المراجعة الفكرية من التوبة
المراجعة الفكرية هي نشاط مستمر للعقل البشري عند كل الخطائين وكل بني آدم خطاء. وقبل المجرمين والمفسدين والمشركين يُتوقع أن يكون السباقون إلى المراجعات الفكرية هم خير الخطائين. المراجعة الفكرية هي توبة من نوع خاص مرتبطة بالقيم الروحية والأخلاقية وكذلك بالقيم العقلانية والخصوصيات الذاتية.
الأخطاء لا تعالج إلا بشجاعة الإعتراف والإعتذار وكل الأعذار الأخرى مهما وظفت من تبريرات وآيات وأحاديث لا تغدو إلا أن تؤكد الذنب وربما تكون أقبح.
توبة العبد مستقلة عن غيره، ولذا فإن مراجعات المظلوم لا تشترط توبة الظالم أو إعتذاره.
المراجعة السياسية هي جزء من المراجعة الفكرية وهي التي تعني الشأن العام والتي يجوز بل يجب الخوض فيها علانية. لا يمكن السكوت عن الأداء السياسي لجميع الأطراف لإرتباط ذلك بمصير الأمة وبأزمات باهضة الثمن. إن إنتقاد الأداء السياسي لا يُقصد من خلاله الطعن في الأفراد أو النيل منهم. علينا جميعا قبول النقد البناء وتجاهل الحرج لترقية التميز الفكري وتأصيل اليقظة الجاهزة للمراجعة.
ماقبل وما بعد 1992
تعود جذور الأزمة الحالية في نظر الكثير إلى الاستقلال سنة 1962 والإنطلاقة الشمولية بإنقلاب جيش الحدود على الحكومة المؤقتة. والبعض يربطها بالصراعات أثناء ثورة التحرير أو حتى قبلها. وإذا تابعنا تعمق الجذور فلن تنجو أي حقبة تاريخية من التوريط.
مع تسليمي بإمكانية الوقوع في الإنحياز إلا أنني لا أتردد في الإقرار بأن توقيف المسار الإنتخابي في سنة 1992 هو المنعرج الفاصل، وأرى أن كل من يحاول التقليل من هذا الحدث الباهض التكلفة هو أسير قناعات إيديولوجية أو رهينة أحقاد تجاه فئة معينة.
رغم الإخفاقات الحتمية المرتبطة بتهميش الإرادة الشعبية إلا أن المرحلة ما قبل 1992 تميزت ببناء مؤسساتي لا ينكره عاقل. ويُرجح أن لو تسلم السيد عبد العزيز بوتفليقة الرئاسة في سنة 1978 بعد وفاة الراحل هواري بومدين لكان مساره مختلفا من العشرين سنة من حكمه (1999-2019) التي عمم فيها الفساد والإفساد وأتى على الأخضر واليابس. إن سنوات النار والدمار ومحاربة القيم وتغييب العقل ساهمت كثيرا في تمهيد الطريق أمام فساد بوتفليقة. ولولا جنرالات 1992 لما وصل بوتفليقة إلى الحكم أصلا.
رغم دور بومدين في ترقية بوتفليقة وقدامى الجيش الفرنسي فلا يُعقل تحميله كل أخطاء وأوزار هؤلاء وتموْقعهم بعد وفاته.
إجهاض التجربة التعددية
التناوب الديمقراطي هو نظام الحكم الوحيد الذي يتسم بالضرورة والكفاية، كاف لطمأنة المحكوم من الإستبداد وضروري لمنع تغول شيطان الطغيان المتربص في كل حاكم.
التناوب يصنع ويزيل الأغلبيات، وإذا كان لزاما على الأغلبية إحترام كل الأقليات، لم يعد من التفاهة التذكير بصحة القاعدة العكسية.
لم يهدد أي مسؤول في الجبهة الإسلامية بدفن الديمقراطية بعد الوصول إلى الحكم. لكن بدون شك حصلت إنزلاقات لفظية وشعارات غير مسؤولة في جو عام لا يخلو من التشدد الشعبوي. أنا شاهد على ذلك ولا أتردد في تقديم الإعتذار دون أن أنوب عن غيري. “لا ميثاق لا دستور” شعار سياسي غير مناسب وبإمكانه فعلا ترهيب البعض. غير أن الجريمة تبقى جريمة. عبد القادر حشاني يرحمه الله لم ينوِ أبدا الإنفراد بالحكم والإستغناء على أمثال مهري وآيت أحمد رحمهما الله. وكان بإمكان الرئيس الشاذلي بن جديد تسريحنا بلباقة بمجرد توقيع حل البرلمان.
