انه لمِن دواع الفخر والاعتزاز، وكذلك من أسباب الأمن والاستقرار أن يكون لنا جيش قوي يسوده الانضباط والاحترافية، وهذا ما نأمل بل نحسب انه عليه جيشنا الحالي سليل جيش التحرير الباسل الذي تأسس بسواعد أبناء الشعب بجميع أطيافه يوم لبوا نداء الجهاد لتحرير هذا الوطن الغالي.
كما انه من المعلوم لدى الجميع أن الجيش لم يكن منذ الاستقلال بعيدا عن دوائر السلطة في بلادنا كما هو الحال في معظم البلدان العربية والإفريقية التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار الأجنبي، ويعد ذلك أمر طبيعي جدا غداة الاستقلال، لأنه إبان ثورة التحرير كان التداخل بين العسكري والسياسي شبه محتم ولا مناص منه فأغلب من تصدروا قيادة جيش التحرير لم يتخرجوا من مدارس عسكرية بل كانوا مناضلين سياسيين في الدائرة الضيقة جدا التي يتيحها الاحتلال. وبعد الاستقلال اعتمدت الشرعية الثورية كمصدر للسلطة، قبل بها الشعب أو بالأحرى استساغ لها مبررات، أهمها إجلاله للثورة وكل من انتسب إليها بتقديسه للجهاد حيث يسمي كل مجند في الثورة مجاهدا. كذلك لم يكن للشعب أي تجربة في الممارسة السياسية الميدانية إبان حقبة الاحتلال وكان متعوّدا على أن الحكم شأن من اختصاص “الآخر” المحتل، فما كان له إذًا إلا أن يبتهج ويهلل حين رأى أبنائه يعتلون منابر الرئاسة والقيادة سواء كانوا بالزى العسكري أو بدونه.
كل ذلك كان أمرا طبيعيا ومقبولا غداة الاستقلال لأنه من إفرازات ثورة تحريرية مسلحة دامت أكثر من سبع سنوات وشارك فيها شعب بأكمله، نساء ورجالا، بكل الأعمار ومن كل نواحي الوطن، الأمر الذي جعل من توّلوا الحكم يمثلون جل أطياف الشعب حينها. ولقد استمر هذا التداخل بين العسكري والسياسي في الجزائر ولو بدرجات متفاوتة إلي يومنا هذا. بل إنّ الاعتقاد السائد هو أن الحاكم الفعلي هو الجيش متمثلا طبعا في قادته وله واجهة سياسية يختارها هو كما أشار إلى ذلك احد الجنرالات حين صرح إلى جريدة الأهرام سنة 2004 بان الجيش فوق سلطة الرئيس. إن استمرار هذا الوضع الآن شيء غير صحي وغير طبيعي وإجحاف في حق شعب بكامله بمصادرة لحقه وتعطيل قدراته. كما يلاحظ أن القرار الذي كان موحدا في وقت ما أصبح متعددا وهذا فيه إرباك لمؤسسات الدولة المختلفة وملهاة عن التفرغ للدور المنوط بها وعن تحسين أدائها.
نستطيع القول إذا أن للجيش اليد الطولى في الوصول إلى الحكم أو الإزاحة منه منذ فجر الاستقلال سواء بطريقة مباشرة سنة 1962 حين وصل إليه – بن بله -على ظهر الدبابة ثم – بومدين – سنة 1965 أو بطريقة غير مباشرة في كل المرات الأخرى كتعيين – الشادلي بن جديد – وإزاحته عن المنصب سنة 1992 و تنصيب – بوضياف – ثم المجلس العسكري – أو المجيء – بزروال – أو- ببوتفليقة – الذي عرض عنه الجنرالات الرئاسة سنة 1994 ورفضوا شروطه ثم عادوا اليه سنة 1999 ومقولة الجنرال نزار الشهيرة “انه الأقل سوء “. كما نلاحظ أن خمسة من بين الرؤساء السبع الذين تعاقبوا على حكم البلاد عسكر او من اصول عسكرية.
إنّ الإبقاء على هذا الوضع بعد 57 سنة من الاستقلال يعني إذا أحسنا الظن طبعا، اعتبار الشعب الجزائري غير راشد وعاجز على أن يختار بحرية ووعي من يوليهم تسيير شؤون البلاد، مما يوجب استمرار فرض الوصاية عليه. ومن يعتقد ذلك فإنه يحتقر هذا الشعب ويتجنى عليه ولا يعرف له قدرا. لقد سجل التاريخ مدى صبر وجلد الشعب الجزائري على مقاومة المحتل دون كلل ولا ملل لأزيد من قرن من الزمن تارة بالثورات المسلحة وتارة بالمقاطعة والعزوف على كل ما يأتي منه، وكان بين ثوراته لا يستكين ولا يستسلم ولكن يستعد للجولة القادمة ماديا وفكريا حتى حان وقت ثورته الكبرى سنة 1954 التي باغت بها عدوه وأبهر بها العالم وحرر بها وطنه.
