مع دخول هذا الشهر الفضيل ونحن نلهث في حوار منهك متجدد لا ينتهي كعادتنا في دول الغرب حول فوارق مواقيت الإمساك بين مدينة وأخرى ودولة والأخرى في أوروبا، هذه الفوارق في المواقيت دوخت أجيال المسلمين وأشعلت بينهم نار الفتنة والاختلاف منذ عقود، نعم جاليتنا لا زالت تتعثر مع كل بدية إشراقة هلال رمضان جديد من كل سنة، وهي فعلا أيام و ليلي تمر فيه جاليتنا بمخاض أزمة مادية و روحية تكدر عليهم صفو الاخوة.. إنها أزمة “الحلال والهلال “، كما وصفها أستاذنا المرحوم الدكتور طه جابر العلواني ، مؤسس المعهد العالمي للفكر الاسلامي في أمريكا.. نعم أزمة مزدوجة، روحية بالنسبة لرؤية الهلال، ومادية بالنسبة للحم الحلال.. نعم أزمة حقيقة غذتها نعرات مذهبية ضيقة و غذاها تشرذم الدول الاسلامية وبعض بارونات الجماعات الاسلامية في الغرب الذين باسم الدين يتاجرون في الدين..
بينما نحن في هذا الحال، رن هاتفي وأتصل بي الأخ الجزائري الدكتور محمد شعبان من فرنسا ليخبرني أن العلامة الجزائري الشيخ الدكتور علي مرّاد ارتقى إلى جوار ربه عن عمر ناهز 87 سنة، في صمت جنائزي إعلامي نادر وقد كان هو وحشد من الجالية المسلمة أدوا صلاة الجنازة على المرحوم، يوم الجمعة الماضية في المسجد الكبير بمدينة ليون الفرنسية أين محل سكن المرحوم منذ عقود، و لا يدري هل يرحل لمسقط رأسه بالأغواط أم لا ؟.
كفاءاتنا العلمية تلتقمهم حيتان الجامعات الغربية
والشيخ الدكتور علي مرّاد عالم موسوعي معروف في عالمنا الإسلامي عموما خاصة للناطقين بالفرنسية أمثالنا نحن سكان دول المغرب العربي، هذا الرجل الذي حفظ القرآن الكريم وهو طفل في كتاتيب الصحراء الجزائرية إبان الاستعمار الفرنسي البغيض، ها هي تلتقمه لمدة عقود الجامعات الفرنسية أمثال باريس عاصمة الأضواء وليون وها هو يرحل ليلتحق أصحابه أمثال الدكتور محمد اركون و محمد شبال و غيرهما مخلفا بصماته في الجامعات الفرنسية خصوصا والدولية عموما.. كان رحمه شخصية رئيسية في الدراسات الإسلامية، ورائدة في الحوار الإسلامي المسيحي في فرنسا. مع رحيله يختفي عالم رائد مشرف ليس فقط لوطنه الجزائر أو فرنسا بل للمجتمع الأكاديمي الدولي بأسره.
أنا لا أزعم أني مطلع على كل تراث المرحوم، إلا أني لم أتعرف عليه إلا في نهاية ثمانينيات القرن الماضي من خلال اطلاعي على بعض كتاباته خاصة منها مقالاته في مجلة “الشاب المسلم” التي كانت تصدرها جمعية العلماء المسلمين في بداية خمسينيات القرن الماضي وجمعها المركز الثقافي الإسلامي علي بومنجل بالجزائر العاصمة، في مجلدين قبل طبعهما في لبنان طبعة راقية فاخرة من طرف دار الغرب الإسلامي، التي غادرنا الأسبوع الماضي مؤسسها التونسي المرحوم الأستاذ لحبيب اللمسي، الذي يعود له الفضل في نشر التراث المغاربي الإسلامي عموما والجزائري خصوصا، واذكر لهذا الأخير فضله علينا، إذ طلبت منه شخصيا في إحدى المناسبات، إمكانية جمع و نشر محاضرات ” ملتقى الدعوة الإسلامية” الأول و الثاني، فرحب بالمشروع وقال لي حرفيا: “كلفوا من الطلبة الجزائريين من يفرغ لكم أشرطة المحاضرات بمناقشاتها وتعقيباتها وأنا مستعد لطبعها لكم ليس فقط مجانا، بل وأشحنها لكم على نفقتي الخاصة من لبنان للجزائر، الكل في سبيل الله خدمة للعلم؟؟”، هذا هو الناشر الرسالي الحبيب اللمسي الذي غادرنا هو أيضا قبل أيام و الذي تعرفت عليه هو أيضا تقريبا في نفس الفترة التي التقيت فيها بالمرحوم الدكتور علي مراد أي في ملتقيات الفكر الإسلامي عام 1986 أو 1988، لا أذكر تحديد..