الجبهة الإسلامية فازت ثم عُقبت وغُيِّبت وتلقت التهم دون أن يُسمع صوتها. ونظرا للثمن الباهض للأزمة فإن بعض الأراء لن تتغير وستموت مع أصحابها. إلى أن تتوفر الشجاعة السياسية والإدراك الجماعي بالقدر الكافي فالأحسن التركيز فقط على االدروس الرئيسية.
تعلمنا بالدماء والدموع مايجب فصله عن السياسة وما لا يجب. إنه غياب المبادئ والقيم، إنها الرداءة والبذاءة، إنه النهب والسلب، إنها الغباوة والبلاهة، إنه داء العشيرة والحاشية، إنه التهميش والإقصاء، إنه الفساد والإفساد، إنها المكيدة والخيانة، إنه كل ذلك الذي يجب فصله عن السياسة وليست العبقرية والإستقامة سواء كان مصدر هذه الأخيرة أخلاقي أو ثقافي أو ديني أو إيديولوجي.
المنافسة السياسية الرفيعة
إحدى مبادرات الخروج من الأزمة الحالية شدت إنتباهي لجمعها أشخاص يعتبرهم الكثير غير متوافقين. بيد أن التقارب الإستثنائي لأولائك الخصوم ليس غريبا لتميزهم بمستوى فكري رفيع.
من أهم الدروس التي يجب استخلاصها من أزمتنا هي ضرورة إحداث نقلة نوعية في مستوى القيادات السياسية. حتى وإن لم يكن كافيا فهذا شرط ضروري لإقناع الجيش بإخلاء المجال السياسي.
الساحة السياسية تشبه مضمارا للسباق يطفو فوق مياه عكرة وعلى المتسابقين توحيد الجهود لتأمين المضمار قبل المنافسة الشريفة. إن ضعف أي طرف سياسي مُضر لكل الطبقة السياسية، وترقية الوهن عوض علاجه هو تخطيط لغرق السفينة. لا تفيد المنافسة السياسية إلا بتأسيسها على قاعدة مشتركة صلبة لتحييد الرداءة والفساد.
التمثيل النوعي يرفع مستوى الأداء التنافسي ويساعد بالنقد الثري المتبادل في إبراز الأخطاء والتخلص من الإختلافات المزيفة، وبكشف وتثمين الأسس المشتركة تتقلص الفروقات بشكل كبير
بعجزها على تجميع الطاقات وتشكيل جبهة موحدة ضد الأخطار الكبرى، القيادات الضعيفة لا يمكنها إلا تجنيد الحيلة والذكاء السلبي للدفع بالفتن والفساد والمهازل.
إعادة الإعتبار إلى التميز، كفاءة ونزاهة، عند كل أطراف الطبقة السياسية هي الوحيدة الكفيلة بتحقيق تصالح الجزائريين. أما النخب المزيفة فإنها لا تعجز أبدا عن إيجاد الأعذار للفشل.
التعايش الإسلامي العلماني
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ” (المائدة 105)
لا الكفر ولا الإلحاد، ولا الفكر المخالف ولا المضاد، عدو البشرية فوق الأرض هو الظلم والإستبداد.
مِن ركائز الوعظ “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ” – “وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (آل عمران 19 و 85)
لكن المرجع الأنسب والأوسع في وسط سياسي متنوع هو : “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة 256). هذه الآية تتوافق مع مبدأ العلمانية الأصلية التي حررت أوروبا من إستبداد الكنيسة، والمناقِضة تمام للعلمانية الفرنسية المعاصرة المحاربة للدين.
ما جدوى الخطاب الذي يُصر أن الشعب كله مسلم وعلى ولي الأمر تنفيذ القصاص في من يتحدى رمضان أو يطعن في الحدود؟ هناك واقع يجعل بعض الأطروحات خشبية. أنا لا أُكفر أحدا وأتبنى التعريف الباديسي “شعب الجزائر مسلم” إلا أنني أُصنف “جايح” كل من يُصر في جدال حاد على أن المجتمع مسلم 100%.
