تمر علينا هذه الأيام الذكرى الخامسة للانقلاب العسكري المشؤوم الذي وقع في مصر وما انجر عليه من مأسات وانقسامات وخسائر مادية وبشرية لن تمحى آثارها ولن تستعيد بسببها بعض البلاد استقرارها في المنظور القريب كما هو ظاهر الحال الآن. وقد تُنْسِي الأيام وهموم الحياة أو ملذّاتها البعض أو يتناسوا ما وقع في الدين والأوطان والإنسانية من ظلم واحتقار وتجاوز وغمط للحقوق، فوددت أن أُذكِّر نفسي وإياهم بما حدث وأحاوِل إستخلاص منه بعض الدروس
ولقد كتبت في بداية ثورات الربيع العربي مقالا بعنوان “البعبع الإسلامي” كشماعة تتخذه بعض النخب العلمانية واليسارية للتخويف من الإسلام وأنصاره. فتساوى خطابهم بخطاب الحكام الجبابرة وأصبحوا معا يحذرون ويخوفون من خطر صعود الإسلاميين إلى الحكم على قيم “الديمقراطية ” و” الحداثة ” والحضارة الغربية عموما . واعتقد البعض انه أسلوب سياسي انتخابي ولو ملتوي للدفاع عن وجودهم ككيانات سياسية مجهريه معارضة للسلطة القائمة في الظاهر ولكنها تعرف مسبقا أنها مرفوضة من قبل الشعوب ، وهذا ما أثبتته صناديق الإقتراع في أكثر من مرة ومكان، أتيح فيهما لتلك الشعوب أن تعبر عن رأيها بكل حرية . ولكن لم يكن يُتصور أن تلك المواقف لم تكن شمّاعة بل كانت عداء مستترا للإسلام كدين ولكل من يرفع لوائه. كما لم يكن احد يتخيل أن تلك النخب تبطن للإسلام كل ذلك العداء والحقد الدفين الذي جعلها تنقلب على مبادئ وشعارات الديمقراطية التي كانت ترفعها وتحاجج بها كالتعددية السياسية وحق التداول على السلطة وحرية التعبير وحقوق الإنسان المادية والفكرية…..ولقد أدى بهم ذلك العداء إلى الوقوف بجانب السلطات القمعية التي كانوا يزعمون مناهضتها ومقاومتها بالأمس بل إلى تحريضها ومناصرتها بكل قواهم على الانقلاب على الاختيار الحر للشعوب ولو بالتنكيل والقمع الوحشي والقتل لمخالفيهم .
إن ما حدث في يناير 1992 في الجزائر أولا وفي مصر في 30 جوان 2013 ثانيا من مناشدة العسكر ودعوتهم الصريحة إلى الانقلاب على الشرعية القائمة والديمقراطية التي ينسبون أنفسهم إليها لأكبر دليل على أن لا مبدأ لتلك النخب تثبت عليه وتلتف حوله بجميع أطيافها إلا عدائها للإسلام كدين وكنظام حياة مهما تبجح البعض منهم زورا وبهتانا بانتمائهم لهذا الدين، لأنه من المغالطات التي كنا نسمعها من بعضهم، قولهم ” أنا مسلم ولكني غير ممارس –
Musulman mais non Pratiquant”