لولا نسخة مجلة “الشاب المسلم” التي كانت بحوزة الدكتور طالب الابراهيمي لضاع تراث نفيس
كانت حينها، كتابات الدكتور علي مراد في مجلة “الشاب المسلم” بلغة فرنسية راقية اكتشافات جديدة بالنسبة لي، مع أقلام أخرى أرقى أمثال مقالات الكاتب اليساري عمار أوزقان والمفكر مالك بن نبي وزميله حمودة بالساعي وغيرهم كثير ممن كتب في تلك الفترة الاستعمارية الحرجة، ولم يتسنى لي رؤية الشيخ علي مراد إلا مرة واحدة أظن في أواخر ملتقيات الفكر الإسلامي لا أذكر تحديدا.. لكنني أذكر جيدا قصة المجلة، إذ إستعرت مجلدي مجلة “الشاب المسلم” من المركز الثقافي الإسلامي بصعوبة كبيرة و بتزكية أحد مشايخنا، أستاذنا الدكتور الطاهر عامر، الذي كان يشتغل في جريدة العصر والتي تتخذ من ذات المركز مقر تحريرها، لنسخ بعض المقالات قصد توظيفها في بعض مشاريعنا الثقافية كمعارض الكتاب الإسلامي في جامعاتنا، وبعد نسخ أهم ما في المجلة، طلب مني أحد الطلبة من رموز التيار الإسلامي الدولي- و الذي أصبح نائبا ووزيرا بعد ذلك لعدة مرات ومن الوجوه السياسية المعروفة في الجزائر حاليا – للاطلاع على النسخة الاصلية وإرجاعها لي في أسبوع على أقصى تقدير.. لكنه خان العهد واختلسها مني ولم يردها لي وأصبح يعتذر من حين لأخر كل ما طلبتها منه، وسرقها إلى يوم الناس هذا، لست ادري لماذا؟.. ولولا أن الدكتور طالب الابراهيمي الذي كان يملك نسخة أخرى لضاع تراث نفيس كمجلة الشاب المسلم، حسب ما أخبرني أحد أساتذتنا.
من كتاتيب الصحراء إلى باريس عاصمة الأضواء
ولد الأستاذ علي مرّاد في 21 أكتوبر 1930 بالأغواط، على ضفاف الصحراء الجزائرية، إذ كان من الثلة القليلة التي استطاعت في عهد إستعماري بغيض الضفر بتعليم مزدوج، التمدرس في الكتاتيب القرآنية حيث حفظ القرآن الكريم كاملا عن ظهر قلب، والتعلم في المدرسة الفرنسية، درس في كلية الآداب بجامعة الجزائر وتحصل فيها على الإجازة في اللغة العربية في سنة 1954. وواصل دراساته العليا بجامعة السوربون بباريس حيث نال فيها شهادة التبريز في سنة 1956 في نفس التخصص وشهادة دكتوراه الدولة في الآداب في سنة 1968 بعد أن قدم أطروحة حول الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925و1940 وتفرغ بعد ذلك للتدريس والبحث في مجال التاريخ والدراسات الإسلامية، وقد أثمرت كل هذه الجهود فكوّن أجيالا من المختصين في تاريخ العالم الإسلامي وآدابه، وألف عددا من الكتب والبحوث النفيسة، منها: “الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925و1940″، “ابن باديس مفسرا للقرآن”، “نور على نور”، “صفحات من الإسلام”، “مدخل إلى الفكر الإسلامي”، “الإسلام المعاصر”، “السنة النبوية”، “شارل دو فوكو في نظر الإسلام”، “الإسلام والمسيحية في حوار”، “الإمبراطورية العثمانية وأوروبا من خلال أفكار وذكريات السلطان عبد الحميد الثاني”،” الخلافة، سلطة للإسلام؟”
كما أسس في عام 1974 المعهد الجامعي للدراسات العربية والإسلامية في ليون، بعدها أصبح مسؤولا عن تدريب الدكاترة في “الدراسات العربية والإسلامية” في جامعة جان مولان بمدينة ليون، ثم السوربون. بعد ذلك خولت له شهرته العلمية رئاسة معهد “الدراسات العربية والإسلامية” في جامعة باريس الجديدة، فعضو لجنة تحكيم الإجازات وعضو المجلس الوطني للجامعات الفرنسية.