هناك فيئة ترفض التشريع الإسلامي وتقبل قوانين البرلمان. الديمقراطية ليست فلسفة حتى تُتهم بالكفر، هي حكمة بشرية والإسلام السياسي أولى بها لأنه أكبر ضحية للإستبداد. ولحسن حض الجزائر أن مدرستها العلمانية تأثرت بالشرفاء من أمثال حسين آيت أحمد. نحن أمام فرصة تاريخية لمصالحة حقيقية. التعايش الإسلامي العلماني ممكن وليس غريبا أن يعطي بلد الشهداء درسا ثانيا للتاريخ.
صحيح أنه توجد نخب علمانية إستئصالية ولكن بالحكمة ستتقلص أعدادها ويضعف صوتها.
على الإسلاميين الإدراك أن خطابهم لا يخلو من الإقصاء وعليهم التسلح بالعقلانية لتجنب الأخطاء. رجوعا للآية “لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ”. فإن أنزعاجي بضلال غيري لا يعني أني أحرس على ديني، بل يفضح تراجع هدايتي فالأولى بي صيانتها.
الخطاب الإسلامي الإقصائي الذي يرفض الفكر السلمي المخالف يساهم في تبرير الإقصاء الإستباقي المضاد والمؤدي للإستبداد. الحرية للجميع هو الهدف الأول في الدين والدنيا.عدو الفكر ليس الفكر المضاد، إنما العدو المشترك هو الإستبداد.
إلتباس حول الولاء والبراء
يقول تعالى: “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ” (التوبة 71). ويقول كذلك: “وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ” (هود 113)
ما من جناية أعظم من الجناية على مفاهيم ومقاصد الشرع. لا يقاتل المسلم بسبب الإختلاف العقائدي بل لصد عدوان الظالم، كافرا كان أم مسلما. القناعات الفكرية لا تتناحر، إنما عدوها المشترك هو الإستبداد.
جميل أن يجتمع العدل والعقيدة، لكن إذا تعذر ذلك فالعدل هو أساس الحكم. العدل لا يحمله إلا الأقوياء أما راية الدين فقد تقع ظلما وبهتانا بين أيدي ضعيفة ربما إلى حد التواطؤ.
هل هي وسطية حكيمة أم مشهد يدعو للتأسف ذلك النهج الإنخراطي الذي تعتمده نخب إسلامية وهي تزعم أنها تمارس المعارضة وتنتظر التأييد بينما يراها غيرها مجرد أداة لترقيع شرعية الإستبداد وهي راكنة إليه وغامسة في الولاء المبين؟
في التسعينات قيل لأحد المظلومين الذي أشاد بالعلمانيين الذين دافعوا عنه أن المرء يُحشر مع من أحب. كأن نشوة ذلك الواعض المتزين ببذلة فوق مقاسه أنسته الآية: “وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ” (إبراهيم 45).
الإبتلاء السياسي
يُقال أن السياسة فن الممكن وأن الكرسي الشاغر لا يخدم صاحبه. وتُمتحن هذه الحكم حقا في الحالات الإستثنائية حين تقل الخيارات وتضيق دائرة الممكن ويصبح نهج الواقعية السياسية متعارض مع أهم القيم.
القدوة الأخلاقية أو العلمية لا تكفي لصناعة القيادة الراشدة. الشجاعة والشهامة والفطنة أهم الصفات التي تحمي القيم الأخرى وتساعد على حمل الأمانة. يعتبر التمثيل الشعبي من مشجعات حمل الأمانة إذ يُشعِر بروح وثقل المسؤولية، بينما الوصول بالتزوير أوبالكوطات يُمهد الطريق لخذلان الأمانة.
سياسة الإقصاء تضر بمصداقية كل المشاركين وتمتحن صمودهم. المشاركات السياسية في الأنظمة الشمولية غالبا ما تنحرف نحو الإنتهازية متسببة في التصدع والتشتت وصراع الزعامات مع تآكل حتمي في الصورة.
إن إغراء بعض القيادات بمناصب وإمتيازات أبعدت الكثير من الحقل الأصلي. ويُخشى أن يُصبِح هذا السلوك نمطا مقبولا ثم نموذجا منشودا وأخيرا قدوة تتصدر طموحات النخب الصاعدة.