لقد عرت كذلك تلكم الأحداث الأليمة طيف آخر ولكنه هذه المرة من منتسبي التدين والرافعين للواء الإسلام . فمنهم من كنا نحسبهم من الصادقين، ومنهم مرتزقة المبادئ والمتاجرين بالدين. التحقوا معًا بركب من كانوا ينعتونهم بالظلامييين من العلمانيين المطالبين بالانقلاب على الشرعية القائمة وتحالفوا جميعا مع العسكر ضد من كانوا يُعتقد أنهم يحملون مثلهم نفس الأفكار ويرفعون نفس الشعارات. ولقد اكتوى البعض بنار أخطائه ولكن يبدو انه لم يزدجر بعدُ. برز من بين ذلك الطيف تحالف غريب بين فريقين تميزا بعدائهما السافر لما يسمي بالإسلام السياسي والذي أظهرت الومضات القليلة من مظاهر الديمقراطية في البلاد العربية انه يمثل بحق اختيار الشعوب. والمعروف الثابت طوال التاريخ أنَّ الفريقين متناقضين ويعتقِد كلٌّ منهما أنّه يحتكر الإسلام الصحيح وأغرى بذلك جمهور من الجهلة والسذج والدراويش. يزعم الفريق الأول أن مفاتيح الجنّة بين أيد شيوخِه كما يدّعي الآخر أن جماعته هي الفرقة النّاجية دون سِواها من سائر المسلمين. ولقد عهدنا الطرفين يتنابزان بالألقاب ويبدّعان ويكفّران بعضهما بعضا منذ انحرافهما عن المنهج الإصلاحي الذي أُسسا من اجله في عهد الانحطاط الروحي والعقائدي للأمة وما اختلط على البعض من خرافات وفلسفات الأمم الأخرى. ومع مرِّ الزمن تحول الطرفان إلى عوامل فرقة وشقاق وتشويش على العقيدة السمحاء بالغُلوِ في إتباع النص حرفيا دون فقه أو دراية عند فريق وبالتقاعس والتواكل على من يبتدع سلوكا أو ذكرا أو قُرُبات يزعم انه خُصَّ بها دون غيره عند الفريق الثاني. ولكن العجيب المحير أن الفريقين المتعاديين والمتناقضين منذ قرون يتفقان في أمر واحد ويبتدِعَان صنما جديدا يدينان به معا في هذا الزمان : إنه موالاة الحاكم مهما كان حكمه أو الطريقة التي أتى بها وعدم جواز الخروج عليه أو انتقاده ولو جار وبغى، حتى أدعى احدهما أن مجرد التفكير في تغييره حرام، كما برّر بعض مشايخه في السابق غزو الكفار لبلاد المسلمين معتبرا إياه قضاء الله وقدره. أمّا الفريق الثاني فقد ابتدع فرية الحاكم المتغلب وجعل طاعته واجبة مهما فعل، واعتبر من ينتقدونه أو يعارضونه من الخوارج تجب محاربتهم ويجعلونها مسبّقة على محاربة اليهود المحتلين لأرض فلسطين كما يدعي صراحة بعض علمائهم.
لقد ظهر إذًا إلى الوجود تحالف ثلاثي جديد متناقض شكلا ومضمونا يتكون من سلطة باغية وعلمانيين “حداثيين” مزيفين وإسلامويين من “المبتدعين وخصومهم “، لا يجمع بينهم شيء إلا عداوتهم الصارخة كلهم لتحكيم دين الحق الذي لا شائبة شرك فيه، ولمعتنقيه الذين يؤمنون أن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة.
إن هذا التحالف اللاّ شرعي واللاّ أخلاقي كان قد يمرر ويحسب من “المِكيافلية ” السياسية لو لم يقع على حساب المبادئ وأشلاء الأبرياء الذين صدّقوا أكذوبة الديمقراطية العربية والتعددية السياسية.
فلن ينسى التاريخ لهؤلاء العلمانيين و كذلك لأدعياء الإسلام المزيفين وقوفهم مع السلطات الباغية والمختطفة لإرادة الشعوب بل دعمهم السافر لها وتحريضهم الصريح على قتل الأبرياء من نساء وأطفال ورجال عزل بدم بارد.
