سواء كانوا مسلمين أو مخالفين في الدين يوم دخل بيت المقدس فاتحًا وحان وقت صلات العصر وهو داخل كنيسة النّصَارى فخرج منها ليؤدي الصلاة في ساحة مجاورة حتى لا يتخذ المسلمون تلك الصلاة ذريعة وينتزعون الكنيسة من أصحابها، وفي هذا اكبر درس للتسامح والوفاء بالعهود.
وقد عرفت الممارسة السياسية في عهد الإسلام قادة كثر يتمتعون بأخلاق فاضلة وكفاءات عالية خاصة خلال الخلافة الراشدة التي يضاف لها عمر ابن عبد العزيز الذي انتقل حين تولى الحكم من مترف كأحد الأمراء إلى شظف العيش بسبب شعوره بثقل الأمانة وما يعلمه من فساد السلطان حينها، فأقام العدل بين الناس ورد المظالم فعمّ الرخاء في عهد خلافته التي لم تدم إلا سنتين، رضي الله عنهم جميعا. إن الحديث عن تجربة الخلافة الراشدة ليس لاستنساخها ولكن للتأسي بها وبأصحابها، فإنها أصلا متنوعة في تطبيقاتها ولكل خليفة أسلوبه وإضافته في وضع الخطوط العريضة لأسلوب الحكم الراشد بحسب توسع رقعة الخلافة ومستجدات القضايا المطروحة على الدولة الفتية ولكن يجمع بينهم جميعا العلم والتقى وكونهم مختارون محل إجماع الرعية ويطبقون الشورى ويخضعون للمسائلة والرقابة بل يطلبونها كما جاء في خطبة أبو بكر حين توليه الخلافة إذ قال: ” أما بعد أيها الناس فإني قد وليت فيكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني،…..، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم.” وجاء عن عمر انه قال من على المنبر : ” أيها الناس من رأى منكم فيّ منكرا فليقومني ” فرد عليه احدهم : ” والله يا عمر لو رأينا فيك منكرا لقومناك بسيوفنا” فطلب منه احد الصحابة التأدب مع أمير المؤمنين فالتفت إليه عمر قائلا ” يا أخي اعلم أنه لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها “. انه من المؤكد أنها لم تكن الاستثناءات الوحيدة في تاريخ الإنسانية الطويل في السعي لتحقيق مجتمعات تسودها العدالة والتعاون منذ حلم الفيلسوف اليوناني أفلاطون بتحقيق المدينة الفاضلة التي يقودها الفلاسفة أي أهل الرأي والفضيلة ولكنها لم تر النور في الواقع، أو كانت منحصرة في فئة من الناس “كديمقراطية أثينا”(2) التي تقتصر على الرجال والإشراف دون العبيد والنساء؛ و في العصر الحديث تطور مفهوم الديمقراطية أي حكم الشعب عن طريق ممثلين تختارهم الأغلبية بواسطة الانتخاب، ووجدت فيه الحضارة الحالية النموذج الأفضل لتحقيق العدالة والتكافؤ في الفرص، ولكن الواقع يبين من خلال التجارب المتكررة أن الصندوق يمكن اختراقه بالمال وانه لا يأتي دائما بالأفضل و الأكفأ، بل يأتي أحيانا بسياسيين عديمي الأخلاق والضمير ولهم من الدهاء والخبث ما يغالطون به الشعوب التي تنجر بجهلها وسوء اختيارها إلى مظالم فيما بينها أو في حق شعوب أخرى وهذا ما نراه يحدث الآن باسم الديمقراطية من ظلم ونهب للثروات ودمار لدول وشعوب ضعيفة على يد الدول الأقوى التي سنت قوانين على مقاسها لديمومة هيمنتها على العالم.
لقد استطاعت التجربة الإسلامية كما سبق ذكره أن تترك بصمتها في ظرف وجيز وتحقق على ارض الواقع نموذج السياسي المتكامل بشقيه الأخلاقي والواقعي (التطبيقي) الأمثل في حينه والذي كانت كل تصرفاته وأوامره ونواهيه خاضعة لأخلاق المجتمع وقيمه المشتركة كما كانت تلك القيم المشتركة تمثل وسيلة رقابة وردع يمتلكها جميع أفراد المجتمع ويستطيعون تفعيلها إذا اقتضت الضرورة؛ ولقد بين المفكر مالك بن نبي رحمه الله انه ” إذا تحطمت وحدة الإنسان إلى كائن أخلاقي وكائن موضوعي (عملي) ستكون نتيجة ذلك انقسام في الأمة وانقسام في الإنسانية ” (3) وهذا ما يؤكده واقع الإنسانية اليوم بسبب انعدام الأخلاق في السياسة والاقتصاد، ما تعاني منه من صراعات طبقية داخل المجتمع الواحد وانقسام العالم إلى دول متخمة بالثراء وتمتلك من القوة ما تستطيع أن تستغل به الثروات الطبيعية والبشرية لدول فقيرة يعيش أفرادها تحت مستوى خط الفقر التي تحدده المنظمات الدولية الخاضعة أساسا لهيمنة الدُّول القوية.
فهل يمكن أخلقة السياسة وإعادة تلك التجربة الاسلامية من جديد وتحيينها حتى تواكب متطلبات العصر ووسائله، ذلك ما سوف نحاول الإجابة عليه في محاولة قادمة إن شاء الله.
الوادي 20/06/2019
د. محمد جاب الله.
(1) مفهوم السياسة :موقع موضوع https://mawdoo3.com مفهوم السياسة .
(2)كتاب الامير للكاتب الإطالي مكيافيلي
(3) كتاب بين الرشاد والتيه لمالك بن نبي: السياسة والأخلاق
(4)أ.طوكفيل :” من الديمقراطية في أمركا “Coloniser Exterminer) ( ” كتاب استعمر وابد”