علي مرّاد باحث بين ضفتيْن العلامة
نشرت مجلة “الشاب المسلم” الناطقة بالفرنسية والتابعة لجمعية العلماء في عدد جانفي رقم 23 لهذا العام، مقالا مطولا غاية في الأهمية للأخ الدكتور مولود عويمر، ترجمه للفرنسية الاخ الأستاذ عبد اللطيف سيفاوي تحت عنوان “علي مرّاد: باحث بين ضفتيْن “، حيث ذكر كاتب المقال بلفتات طيبة كثيرا ما نمر عليها غافلين، أن ” المعاهد الإستشراقية المعروفة في الغرب لم تكن ليديرها فقط المستشرقون الأوروبيون، وإنما ثمة مراكز وأقسام للدراسات الشرقية أخرى أسسها علماء عرب أو مسلمون في رحاب الجامعات الأوروبية والأمريكية، وأشرفوا فيها على تكوين أجيال من المستشرقين الأوروبيين والباحثين العرب المختصين في مجال الدراسات العربية والإسلامية، ومن بين هؤلاء الأساتذة البارزين، ذكر:” ألبرت حوراني في إنجلترا، وفيليب حتّي في الولايات المتحدة الأمريكية، وفؤاد سزكين في ألمانيا، ومحمد أركون وعلي مَراد في فرنسا، …الخ”. متسائلا في نفس السياق “هل كانت لهذه البيئة الغربية تأثير على منهجهم العلمي وإنتاجهم المعرفي وعلاقتهم الوجدانية بثقافتهم وصلتهم بمصير أمتهم، أم على العكس من ذلك، استفادوا من الإمكانات المادية والفرص المتاحة لخدمة تراثهم والتعريف بحضارتهم؟ ” مبينا بقوله، “أن الدكتور علي مرّاد يعتبر من أكبر المختصين في الفكر الإصلاحي المعاصر، كما خصص كتبا ودراسات ومقالات لرواد الإصلاح في العالم الإسلامي أمثال: محمد عبده، محمد إقبال وأبو الأعلى المودودي وغيرهم. غير أنه اعتبر الشيخ عبد الحميد ابن باديس أعظم من كل هذه الشخصيات المرموقة.
لا يوجد شخص آخر مثل الإمام بن باديس قد جسد أصالة وعالمية الرسالة الإسلامية
إذ قال عنه الدكتور علي مراد : ” لا يوجد شخص آخر مثل الإمام عبد الحميد بن باديس قد جسد أصالة وعالمية الرسالة الإسلامية. لا أحد مثله أيضا، استطاع أن يذكي، بمثل هذه الطاقة الجمة، العديد من الآمال بالتطور والتكيف مع الأزمة الحديثة”.