إن ما أحدثته تلك المجازر من دمار في بنية المجتمع وما سبّبّتْهُ من انقسام وأحقاد ما كان ليخطر على بال أحد في الجزائر مثلا حين أعتُقِل غدرا من فازوا في انتخابات عبّرت صراحة السلطة المنظمة لها عن نزاهتها وأُلْحِق بهم عشرات الآلاف من مناضلي حزبهم المعترف به رسميا وما تبع ذلك من تعذيب واختطاف وقتل خارج القانون و تحارب بين أبناء الشعب الواحد لن يمحى من الذاكرة. وكذلك ما رأيناه بأُم أعيننا وعلى المباشر بفضل الإعلام في مصر، من استهداف للمدنيين الأبرياء والمسعِفين لهم ، بالرصاص الحي من قبل قناصة القوات الأمنية والجيش ومن تجريف للجثث والجرحى وحرق الخيام بمن فيها من القصَّرِ والعزَّلِ ، وحصار المساجد وقتل من احتمى بها يذكرنا بما حدث في القرون الماضية على أيد أعتا أعداء الإسلام والمسلمين منذ فضائع محاكم التفتيش المسيحية ضد المورسكيين المسلمين بعد سقوط الأندلس، إلى وحشية جنرالات الاحتلال الفرنسي عند غزوهم للجزائر وما ارتكبوه من جرائم إبادة جماعية للسكان الأصليين وحرق المدنيين من نساء وشيوخ وأطفال داخل المغارات وكهوف الجبال الفارين لها من بطشهم . كما تشبه تلك الفظائع ما نشاهده حاليا من جرائم يقوم بها يوميا الجيش العنصري الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني المحتل وما يقوم به الجيش وميليشيات البوذيين الهمجيين من إبادة جماعية في بورمه ضد مسلمي الروهنجيا المدنيين العزل. ولكن مع الفارق الكبير، لأنه قد يجد المواطن المسلم ما يسلي به نفسه ويمده بالصبر والثبات حين يرى وقوع هذه المجازر الجماعية أو الإعدام خارج القانون وهدم المنازل والمساجد أو التهجير الجماعي على يد اليهود مثلا أو المتعصبين المسيحيين كما وقع في سبرينيتسا في البوسنة ووسط إفريقيا وما يقع للروهينجيا الآن، فيتفهّم دوافع هؤلاء الأعداء التقليديين الذين يستغلون اختلال التوازن الحضاري والقيمي الحالي والتفوق المادي الظرفي للقوى التي ينتسبون إليها فيستعملون أبشع الوسائل لمقاومة الانتشار السلمي للإسلام في كل أصقاع العالم رغم حملات التشويه المنظمة ورغم إساءة السلوكيات المشينة المحسوبة عليه لكثير من المنتسبين إليه. ولكن المسلم يصاب بالذهول والحسرة عندما يرى تلك الجرائم تقع بأيادي أبناء جلدته وبالسلاح الذي من شأنه أن يحميه ويدافع عليه. لقد طالت الوحشية والتنكيل على يد الحكام العرب وزبانيتهم في العديد من البلدان العربية كل شرائح الشعب، دون مراعاة للعمر أو الجنس، كما مست كل طبقاته الاجتماعية من أستاذة جامعيين ورجال دين ورجال أعمال وإعلاميين وفلاحين وعمال بسطاء وموظفين لا لجرائم ارتكبوها في حق البلاد أو العباد إلاَّ أنَّهم أصروا، في مصر مثلا، على الدفاع عن الشرعية التي أفرزتها صناديق الاقتراع الحر ورفض الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب والدستور المستفتى عليه بعد ثورة شعبية كلفت المئات من الشهداء والكثير من المعانات وأطاحت بنظام فاسد مستبد أذلّ العباد وأخر البلاد بنهب ثرواتها وتعطيل قدراتها منذ عقود طويلة.
لقد أكّدت تلك المجازر للجميع مدى العداء السافر للإسلام والحقد الدفين على منتسبيه وحاملي مشروعه من قبل أغلبية تلك النخب العلمانية ومرتزقة التدين الذين لم يتبرؤوا منها أو يرفضوا بشاعتها كما تقتضيه ادني قيم المروءة والكرامة الإنسانية ، بل تبنوها وتفننوا في اختلاق المبررات القانونية الكاذبة والفتاوى الشرعية الباطلة حتى بلغ الصلف بأحد أدعياء العلم أن يقول لسفاح مصر أمام جمع من الضباط والجنود “أضرب في المليان ” أيام كانت المظاهرات الرافضة للإنقلاب على أشدها ، فأفتى بالقتل دون محاكمة وأصبح بالحقد الذي أعماه مشاركا في قتل كل من سقط مظلوما برصاص النظام الجائر .