ألا يُعتبر أداء بعض جماعات الإسلام السياسي من أهم أسباب تراجع الصحوة؟ ألا يحترم ويتفهم المجتمع الغياب القسري ويحتقر الحضور المُستكين؟ ألم تصبح جبهة التحرير تعبث بالقيم نِكاية في الإسلام السياسي الضعيف بعدما كانت تدافع عنها كحزب واحد؟ ألا يكون الكرسي العامر في بعض الحالات ضارا للقضية حتى وإن نفع الشخص؟
وإنصافا للكرسي الشاغر يجدر التذكير أن ديغول إستطاع بهذا الموقف الدفاع عن مصالح فرنسا في أوروبا في الستينيات.
الإسلام السياسي يكون بِوزن محترم ومؤثر في القرار السياسي في نظام ديمقراطي حقيقي وإلا الأجدر به أن لا يكون.
الجهاد السلمي والصفح الجميل
إن التسيير المعاصر للمجتمعات بحيث تتميز كل دولة بحدود ثابتة وبجيش قوي موحد يجعل من أي محاولة للخروج على الحكام المستبدين بالعنف مغامرة وخيمة العواقب ومفسدة للحرث والنسل. الإحتجاج السلمي والأخلاقي والمسؤول هو السلاح المعاصر للمطالبة بالتغييرات السياسية وفرضها على الأنظمة الشمولية. يُمكن إستنباط القياس من أول جريمة وقعت فوق الأرض. لم يكن هابيل إبن آدم عليه السلام جبانا وكان لديه كل الحق الشرعي للدفاع عن نفسه ضد أخيه قابيل، ولكنه فضل تجنب الحرب الأهلية القذرة. وكم تهون تلك التضحية النبيلة أمام جزاء الخُلد لِكِلا الأخوين: “لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَإِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِين، فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (المائدة 28-30).
العنف هو وقود الأنظمة المستبدة، وفي غياب القياداة الحكيمة قد تكفي ضحية واحدة كذريعة لإشعال دوامة العنف وإحداث مئات بل ألاف الضحايا.
التطورات والتغييرات الأخيرة تفتح أبواب المراجعات الحقيقية ولا يمكن لأي عاقل أن يتنزه عن ذلك. والضمير الحي لا يطوي الصفحات المؤلمة إلا بعد مواجهتها، والأحقاد لا تذوب إلا بالمصارحة ومواجهة الذنوب، وكم تراكمت ذنوبنا في العقود الثلاثة الأخيرة. يحق ويجب على الكثير من المتورطين في عهد بوتفليقة وفي سنين الدم أن يعتبروا أنفسهم ضحايا البلاء وأن لا يتصرفوا كفاعلين عنيدين.
يبقى خير الخطائين التوابون ولا ملجأ من الله إلا إليه وسعة رحمته تفوق الإدراك إذ تؤلف في لحظة بين الأعداء وتُبدِّل الذنوب حسنات “إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا” (الفرقان 70).
عبد الحميد شريف – بروفيسور في الهندسة المدنية
5 تعليقات
السياق الأقرب إلى مختلف الملاحظات التي جاء بها الأستاذ عبد الحميد تحت طائلة المراجعات ، هو سياق الحركة الشعبية التي تشهدها اليوم الجزائر ، ذلك أن موضوع المراجعات يحتاج إلى تحديد الإطار المنهجي و الإطار الحركي المجتمعي قبل ضبط ما نريده فعلا بالمراجعات و من المراجعات ، و على هذا الأساس يمكننا تجاوز المستوى المفاهيمي بغرض عدم التشويش على القارئ ضمن المجتمع الفيسبوكي ، و مختلف الأطر التواصلية الأخرى التي تتحاشى الإطالة في أي مقاربة نصية ، و من ناحية ثانية بغرض تسهيل مستوى التقارب مع الأستاذ عبد الحميد الذي يميل أكثر إلى أسلوب الارتكاز على ما هو أقرب إلى تلك الصور المتشكلة على مستوى الذاكرة الشعبية الجمعية ، أكثر منه إلى ما تخزنه ذاكرة النخبة في مستوياتها الفلسفية و الايديولوجية المتأثرة إلى حد بعيد بالبناء و التحليل الأكاديمي ، المجرد على وجه الخصوص .
* سؤال مرجعية خارطة ١٩٩٢ ، هو كسؤال مرجعية خارطة ١٩٩٢ ، كما هو سؤال مرجعية خارطة ١٩٥٤، كما هو سؤال الحركة الوطنية ، و حركة المقاومة ، قبل ذلك ، ذلك أن كل محطة وجب أن تأخذ حقها من البحث و الدراسة وفق ما يخدم ذاكرة الجزائريين جميعا .