كذلك لا يجوز اعتبار سكوت أغلبية الشعب رضا وقبولا أو استسلاما للأمر الواقع بعد الاستقلال بل هو صبر وأمل في أن يرى نُضْجا وتَبصّرا ومسؤولية ممن انْبرَوْا لحكمه من أبنائه. ولقد عبر مرارا عن عدم رضاه على المنهج المتبع والأساليب المطبقة بطرق كثيرة تصريحا وتلميحا من خلال نخبه النزيهة وبعض رجاله التاريخيين من علماء وسياسيين منذ ستينيات القرن الماضي. ولقد شهدت البلاد هزات عنيفة كانت بمثابة صرخات رفضٍ واستنكارٍ. واكبر دليل على التباين بين السياسات المتبعة وإرادة الشعب يتمثل في عدم انخراطه شبه الكلي في العملية السياسية وذلك بالمقاطعة الواسعة للانتخابات التي نظمت منذ الاستقلال عدى بعض الاستثناءات القليلة أثناء وفترة التعددية الفعلية سنتي 1990-1991.
والآن خرج الشعب على بكرة أبيه شيبا وشبابا وأطفالا، نساء ورجالا في كل المدن والقرى من أقصى شمال البلاد إلى أقصى جنوبها ومن غربها إلى شرقها، يهتف بكل سلمية وتحضر، بشعارات موحدة :- نريد التغيير – نريد الحرية – نريد العدالة –لا للفساد –لا للحقرة – لا للتدخل الأجنبي في شؤوننا. وطفح به الكيل حتى صرخ بكل عنوة : ” يتنحاو قاع ” وهو تعبير قوي وصريح على سخطه ورفضه لكل رموز النظام الحاكم. لقد برهن الشعب منذ 22 فيفري الماضي على انه عازم على استرجاع سيادته وحقه في استكمال حريته. لقد اختار للتعبير عن رأيه الثورة الحضارية والسلمية أسلوبا. ان قوة الحراك الحالي وشموليته يعتبر بكل موضوعية الاستفتاء الحقيقي والفعلي الذي يقوم به الشعب الجزائري لتقرير مصيره، بعد استفتاء 1962 والذي يعد صوريا مقارنة بما يجري الآن لان نتيجته كانت محسومة سلفا باتفاقيات إيفيان.
إن الملايين التي خرجت للشارع يمثل نسبة ¾ منها على الأقل الجزائريين الذين وُلِدوا بعد الاستقلال ولم تعد تحرك مشاعرهم شعارات الستينيات كالشرعية الثورية، ومن الشعب إلى الشعب أو الاشتراكية، او الماضي النضالي ولم تبهرهم التنظيمات الجماهيرية التي يتكئ النظام عليها كالمجاهدين وأبناء الشهداء أو اتحادات العمال أو النساء أو الفلاحين… إن الشباب اليوم يمتلك من الوسائل للإطلاع على ما يجري في العالم من إبداعات وتطورات وما تتمتع به بعض الشعوب من حريات ومساواة وإمكانات، ما لا يعلم ربما حتى بوجودها والقدرة على استعمالها بعض من شاخوا في حكم البلاد عندنا كما هو حال اغلب حكام العرب. انه من أعجب المتناقضات أن تُحْكَمَ الجزائر بذهنية الوصاية والأبوية التي كانت تسود غداة الاستقلال حين كان عدد السكان لا يتجاوز العشرة ملايين (10) نسمة، أغلبهم عاشوا مغيبين عن الفعل السياسي أثناء الحقبة الاستعمارية، وقد بلغ ألان تعداد الشعب الجزائري ثلاث وأربعين (43) مليون، كذلك كانت نسبة الأمية تبلغ 85 في المائة سنة 1962 وهي ألان تقدر بأقل من 10 في المائة. إن نسبة كبيرة من الشباب المنتفضين ذوي ثقافة عالية ومنهم كفاءات علمية ومواهب كبيرة يشعرون بمدى الغبن الذي يلحق بهم كأفراد أولا ثم ببلدهم عندما يُحرَمون من تسخير كاملة طاقاتهم من اجل تطوير أنفسهم وإفادة مجتمعهم. فلن يستطيع النظام القائم منذ الاستقلال وعموده الفقري الذي هو الجيش أن يتبرأ من مسؤولياته المادية والمعنوية في النزيف المستمر للطاقات البشرية للبلاد لتستفيد من سواعدها وأدمغتها دول أخرى.