أما على الصعيد الدولي فقد أثبتت تلك الجرائم زيف ما يسمى بالقانون الدولي وكيله بمكيالين عندما يتعلق الأمر ببلاد المسلمين. كما نستطيع القول أنّ ما ظهر من مواقف وصدر من تصريحات وتصرفات مشينة من قادة وحكام ما يعرف بالعالم المتقدم إثر انتفاضة الشعوب العربية أو ما سمي بالربيع العربي هو في الحقيقة استدراج لمنظومة القيم السياسية والأخلاقية والاقتصادية للحضارة المادية السائدة في العالم الآن والتي يراد جرنا إليها واعتبارها نمط العيش الأمثل والأسمى والنهائي التي وصلت إليه الإنسانية.
لقد عرت الحقائق البشعة التي لم يستطيعوا إخفاءها تلك المنظومة وفضحت زيف قيمها عندما وقف قادتها وعرَّابوها مع الأنظمة المستبدة ضد إرادة الشعوب وتطلعاتها للحرية والنمو . لقد بات من الثابت وقوف بعض الدول بجانب الانقلابيين ودعمهم بالخبرة والرجال لقمع الشعوب المنتفضة كما حصل في الجزائر ومصر. نحن لن ننسى ما صرح به المسؤولون الفرنسيون سنة 1992 من انهم لن يسمحوا بإقامة دولة إسلامية على مسافة ساعة من الزمن من باريس أو جواب أحدهم على صحفي قال له أن انتخابات الجزائر كانت ديمقراطية ، فرد عليه غاضبا ” فالتذهب الديمقراطية إلى الشيطان”
.(Que la Démocratie aille au diable )
أما في مصر فكان موقف الغرب فاضح وغريب حيث انه “لم يتبين ” بزعمه من أن ما وقع فيها إنقلاب عسكري من عدمه . إن ما صرح به أخيرا “خفير سولانا ” – الأمين السابق للحلف الأطلسي – من أن الحلف كان يعلم مسبقا بمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا وأن على الحلف أن يعتذر لها لأكبر دليل على مناهضة الغرب لقيام أنظمة ديمقراطية في العالم العربي والإسلامي عموما وأن تآمره عليها لم يعد مستترا . إن ما كانت ترفعه ” الدول المتقدمة ” من شعارات وما تزعم من دفاع عن الحريات وحقوق الإنسان ما هو إلاَّ ذرّ للغبار في عيون المغفلين ومسلوبي الهوية المنبهرين بالبريق الكاذب لتلك الشعارات . إذًا نستطيع القول اليوم وبكل موضوعية أن المنظومة القيمية للحضارة الغربية سقطت في أول اختبار جاد أوقعتها فيها الشعوب المنتفضة على الظلم والإقصاء وظهرت على حقيقتها محتقرة لها معادية لآمالها . فلن تستطيع بعد اليوم إغراء تلك الجماهير واستهوائهم وهم الآن يعلمون أنها تخلّـت حتى عن حلفائها ومن كانوا محسوبين عليها والمتبنيين لمبادئها من معارضين صادقين للحكام المستبدين . قد يقول قائل إنها بذلك تكون في ظاهر الحال اختارت مصالحها الآنية الضيقة على حساب كرامة الشعوب وحقوق الإنسان كما تقتضيه السياسة بزعم البعض ولكن الحقيقة غير ذلك. الحقيقة هي أن الأنظمة العربية دون استثناء مَلكيّة كانت أو جمهوريّة ما هي إلا مؤسسات وظيفية يتحكم فيها الغرب الصهيو- مسيحي الذي كانت له اليد الطولى في تنصيبها منذ إقامة تلك الدويلات القطرية بعد إسقاط الخلافة وإثر ثورات التحرير من رِبقة الاستعمار ضمن مخطط محكم الحلقات. وكان يجب