* لا يمكن التسليم للأستاذ عبد الحميد بخصوص قوله : ” ويُرجح أن لو تسلم السيد عبد العزيز بوتفليقة الرئاسة في سنة 1978 بعد وفاة الراحل هواري بومدين لكان مساره مختلفا من العشرين سنة من حكمه (1999-2019) التي عمم فيها الفساد والإفساد وأتى على الأخضر واليابس ” . لأن السيد عبد الحميد ، لا يمكنه ببساطة ، على سبيل المثال ، تحديد مسؤولية عبد العزيز بوتفليقة بخصوص عملية تسميم الرئيس هواري بومدين التي تمت بشكل مفاجئ و ملتبس كثيرا ! ؟ و من ناحية ثانية ، عن أهلية الرئيس بوتفليقة و مسؤوليته بخصوص مسار حكمه على مدى أربع عهدات ( ٣+١) ! ؟
* الديمقراطية حكمة بشرية ، نعم و هو كذلك ، الأستاذ عبد الحميد ، المسلمون ، كما كل الأمم هي اليوم ، أكثر من أي وقت مضى ، في حاجة إلى هذه الحكمة الإنسانية التي تحدث بخصوص سؤالها ( بريكلاس ) الأثيني خلال القرن الرابع قبل الميلاد ، باسم ضمير الشعب الأثيني الذي كان يتطلع إلى الأمن و الأمان ، و عليه فهي ضالتنا جميعا بغض النظر عن معتقداتنا و أعراقنا و ألواننا و ألسنتنا ، و إذا سلمنا بذلك مبدأيا ، و جب أن نقارب موضوع الديمقراطية من زاوية التحديد البسيط ، على أنها : سلوك حضاري ينظم نشاط الحاكم في المجتمع على سبيل الإلزام ” ، و قد سبق شرح ذلك في مناسبات عدة على مستوى هذا المنبر الحر .خصوصا ضمن سؤال العلمانية بين المدلول و الغايات ، و مواضيع أخرى قريبة من حيث المنهج و السياق . و من دون شك ، فإن مثل هذا التحديد سيجمع أكثر من مدرسة فكرية حول مائدة البناء الديمقراطي السليم .
* يمكننا أن نستعيض عن مقولة : ” الإسلام السياسي ” بمقولة : ” المشروع السياسي للإسلاميين ” ، ذلك أننا مهما قدمنا من تبرير ، لا يمكن حرمان التشكيلات السياسية الأخرى ، كونها ذات مرجعية إسلامية ، يمكن أن تفيد في بناء المجتمعات من مثيلاها التي تحمل شعار ( الإسلاميين ) . و أسأل أستاذنا عبد الحميد : من تكون الفئة المخاطبة بقول الله سبحانه : ” لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ” ؟
* ماذا إذا راجعنا ملف انفصال باكستان عن الهند، بين دور المسلم المؤمن ضمن المجتمع الهندي قبل الانفصال ، و دور المسلم الباكستاني ضمن المجتمعين ، الباكستاني ، و الهندي ، بعد الانفصال ! ؟ بين رؤية فيلسوف الحضارة و مهندس الثقافة مالك بن نبي ، و كثير من علماء الدين وقتها ؟ و هل يستطيع الأستاذ عبد الحميد ، المهندس البروفسور القدير ، أن يشاطرني الرأي : ” الصحوة الإسلامية في حدود المقاربة الحزبية السياسية هي ادعاء أكثر منه دعوة ، و تنظيم أكثر منه نظام حياة ” .
* سؤال السلمية : لم يأت هذا من العدم ، بل هو سؤال أجيال ترعرعت على يد أحرار جمعية علماء الجزائر الذين جالسوا ابن باديس ، الإبراهيمي ، الورتلاني ، العربي التبسي ، … أحمد سحنون ، و كثيرا من الطيبين الغيورين الثابتين . و لا عاقل ، مهما كان توجهه الفكري ، يمكنه تجاهل أو تجاوز الأثر الذي غرسه فكر مالك بن نبي في حدود ضمير الجزائريين ، جيلا بعد جيل . و لعل أطروحات حركة رشاد بخصوص سؤال السلمية ، و اللاعنف دال على مسار هذه المدرسة التاريخية الحضارية المتميزة . و يمكن مناقشة ذلك من خلال سؤال: مبدأ اللاعنف يحكم حتميةالتدافع .