مذكرا ببعض مؤلفات علي مَراد ككتابه “الإسلام المعاصر” الذي عرف رواجا كبيرا وأعيد طبعه مرات عديدة، وترجم إلى عدة لغات كالإنجليزية والعربية والتركية والاسبانية واليونانية والرومانية والسويدية… و كتابه “الحركة الإصلاحية في الجزائر بين 1925و1940” الذي يعد مرجعا مهما في تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ولا يضاهيه كتاب آخر في عمقه وتحليله وبنائه واستنتاجاته، ذلك بأن الدكتور مرّاد عاش في أحضان هذه الحركة الإصلاحية، وتعرف عن قرب على رجالها، وقرأ أدبيتها بتمعن، ووظّف المناهج العلمية الحديثة في التعامل مع النصوص والفهم للوقائع ضمن سياقاتها
اهتم علي مرّاد مبكرا بتاريخ الجزائر ومكانة الإسلام في تشريعاتها
اهتم علي مرّاد مبكرا بتاريخ أرض أجداده الجزائر سواء في العصور القديمة أو في الفترة المعاصرة، فقد نشر أول بحوثه العلمية في مجلة حوليات معهد الدراسات الشرقية (الجزائر) في عام 1957 ولم يقتصر الدكتور مرّاد على دراسة الجزائر في فترة الاحتلال بل درس قضايا لها صلة بالدولة الجزائرية المستقلة فقد بيّن على سبيل المثال لا الحصر، مكانة الإسلام في تشريعاتها المختلفة انطلاقا من الدستور الجزائري الذي اعتبر الإسلام دين الدولة..
غادر الجزائر ليستقر نهائيا في فرنسا منذ 46 سنة؟
غادر الدكتور علي مراد الجزائر في بداية السبعينيات من القرن الماضي ليستقر نهائيا في فرنسا منذ أزيد من 46 سنة؟ غير أنه بقي على صلة بوطنه فكان يزور الجزائر خاصة في فترة الثمانينات قصد المشاركة في النشاطات الفكرية والعلمية. منها مساهماته في أعمال الملتقيات للفكر الإسلامي التي كانت تنظمها كل عام وزارة الشؤون الدينية. أما في فرنسا فقد ساهم الدكتور مراد في النشاطات الثقافية والفكرية التي كانت تنظمها الجمعيات الفرنسية في فضاءات عمومية لشرح الرؤية الإسلامية تجاه القضايا المعاصرة المطروحة و كذا احتكاكه ببعض رموز العمل الاسلامي من جيله أمثال الشيخ محمود بوزوزو الذي كانت تربطه به علاقة تاريخ نضال وتراث جمعية العلماء المسلمين. كما أهتم أيضا بالحوار الإسلامي المسيحي، وشارك في عدة ندوات ولقاءات نظمتها المؤسسات الكنسية في مدينة ليون، و نشر عدد من المقالات والكتب مؤكدا فيها حاجة المسلمين والمسيحيين إلى التعارف والتقارب والتعاون خاصة وأنهم يعيشون في مجتمع واحد ويشتركون في مصير واحد، مما يفسر حضور بعض وجوه الفاعلة الحوار الاسلامي المسيحي في جنازته أمثال الفرنسي كريستيان دولورن رفقة الجزائري كمال قبطان.
رزيتنا في الفقيد أننا لم نستثمر جهده كمساجد و كحركة إسلامية
رزيتنا في الفقيد أننا لم نستثمر جهده كمساجد و كحركة إسلامية خاصة بعد تراجع حضوره في السنوات الأخيرة واختفى عن الأنظار منذ عقدين تقريبا، فالتهمه الحوار الاسلامي المسيحي المنهك للجهد والوقت.. لأن للمساجد أهمية بالغة في حياة المسلمين، فهي الزاد الروحي لمسيرة المسلم الطويلة إلى الله تعالى مهما كان وزنه.. لقد كانت المساجد في أيام عزتها ومكانتها منطلقَ المسلمين لكثير من شؤون حياتهم، فمن ذلك أنها كانت جامعة لمختلف العلوم، وساحة للتدريب على مشاق الدنيا، حتى خرجت منها جيوشا من العلماء والدعاة إلى أصقاع الأرض مهللة مكبرة ترفع راية الإسلام السلمية في كل أنحاء المعمورة.. تلكم هي مكانة المساجد وأهميتها، واليوم لا بد من إعادة تلك الأهمية والمكانة إلى نفوس الناس وواقع حياتهم، لكي لا تتكرر مثل هذه المأساة المحزنة.. وما علينا إلا أن نسمو بهممنا، متضرعين لله بقولنا ” لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى”، و “إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ” والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
محمد مصطفى حابس
3 جوان 2017