لاستمرار بقاءها وابتزاز تلك الأنظمة إيجاد معارضة مروضة مثلها وإيهام الشعوب أن هناك تدافع على السلطة وصراع أفكار وبرامج . ولقد تبين الآن وبكل وضوح انه من الأهداف الرئيسية المرسومة لتلك الدول أن لا تقام فيها تنمية حقيقية مادية أو علمية تمكنها يوما من الخروج عن دائرة الوصاية والاستقلال بقرارها. كما انه من المؤكد أن في المخطط حلقات خفية واخطر مما نرى ونعلم. للاستدلال على ما سبق فقط نقارن بين بعض الدول العربية بدول كانت في مستواها الاقتصادي والعلمي تقريبا قبل ستين أو سبعين عاما مع الفارق الكبير في الموقع والمساحة والثروات الطبيعية التي تتميز به تلك الدول العربية . مثلا مصر والجزائر وتونس والمغرب من جانب واليابان و كورية الشمالية وإسبانيا من الجانب الآخر . فنجد أننا أمام عالمين مختلفين تماما هم يسبحون الآن في الرفاه المادي والتقدم العلمي والرشد السياسي حسب معاييرهم، ونحن نسبح في الفساد الذي عمّ جميع مناحي حياتنا السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية كما تُجمع كل التقارير الدولية والمحلية ويصرخُ به حد البِحَاحْ كثيرٌ من الخبراء والمخلصين لأوطانهم من المثقفين . صحيح أن الأوضاع المعيشية للشعوب تحسنت كثيرا عما كانت عليه في عهد الاستعمار، ونحمد الله على ذلك، ولكنها حتمية لا يستطيعون المناص منها لإظهار الفارق وإيهام الشعوب أنها تحررت، وبالمقابل فإن لها سلبيات خطيرة على تعويد الأهالي الانخراط في النمط الإستهلاكى لكل ما هو مستورد من الخارج وتوفير الحد الأدنى للعيش لهم بدون جهد ولا مقابل حقيقي من العمل ما من شأنه أن يفشل كل مبادرة إنتاجية فاعلة وقادرة على المنافسة. وذلك بفضل توزيع فائض الريع الذي توفره الثروات الطبيعية المستنزفة بلا رقيب. إن هذا السخاء المسموم قد طال كذلك أحد اكبر مكاسب الاستقلال وهو التعليم المجاني والإجباري بتمييعه على سبيل المثال بإنشاء جامعات دون توفير الإمكانيات المادية والكفاءات العلمية اللازمة ما ينتقِص من نجاعته وقدرته على التأثير الإيجابي في المجتمع كما يجمع على ذلك المختصون الذين يقرُّون بأن منظومتنا التعليمية تغرق وأن البرامج المسطرة لا تولي أهمية للمستوى كما صرح بذلك أخيرا أحد وزراء التعليم العالي العرب الذي لا يرى فرقا بين الذي يتحصل على 10 في الامتحان والذي يتحصل على 20 وانه لا يعطي اعتبارا لجائزة نوبل يعني للكفاءات .ما يجعل فعلا المنظومة التعليمية عاجزة على ضمان مستوى يؤهل للإبداع والبحث العلمي الجاد بعد التخرج و دون جدوى حقيقية في إمكانية إيجاد نخب منتجة اقتصاديا أو ثقافيا. ومن المؤلم أن المحصلة من كل هذا هو أن النوابغ الذين لا يخلو منهم مجتمع سيفرون من بلدانهم التي لا تضمن لهم إبراز مهاراتهم ومواهبهم وتميزهم ويلجؤون إلى من يوفر لهم ذلك ويسهل لهم سبل البحث الرفيع والعيش الرغيد، إلى الغرب طبعا وقد يكون ذلك أيضا من أهداف المخطط الذي ذكرناه سابقا.