شكرا و السلام عليكم .
بارك الله فيك على الإضافة
كم هو ملفت أن يتواصل المرء مع من يحب من دون أن يحتاج إلى تأشيرة ولا حتى جواز سفر ، كما جرت العادة بغرض عقد ندوة أو ملتقى ، يمكن أن يكلف منظميه الكثير . لعل التأشيرة هذه من نوع خاص ، لأنها تتصل بعمل دؤوب للعقل و الروح على حد سواء ، يمكن أن نطلق عليها تأشيرة الضمير ،و الغرض هو أن نرافق رجل الشعب، خصوصا على مستوى قواعد المجتمع الصلبة ضمن محيطنا الحيوي ، أين يمكن أن نجد ضالتنا و نحن نبحث عن بدائل الوعي البديل ، و من هذا المنطلق يمكن أن يشاطرني الأستاذ عبد الحميد شريف الرأي ، و هو أن أولوية الجزائريات و الجزائريين في ظل ثورتهم السلمية التي تعلمنا منها الكثير ، ليس هو موضوع المراجعات الذي تحتاجه دوما مدارسنا و أطرنا التنظيمية و الوظيفية، و لكن هو الاسترجاع و استرداد أمانة الشهداء منذ أن وطأت أقدام المحتل الفرنسي الغاصب أرضنا الطيبة و الطاهرة السخية ، و لن نختلف ، ولا يجب أن نختلف بخصوصا ، ألا و هو استكمال استقلال البلاد و العباد . و على هذا الأساس وجب التركيز على عمل الضمير في اختيار كلماتنا و شعاراتنا و كل ما يصدر منا في الحركة و السكون. و لعل السيد لخضر بورقعة استوعب الرسالة و أدرك أن الشعب الجزائري على موعد مع التاريخ .
على طريق الاسترجاع
و نحن بصدد الحديث ، رفقة الأستاذ عبد الحميد ، بخصوص المراجعة ، و التفكر بخصوص حاضر الجزائريات و الجزائريين و هم يسترجعون الذكريات برغم سنين الآلام و الجراح ، اتفقنا تقريبا كلنا ، أن أولوية هذا الشعب الثائر ، إنما تكمن في استرجاع و استرداد أمانة الشهداء : ” إخواني لا تنساو الشهداء ” بمعنى الأمانة ، و ليست الأمانة سوى الاستقلال ، هذا هو المطلوب أخي ، أختي ، أبي ، أمي ، أهلي و جيرتي ، و لعل هذا الذي عبر عنه الناخب الوطني جمال بلماضي حينما أدرك أهمية أن يسترجع الفريق الوطني لياقته النفسية و البدنية ، و هذا الذي يجب أن يحفظه كل جزائري ، إن أولوية الأولويات هي عملية استرجاع و استرداد قوانا الروحية و العقلية على حد سواء ، لحيث يصعب على العصابة تغليطنا أو تشتيت تركيزنا من أجل افتكاك تأشيرة العبور إلى بناء دولة القانون و المواطنة رائدة بين الدول المحترمة و المبجلة في عالم بات لا يرحم – بضم الياء – فيه الضعفاء . عاش الشعب الجزائري الثائر حاضرا على و واعيا على طريق استرداد سيادته .
داء الشخصنة
قضيية استرجاع السيادة ، كاملة غير منقوصة ، قضية شعب ، و عليه وجب على كل من يتصدى للمساهمة ، خصوصا على مستوى النخبة ، أن يبتعد عن الشخصنة ، مما يستدعي أن يستحضر معنى و مدلول أن يكون الرجل أمة ، و الحديث قياس ، و لعل الأستاذة ،عبد الحميد شريف ، و عباس عروة ، و رشيد زياني ، و مراد دهينة ، و بن شنوف ، يدركون مدى التأثير السلبي لداء الشخصنة في تناول سؤال الجزائريين على طريق استرجاع سيادتهم ، دليلنا الأقوى في ذلك هو دور و رسالة خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه و سلم و هو يجابه جاهلية أبي جهل و أبي لهب ، و كذلك دور و رسالة سيدنا موسى عليه السلام و هو يجابه كبرياء و غطرسة فرعون ، فما أحوجنا ، و الله ، إلى التماثل للأخذ من هذا الدواء .