لقد حان وقت التغيير، وأبان الشعب عن عزيمته في استكمال تحرير وطنه واسترجاع كامل سيادته. وما يُقدّر تلك العزيمة وشرعيتها إلا من ينبض قلبه بالوطنية الصادقة والوفاء لأمانة الشهداء. فهل يدرك أولوا الأمر الرسالة ويسلمون الأمانة إلى أصحابها بطريقة سلسة وآمنة ومُؤمِّنة للجميع. نحن نشاهد بأم أعيننا ما وقع ويقع حاليا من دمار وخراب وانهيار لدول بأكملها وانقسام للشعوب وتحويل جيوشها إلى ميليشيات تتقاتل فيما بينها على عرش خاو، أو تُسخّر كوسيلة قمع للشعوب، وتستعين على ذلك بقوى خارجية. كل ذلك سببه طغيان الزمر الحاكمة المستبدة، وفسادها الذي أصبح يزكم الأنوف وعابر للحدود بحيث يحاكم شركائهم الأجانب في بلدانهم وينعم اللصوص الفعليين بالحصانة في بلادنا. وعن سبيل التذكير لا الحصر نستحضر فضيحتي شركة ” إيني” الايطالية و” س.ن.س لافا لان” الكندية والغسيل التي نشرته الصحافة العالمية حولهما. كل ذلك ناتج عن غياب الحكم الراشد والرقابة الشعبية الذي يؤمنها، حتى أصبحت تلك العصب الحاكمة لا تعير وزنا للشعوب، ولا ترعى المصالح الوطنية. إن من الذرائع الواهية التي تتحجج بها الأنظمة المستبدة كلما طالب الشعب بحقوقه “أنما تحركه أياد خارجية”. والواقع يثبت أن اغلبهم مرتهنون للخارج بطرق شتى، تجعل هذا الأخير يتجرأ على التدخل في أدق أمور السيادة الوطنية، كأن يكون له رأي في اختيار رئيس أو رسم برنامج اقتصادي أو تربوي مثلا (مباشرة أو عن طريق الهيئات الدولية)، وكل ذلك معلوم لدى الجميع ومتداول في وسائل الإعلام الوطنية والخارجية.
أمام كل هذه المآسي والعلاقات المتأزمة بين الشعوب وحكوماتها المعسكرة، فهل يصنع الجيش الجزائري وقيادته الاستثناء ويكتب اسمه في السجل الذهبي للتاريخ بمرافقته الثورة السلمية التي يقوم بها الشعب حتى تُحقّق أهدافها كاملة في بناء دولة القانون والعدالة، على غرار الاستثناء الذي صنعته ثورة التحرير المجيدة حين كانت قاطرة تحرير كثير من البلدان الإفريقية ثم حاضنة وداعمة لثورات شعوب أخرى. نحن نأمل ذلك خاصة حين نرى أن قيادة الجيش تتبرأ من الواجهة السياسية التي صنعتها القيادات السابقة وتنعتها بـ”العصابة”. ولقد عبرت الجماهير عن ثقتها في جيشها حين هتفت بكل عفوية وحماسة ” الجيش، الشعب، خاوة خاوة “. لقد عان الشعب الويلات ولا يزال، من اعتماد الكل الأمني في تسعينيات القرن الماضي لمواجهة مشكل سياسي. وقد تم عنوة تهميش وإبعاد كل العقلاء القادرين على حله سلميا. نرجو أن لا تتكرر التجربة الأليمة وتخرج الجزائر منتصرة بفضل حنكة كل أبنائها. إن الحكم أمانة أمام الله أولا ثم انه أمانة الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم لتعود السيادة للشعب في وطنه بعد ما اغتصبت منه لأزيد من قرن من عدو محتل. فالفخر كل الفخر للجيش إذا انتهز هذه الفرصة التاريخية وتخلص من أعباء تلك الأمانة بصدق وأعادها كاملة لأصحابها ليتفرغ لمهامه العظيمة بكل كفاءة وشرف، وهي حماية حدود وطنه الشاسعة من الاختراق ومقدراته من النهب.
الوادي 13/04/2019
تعليق واحد
هذه رسالة صادقة من “شيخ ” عركته تجارب الفكر والسياسة إلى المؤسسة العسكرية : انتهت مرحلتنا مدنيين وعسكريين ولنسلم المشعل لأجيال الاستقلال . انتهت ريادتنا الفكرية ولم يبق لنا لنا سوى تأمّل خبراتنا بعيدا عن صخب والتزامات أيّ حراك للمحافظة على الروح المعنوية للوطن من خلال الوقوف على السلطة الأخلاقية للمجتمع : تجذير روح التسامح والالتزام وقداسة القيم والقوانين . انتهت الوصاية التاريخية التقليدية للجيش على السياسة مع تحوله إلى الاحترافية أي مهمته التاريخية الأصيلة : حماية الحدود وصدّ أعداء الوطن …