كذلك في المجال السياسي فإنه من ضرورات المخطط أن تتغير واجهة السلطة إذا دعت حاجة المحافظة على الوضع القائم . وذلك ما كان مرسوم له في بداية القرن الحالي لما بدا من الشعوب من تذمر من أحوالها وتوسع دائرة النخب الواعية خارج المنظومة الفكرية السائدة والمتحكم فيها وتأثيرها المتزايد على المجتمع بواسطة وسائل الاتصال الجديدة والمتعددة. فبدأت دوائر القرار تحظِّر لتغيير ناعم للواجهة كما أفادت التقارير خاصة باستعمال وسائل التواصل الاجتماعي وبث شعارات ومطالب محددة تربط بين شرائح واسعة من الشباب والناشطين السياسيين وتوهمهم، حين يقع التغيير المبرمج ، أنهم هم الذين كانوا من ورائه وانه سيأتي بالجديد ….ولكن ما وقع سنة 2011 في الوطن العربي لم يكن في الحسبان وفاجأ الجميع وأظهر لمن كانوا متعودين على برمجة الشعوب والأنظمة لصالحهم أن الأوضاع تغيرت وان الأمور قد تنفلت عن سلطة وكلائهم في المنطقة فقرروا أخذها بأيديهم وكشروا على أنيابهم ولم يعودوا يستطيعون إخفاء عدائهم لتطلعات الأمة العربية والإسلامية في الانعتاق والتحرر من الاستبداد وإملاءات الخارج. وبدل ما تعوّد عليه الغرب من استعمال قوته الناعمة والدهاء السياسي هاهو الآن يستعمل العصا الغليظة بطريقة فجّة ولا إنسانية، ويهدد ويبتز وكلاءه ولم يترك لهم حتى ماء الوجه الذي يقابلون به شعوبهم وفضح خيانة بعضهم وولاءهم التام على المباشر. فأصبحنا نسمع ونرى من الحكام العرب من يصرح بحق اليهود في إقامة دولتهم على أرضهم ويلوم الفلسطينيين عن تضييع فرص السلام أو من يقول إنه لا يسمح بان يهاجم الكيان الصهيوني المحتل على حدوده بل تهجم على القرآن والسنة واعتبرهما تراث يجب مراجعتهما كما أدعى صراحة أن المليار والنصف من المسلمين يريدون إبادة باقي الملايير الأخرى من البشر. كما أصبحنا نسمع من علماء السلاطين قولهم إن اليهود ليسو بأعدائهم .
تلك التصريحات والمواقف تجعل الكثير يشكك في صدق إسلام بعض هؤلاء بل يميل إلى تصديق من يقولون بنظريات الاختراق اليهودي لهرم السلطة في البلاد العربية منذ عشرينيات القرن الماضي وما أشارت إليه تحقيقات صحفية أخيرا. كل ذلك وارد مثل ما حصل للمسيحية منذ نشأتها بشهادة أتباعها وتؤيده هيمنة الصهيونية على كل مفاصل الحياة في الدول المسيحية.
هذا السلوك الغربي المتغطرس والمتجبِّر واللاّ أخلاقي والذي لم يراع للآخرين حقوقا ولا كرامة أيا كانوا لم يعُد صاحبه يتقيد بالمواثيق الدولية وقوانين الأمم المتحدة ونقض حتى الاتفاقيات التي أبرمها مع الآخرين، انه لا يفكر إلا في الحفاظ عن سلطته وامتيازاته. هذا التصرف المختل من قِبل من يمثل ذروة ما وصلت إليه الحضارة الغربية المهيمنة في المجال العسكري والاقتصادي والعلمي، لا يعبر عن قوة حقيقية لتلك الحضارة بل عن ضعف بدأ يدب في أحشائها وخوف من مستقبل يهدد كيانها. فلم نعد نسمع ممن يمثل ذروة تلك الحضارة حديثا عن القيم الإنسانية والديمقراطية والمساواة، أو حقوق الإنسان والأقليات المضطهدة، أو رعاية المهاجرين والمشردين، أو الحفاظ على البيئة التي هم من تسبب في تلويثها بل إن أمريكا أكبر الملوثين تخلت عن بعض التزاماتها السابقة مع منظمة الأمم المتحدة في هذا المجال. كما أصبح العالم يشاهد الصعود السياسي القوي لليمين المتطرف في كل بلدان الغرب وموجات العنصرية ضد الأجانب و “الإسلاموفوبيا” المتزايدة والمبرمجة المتمثلة في المضايقات اليومية للمسلمين والاعتداءات المتنوعة عليهم والتشويه المُمَنْهج لكل ما هو إسلامي والذي بدأ يستهدف بعض الرموز من الدعاة المعروفين في أوروبا بعلمهم واعتدالهم.
تلك هي من جانب السوءات الثلاث التي انكشفت ولم تعد قادرة على خداع أحد إلا المغفلين و الجهلة أو الانتهازيين .
…..يتبع…